الهندسة الخليجية... اسمها التقارب العربي

الهندسة الخليجية... اسمها التقارب العربي
        

          على الرغم من أن مجلس التعاون الخليجي قد نشأ وسط لهيب الحرب فإنه نجح في بناء تحالف مع الأسرة العالمية وتصدي للتطرف ونادى بالاعتدال.

          في العدد (533) من مجلة (العربي) الصادر في ديسمبر 2004, كتبت مقالاً عن مجلس التعاون على مشارف ربع قرن, نقلت في ذلك المقال مشاعر القلق, عندما تركت نيويورك عام 1981, التي كنت فيها سفيرًا للكويت في الأمم المتحدة متوجهًا إلى الرياض كأول أمين عام لمجلس التعاون. وذكرت في ذلك المقال أنني حملت معي من نيويورك إلى المجلس درس الإيمان بالقوة كرادع في العلاقات الدولية, فلا حق بلا قوة, ولا صوت للضعيف, ولا عطف للمتوسل, وحملت معي الشعور القلق بأن دول المجلس مستهدفة, وأنها الذخيرة المؤثرة التي تريد دول الجوار (عربًا وغير عرب) الحصول عليها.

          قام مجلس التعاون وسط الحرب العراقية - الإيرانية, التي تصدّرت أولويات عمل المجلس من أجل إنهائها, وتطويق تهديداتها, وإفشال الابتزاز الذي كان يمارسه نظام صدام حسين, كل ذلك في مسيرة طويلة كلفت المجلس الكثير, وعرضت ساحته للإرهاب والتخريب.

          ومع ذلك, نجح المجلس في إثبات عقم الأيديولوجيات, وصار فيما بعد العنصر المؤثر في القرار السياسي والاستراتيجي العربي, كما سيأتي في هذا الموضوع.

          وأشرت في ذلك المقال إلى كوابح دبلوماسية (الأدب الجم) التي لها دور بارز في صياغة السلوك الخليجي, وبالذات في العلاقات الخليجية - العربية. ومن نتائج دبلوماسية الأدب الجم أن الإنجازات التي صنعها مجلس التعاون فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا, وهي إنجازات شمولية في آثارها لم تأخذ حقها, ولم توظفها, دول المجلس لمصلحتها, ولم تبشّر بها إعلاميًا, بعد أن أصبحت - دون تعريف - جزءًا من الحياة اليومية في عالم الخليج وفي عالم العرب.

          ما الذي أنجزه الخليج? وما الهندسة الخليجية التي اسمها التقارب العربي? وما الوسائل التي وظفها المجلس لتحقيق هذه الهندسة? ومَن الذي استفاد من هذا المشروع الخليجي الهندسي? ومَن هم قاعدة هذا المشروع? ومَن يعطيه الشرعية?

          في الخمسينيات والستينيات وحتى نهاية السبعينيات, امتلأت الأجواء العربية السياسية والإعلامية بشعارات فيها إغراء لا يقاوم للبعض, وفيها فزع غير محدود للبعض الآخر, استفادت منها بعض القيادات, وتخوّفت منها قيادات أخرى. ووظفها البعض للتوسع والابتزاز وللهيمنة, وتشييد المجد, وقاومها البعض الآخر لأن فيها إضعافًا لحقوقه وتهديدًا لمجده, وانتقاصًا من شرعيته, واعتداء على سيادته.

          استمعت إلى خطب بليغة عن العروبية السياسية والوحدة, وجلست مع أصحاب هذه الخطب في جلسات أظهرت نياتهم التوسعية وطموحاتهم العدائية, وسخروا وسائل الإعلام لتمجيد حال من الميتافيزيقيا السياسية التي تقترب من الأوهام, وتبنّوا فلسفة الزهد السياسي من أجل تمجيد الوحدة. رأينا ذلك في تجربة سورية مع مصر عام 1958, وعشنا مع المدارس الناصرية التي لا يطربها الزهد السياسي الشامي, وإنما تسعى للاستفادة من هذا الزهد لتعميق أهدافها.

          وتتميز المدرسة الشامية بخصائص أبرزها:

          - الدعوة إلى اقتلاع الدولة الوطنية العربية بحثًا عن الدولة العربية الكبرى الموحدة, والتبشير بمفاهيم قومية فضفاضة, والاستعداد للتضحية لها انسجامًا مع الزهد السياسي.

          - يرافق هذه الدعوة الحالمة الكثير من ثقافة الإقصاء وعدم احتمال الرأي المخالف.

          وإنصافًا للمدرسة الناصرية, لا تشارك مدرسة عبدالناصر مدرسة الشوام آمالها في دولة الوحدة المتوقعة, وهي تختلف في خصائصها, فخصائص المدرسة الناصرية:

          - إبراز الدور المحوري المصري, وتجنيد الإمكانات العربية خدمة لهذا الدور.

          - تأكيد الحق الشرعي للقاهرة في رسم السياسة العربية وفق منظورها وبما يتفق ومصالحها.

          - تطويع الدولة الوطنية العربية للاستجابة لمفاهيم المدرسة الناصرية, والتحرك في فضاء هذه المدرسة, دون إعطاء الاعتبار لمصالح الدولة الوطنية العربية.

          وتلتقي المدرستان الشامية والناصرية في نهج واحد في عدم الالتزام بالضوابط المنظمة للعلاقات بين الدول العربية, والاستخفاف بهذه الضوابط والعمل على اقتلاعها نهائيًا.

          لم تحقق المساعي, سواء من دمشق, أو من القاهرة, الأهداف التي حلم بها المؤسسون, وحل التوتر في العلاقات بين الدول العربية, وبدأ في مصر مع نهاية العهد الناصري تفكيك الأجهزة التي أنشأتها المدرسة الناصرية داخل مصر, في اقتصاداتها, وفي منظورها للعلاقات العربية, وفي تعاملها مع الأسرة الدولية, وفي مناخها الفكري والاجتماعي.

          وأشير إلى بعض مسببات هذه الإخفاقات:

          - قوة الدولة الوطنية العربية وحرص شعوبها على الالتزام بها كهوية وكيان واستقلال ووطن بمصالحه وبأهدافه وبخصائصه.

          - ضعف المحتوى الجاذب لمفهوم الدولة العربية الوحدوية, مع وهن المبررات التي قد تستدعي اقتلاع الدولة الوطنية العربية, ويمكن للباحث أن يستقرئ تجربة الانفصال بين مصر وسورية, ويتمعن في الحماس الفلسطيني للبحث عن استقلال ذاتي, والخلاف الذي رافق التعامل الجزائري - المغربي في قضية الصحراء, على سبيل المثال لا الحصر, لتأكيد هذه الحقيقة.

          - أهلية الضوابط التي تنظم العلاقات بين الدول العربية, وسلامة هذه الضوابط وما تولده من ارتياح في التعامل بين الدول العربية, وحرص الدولة الوطنية على الالتزام بهذه الضوابط, حفاظًا على سلامتها وحريتها.

          - تباين المصالح وتباعد المفاهيم واختلاف المواقع واتساع الجغرافيا, وتعارض السلوكيات.

          - تصادم المدارس الثورية الأيديولوجية مع منهج الاعتدال, وبروز المخاوف والريبة من النوايا الراديكالية.

          - التوتر الدائم في العلاقات بين الثورية العربية, وقواعد السلوك الدولي, وتهديد النهج الثوري لمصالح الأسرة العالمية, في المناطق الاستراتيجية, مثل الخليج.

في مواجهة الأعاصير

          - يمكن القول إن المدارس الثورية العربية استخفت بعمق الجذور التي تتماسك عبرها الدولة الخليجية, وبالرغم من التدخلات والعنف الإعلامي, وتوظيف آليات الاضطراب, بقيت الدولة الخليجية, وتلاشت مدارس الثورة بسبب إخفاقاتها, بينما تمكنت الدولة الخليجية من تحقيق نجاحات باهرة, فقد أنشأت الدولة الخليجية حتى قبل قيام مجلس التعاون برنامجًا ضخمًا حقق ما يلي:

  • البناء الاقتصادي التنموي, الذي يمتد من سواحل الخليج إلى أقصى حدود المغرب وموريتانيا, عن طريق تشكيلة هائلة من الضخ المالي تتمثل في - كمثال وليس الحصر - صناديق التنمية/الكويتية, السعودية, الإمارات, صندوق التنمية العربي ومؤسسة النقد العربي وأجهزة أخرى للمساعدات.
  • المساعدات المباشرة من حكومات الخليج سواء داعمة, أو هبات لا تسترجع, أو ودائع بسيطة العائد, مع فترات سماح طويلة.
  • الاستثمارات الخليجية التي تجاوزت الحدود, ولننظر إلى مجموعة الخرافي في مصر التي ذهبت إلى الصحراء والمناطق النائية, كمثال لما تعمله الشركات السعودية والكويتية والخليجية داخل العالم العربي.
  • التبرعات من جمعيات ومن الأفراد.
  • تحويلات الجاليات العاملة في الخليج.
  • الوجود المكثف للجاليات العربية في المنطقة.
  • اتساع الثورة التكنولوجية التي ساهمت شركات الخليج في استيرادها ودورها في اختزال الجغرافيا.
  • اختصار المسافات داخل كل دولة عربية بسبب الدور الخليجي في بناء البنية التحتية.
  • السياحة الخليجية.
  • انفتاح الأسواق الخليجية للتجارة البينية دون قيود.

          ومن أمثلة الآليات التي حققت الكومنولث العربي التنموي, الذي بناه مجلس التعاون بقروض سهلة من صندوق التنمية الكويتي, حسب إحصاءات عام 2004, أن القروض التي قدمها لكل من الدول العربية التالية: مصر والمغرب وسورية والسودان وتونس واليمن بلغت ملياراً وثمانمائة وأربعة وثمانين مليون دولار.

          أورد ذلك كأمثلة فقط للمجرى المالي الذي بنته الدولة الخليجية.

ما نتائج هذا البناء التنموي?

          - التشابك المصلحي بين الدول العربية, ليس عن طريق الشعارات, وإنما بواسطة حقائق الحياة وتقريب الأهداف والتقارب في المنافع الاستراتيجية.

          - بناء طبقة متوسطة لها دور في الإسهام في بلدانها, تنمويًا وسياسيًا واجتماعيًا, بعد أن قضت المدارس الثورية على هذه الطبقة في بلدانها, وساهمت دول الخليج في إحيائها.

          - مع تعاظم دور الطبقة الوسطى, تكبر الدعوة نحو الديمقراطية والانفتاح وولادة المجتمع المدني, ودور الرأي العام في صوغ القرار, والإصرار على المحاسبة وحرية الرأي وتداول السلطة.

          - انتشار الوعي الانتمائي العربي العام, دون تجاوز الأصل الوطني لهذا الانتماء.

          - اتساع الترابط الثقافي, وتعاظم دور الثقافة كرافد للمشروع التنموي.

          - ضخ الاعتدال في التعامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخل الدولة الوطنية العربية, وتبني الوسطية والابتعاد عن المصطلحات الثورية الحادة.

          وتقبل الواقعية في التعامل داخل الوطن.

          - تأكيد القواعد التي تتحكم في العلاقات العربية, والاعتراف بإخفاقات العمل على اقتلاعها والسعي لاستبدالها بقواعد التبعية.

          - استعادة الثقة والاطمئنان في السياسات العربية, وتسيد الارتياح في التواصل بين العواصم العربية.

          - الجنوح نحو الاعتدال لحل القضايا العالقة مثل فلسطين, جنوب السودان, وتدني المساهمة الثورية في حل هذه القضايا, وتبقى مع ذلك معلقات في العلاقات العربية مثل الصحراء الغربية, لا علاقة لها بالانحسارات العقائدية, وإنما هي خلافات لمسببات استراتيجية في تلك المنطقة.

          ونشير إلى جنوب السودان الذي ينتظر إسهامات خليجية للتنمية, وكذلك ينتظر عهد أبو مازن في فلسطين الذي يعتمد على دعم دولي - خليجي اقتصادي للاستمرار.

          وعلينا الاعتراف بأن المرحلة العربية الحالية أفضل كثيرًا مما كانت عليه في السابق, وأن العرب اليوم أقرب إلى بعضهم مقارنة بالماضي, بعد أن ودّعواالتطرف الأيديولوجي.

          لكن تبقى مشكلة (الإرهاب) التي ساهمت بعض الأيديولوجيات السابقة في خلقها, في عصر السجون والتعذيب. والإرهاب عدو الاعتدال, ويعمل على تقويض البناء الواعد, الذي ساهمت في ولادته دول مجلس التعاون, والذي يجب أن تعتبره دول الخليج أمانة في عنقها في المحافظة عليه, وفي ترسيخه ونمو فعاليته.

          والخلاصة أن واقع اليوم يتميز كثيرًا عن حال الأمس, نرى تنمية, ونرى تبادل مصالح مع رجاحة عقل وانفتاح.

          علينا الاعتراف بالدور البارز للمشروع الخليجي فيما تشهده الدول العربية الآن.

 

عبدالله بشارة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات