ملف إدوارد سعيد: حوار مع شقيقة المفكر إدوارد سعيد

ترجمة: أمير الغندور

في هذا الحوار تلقي جين مقدسي، شقيقة إدوارد سعيد، أضواء على طفولة شقيقها ونشأته بين القدس والقاهرة، وضهور الشوير بلبنان، حيث اعتادت الأسرة أن تصطاف كل عام. وفي هذا الحوار ما يدحض الرواية التي روّجها بعض الباحثين اليهود حول أن إدوارد سعيد لم يكن فلسطينيًا يومًا، ولم يعرف القدس التي يقول هو إنه وُلد فيها. في ما يتعلق بهذه النقطة، تقول جين مقدسي إن والديها كانا قد رُزقا قبل إدوارد سعيد بولد وُلد ميتًا. وقد نسبا ذلك إلى كون الأم قد وضعت ولدها هذا خارج القدس، فلما حملت بعد ذلك أصرّ الوالدان على أن تكون ولادة ولدهما القادم في القدس وليس خارجها، وهذا ما يؤكد الروح الوطنية المتوارثة في الأسرة، وكون فلسطين مقيمة في القلب وفي الضمير.

 تروي جين مقدسي، زوجة الدكتور سمير مقدسي رئيسة الجامعة الأمريكية في بيروت صورًا عن نشأة إدوارد والقيم الروحية والإنسانية التي حكمته منذ شبابه الباكر. وتقول إنها تعتقد أن انحيازه للقضية الفلسطينية «يحمل من التجرد الأخلاقي والعدالة الإنسانية أكثر بكثير مما يحمل من مجرد الانتماء القومي وكان حريصًا على متطلبات العدالة ليس فقط في ما يتعلق بفلسطين، بل في ما يتعلق بأي منطقة أخرى في العالم».

ويشكّل الحوار بمجمله شهادة حميمة حول مفكر عربي كبير وهب حياته للعلم والثقافة، كما لقضايا التحرر في العالم قاطبة. وقد كان لصوته الفلسطيني الذي ارتفع في الأندية العالمية، على اختلافها، صدى بالغ في قلوب وضمائر الأحرار والشرفاء في كل مكان. ومن أجل فلسطين لقي ما لقي من اضطهاد اليهود من أمريكيين وغير أمريكيين.

وهذا هو نص الحوار مع السيدة جين مقدسي.

  • كتب كثيرون عن المفكر الكبير إدوارد سعيد وقدموا شهاداتهم عن حياته وشخصيته.

- في الواقع، أنا أكتب حاليا مقالاً طويلاً باللغة الإنجليزية عن إدوارد وأتعشم الانتهاء منه قريبا. ولست في حاجة لأن أقول بأنني عندما أشرع في التفكير في إدوارد وعندما أكتب عنه فإني غالبا ما أركز على طفولتنا وكذلك على مراحلنا العمرية معا عبر فترة المراهقة، عندما كنا لانزال نحيا في كنف والدينا في القدس وفي القاهرة ولبنان. كان إدوارد يكبرني بعدة أعوام، ومازلت بالرغم من مرور الزمن أنظر له باعتباره أخي الكبير. ذلك الشخص الذي علّمني الكثير وكان لي بمنزلة النموذج الأمثل للرجولة. فقد كنا أربع شقيقات وكان هو الأخ الوحيد لنا. ولما كان هو أيضا الأكبر سنا بيننا، فلك أن تتخيل كيف كان حجم تأثيره علينا. ولكنه بالرغم من ذلك كان يبدو بعيدا عنا، حيث كانت له حجرته الخاصة بينما كنا نحن نتشارك غرفة واحدة فيما بيننا. كما كانت له أنشطته المختلفة عن أنشطتنا. ولذا شعرنا بأن مسار حياته كان يتجه نحو مصير مختلف عنا.

عندما تزوجت انتقلت مع زوجي د. سمير مقدسي للولايات المتحدة، حيث عشنا لفترة من الزمن في ولاية فيرجينيا قرب واشنطن حيث مقر عمل زوجي. وأثناء هذا الوقت كان إدوارد يكتب أطروحته للدكتوراه في جامعة هارفارد. وكان قد حصل على شهادة البكالوريوس في جامعة برين ستون وكنت أذهب لبوسطن لزيارته أو كان هو يأتي لواشنطن لزيارتي واحتفظنا بعلاقة وطيدة جدا. ثم تزوج بعدي بشهور قليلة من إحدى زميلاتي بالجامعة. وعقب ذلك بفترة قصيرة انتقل إلى نيويورك حيث التحق بكلية في جامعة كولومبيا واستمر فيها بقية حياته. وخلال هذه الأثناء كنت قد أنجبت أطفالي وكان يزورنا مرارا ليراهم وكان يتمتع بروح تحب المرح ما جعله يستمتع باللعب معهم فأحبوه للغاية وتطلعوا لرؤيته. وبمرور الوقت أصبحت أراه بشكل أقل، حيث بقي هو في الولايات المتحدة وانتقلت مع زوجي إلى بيروت في العام 1972 وبقينا هناك منذ هذا الحين. وعندما نشبت الحرب تعذرت الاتصالات وانقطعت خطوط الهاتف وتوقف البريد ولم تكن ثورة الاتصالات التي ستغير حياتنا قد بدأت وقتها بعد. وعندما مرض كنت أصر على زيارته مرارا وكان هو يبادلني الزيارة عندما تهدأ الأمور في بيروت حيث كان يحضر مع أسرته. لقد توفي في 2003 وكنت قد علمت منه بتدهور صحته خلال مكالماتنا الهاتفية الأخيرة، ولذا كنت قد قررت زيارته لكنه توفي بينما كنت على متن الطائرة في طريقي لنيويورك لزيارته.

  • لقد اتهمه بعض الإسرائيليين ذات مرة بأنه ليس فلسطينيا حقيقيا. وقد كتب في مذكراته أنهم وجهوا له هذا الاتهام لكي يزعزعوا مصداقيته. وكان هدفهم هو محاولة هز الثقة في حديث الفلسطينيين عن حق العودة.. فهل أنتم حقا عائلة فلسطينية؟

- بالطبع نحن عائلة فلسطينية. وقد كتب سعيد وأنا بشكل مكثف عن تاريخ عائلتنا في مذكراتنا. فوالدي، وديع سعيد، مولود في القدس وكذلك كل من والديه. فوالده إبراهيم سعيد ووالدته «هنا شماس» كلاهما من القدس وكان جدي لوالدتي من مواليد صفد، بينما والدتي مولودة في الناصرة وجدتي لوالدتي من مواليد حمص، وكان والدها هو أول قسيس بروتستانتي عربي. وجاء في الأصل من الشوير في جبل لبنان. وقد ولدت أنا في القدس كما ولد إدوارد، بينما جاءت ولادة بقية أخواتنا في القاهرة وقد تزوج والدي في الناصرية ثم ذهبوا ليعيشوا في القاهرة حيث عمل والدي على توسيع الأعمال التي كان يمارسها مع ابن عمه بولس سعيد في القاهرة. وكان اسم هذه الأعمال في القدس هو شركة فلسطين التعليمية وكانت معروفة جدا في فلسطين وبخاصة في القدس وكان لها فرع في يافا، وسافر والدي للولايات المتحدة خلال تلك الموجة البشرية التي ذهبت إليها خلال السنوات المبكرة من القرن العشرين، حيث أصبح مواطنا أمريكيا خلال الحرب العالمية الأولى، حيث التحق بالجيش الأمريكي وكانت فترة خدمته في فرنسا ولكنه عاد لفلسطين بعد الحرب. وبالرغم من أننا عشنا أغلب الوقت في القاهرة إلا أننا كنا دوما نقضي الصيف في القدس، بل وقضينا هناك سنة دراسية. ويعيش كل عائلة والدي وإخوته وأخواته وأبناء عمومته وأصدقائه في فلسطين، أي أن القدس كانت وطننا وملجأنا الذي نأوي إليه، ونقطة تطلعاتنا وأملنا في المستقبل.

قبل مولد إدوارد، كانت أمي قد ولدت ولدا قبله، لكنه وُلد ميتا. وهذا جعل والديّ يشعران بأن سبب هذه الكارثة هو أن عملية الولادة تمت بعيدا عن القدس. ولذا فعندما أصبحت والدتي حاملا بعد ذلك، أصرا على أن تتم الولادة في القدس. وهناك تمت ولادة إدوارد في بيت العائلة حيث كانت العائلة والأصدقاء يحيطون بوالدي وقد كتبت عن كل هذا بتوسع في كتابي: «تيتا ووالدتي وأنا: ثلاثة أجيال من نساء العرب».

  • قرأت في ذات مرة أن سعيد درس في فيكتوريا كولديج في الإسكندرية؟

- الصحيح أنه درس في فيكتوريا كولديج في القاهرة.

  • يبدو أن مسألة المكان والوجود في المكان هي مسألة لعبت دورًا محوريًا في حياة إدوارد سعيد؟

- نعم. أظن أن هذا صحيح. كذلك فإن تعلم إدوارد سعيد في فيكتوريا كولديج بالقاهرة وكذلك في القدس جعله يمتلك خلفية متينة في ما يخص اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي وكذلك التاريخ والثقافة الغربية بشكل عام. ولكن في الوقت نفسه كنا بالطبع نشعر بشكل واع بأننا عرب وفلسطينيون وعشقنا مصر ولبنان، وبذلك تكونت لدينا طبقة مزدوجة من الوعي الثقافي. كذلك فإن حقيقة أننا نشأنا خلال فترة مقاومة الاحتلال الإنجليزي في مصر، وكذلك الوضع الفلسطيني الذي عشنا فيه، كل ذلك جعلنا ندرك طبيعة الإمبريالية والضرر الذي تسببه للشعوب.

لذا فإن هذا النمط من الإدراك المزدوج لدى إدوارد وتعليمه في أفضل الجامعات الغربية وفي نفس الوقت وعيه المباشر من تاريخه المعيشي وتجربته الحياتية في العالم العربي، كل ذلك جعله مفكرا على درجة كبيرة من التنوع والتعدد المعرفي. وكان إتقانه للغة الإنجليزية ومعرفته بالثقافة الغربية قد دعمهما فهمه للعالم بشكل عام، وللثقافة والتاريخ العربي أيضا. ولذا لم تكن معرفته بالأدب أو الموسيقى مقتصرة على جانب أحادي أبدا، بل كان يدرك أن هناك بعدًا آخر مختلف في كل شيء مكتوب أو ملحون.

  • متى غادرت عائلتكم مصر؟

- انتقلت عائلتنا من القاهرة إلى بيروت العام 1962 أي بعد عشر سنوات من ثورة 1952 في مصر وخلال هذا الوقت كان إدوارد سعيد بصدد إنهاء أطروحته للدكتوراه في جامعة هارفارد، وكنت أنا أعيش مع زوجي في الولايات المتحدة.

  • هناك أوجه عديدة في شخصية إدوارد سعيد: الأديب والناقد والباحث والمفكر والمؤرخ وكاتب السيرة الذاتية، وبالإضافة إلى كل ذلك هناك الناشط السياسي.

- أحسب أنه يوجد نمطان من التأثير في تفكير إدوارد سعيد: يتمثل الأول في تعليمه الأكاديمي في اللغة الإنجليزية والأدب الغربي والموسيقى، والذي تحصل عليه من المدارس التي ارتادها في مصر وفلسطين والولايات المتحدة. ويتمثل التأثير الثاني في تجربته المباشرة في السياسة والتاريخ، فقد عاش فترة التاريخ المعاصر للعالم العربي بكل درجاته ومشكلاته الإمبريالية، بالرغم من معاصرته أيضا لنمط الحياة بشكل معيشي في أمريكا وأوربا. وكانت معرفته المباشرة بكل من هذين العالمين المختلفين سببا في فهمه لتعقيدات التاريخ والسياسة، كما ساعدته على التفكير عبر هذه التعقيدات.

فقد آمن سعيد بأن الأدب لا يمكن قراءته أو فهمه بمعزل عن العالم الفعلي، بل باعتباره مظهرا له. وقد آمن أيضا بأن كل قارئ وكاتب يقوم بإحضار تجربته الخاصة مع العالم الحقيقي إلى الأدب.

  • ما هي في رأيك العوامل التي صنعت إدوارد سعيد وأثرت فيه بشكل أكبر من غيرها؟

- كما قلت، فإن حياته في فلسطين ومصر ولبنان والولايات المتحدة، وأيضا زياراته المتكررة لأوربا وأخيرًا زياراته للهند وإفريقيا وتعليمه الذي انخرط فيه منذ نعومة أظفاره، ومعرفته ومعاناته من العنصرية التي شعرنا بها أثناء تعليمنا على يد المعلمين الإنجليز وبخاصة في مصر، كل هذا قاده إلى إدراك طبيعة الإمبريالية وكذلك إدراك زيف كثير من التاريخ الذي يتلقاه الصبية والطلاب في المدارس والجامعات. وكانت الصهيونية بالطبع أحد هذه الأشكال العنصرية التي تعامل معها في مراحل حياته. وبالرغم من أنه خاض التجربة الفلسطينية باعتباره طفلا، فإن نظام التعليم الإنجليزي الذي شكل عقولنا في مصر حرص على تعلمنا التاريخ والأدب والثقافة في أشكالها الإنجليزية، دون أدنى اهتمام بتعليمنا التاريخ والأدب في أشكالهما العربية والإسلامية. وقد كنا على دراية بهذه الازدواجية منذ نعومة أظفارنا.

وقد أصر والدانا على تعليمنا اللغة العربية في المنزل، لأننا كنا في المدرسة نتلقى أغلب المواد الدراسية باللغة الإنجليزية.

لقد تربينا في عائلة متدينة للغاية، حيث كان للأخلاق دور محوري في تنشئتنا. وكان والدانا يصران على تعليمنا مبادئ العدالة والنزاهة، رغم صغر سننا. فعندما كنا نتشاجر مع بعضنا كان والدانا ينحازان للطرف صاحب الحق في الشجار. وكانا يصران دوما على دفعنا للتفكير في عدالة المواقف التي نتخذها تجاه بعضنا بعضا. وأظن أن هذا النمط من التنشئة قد أثر بشكل كبير على إدوارد كلما تقدم في السن.

فقد كان موقفه نحو فلسطين يحمل من التجرد الأخلاقي والعدالة الإنسانية أكثر بكثير مما كان يحمل من مجرد الانتماء القومي. كما كان يحرص للغاية على اعتبارات العدالة ليس فقط فيما يخص فلسطين، لكن أيضا في ما يتعلق بأي منطقة من العالم. فقد أيد بشدة الحركة المناهضة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والحركة المناهضة للتمييز ضد السود في الولايات المتحدة، والحركة المناهضة للحرب على فيتنام، فقد ساند دوما من يكافحون من أجل العدالة. كذلك أدت تنشئتنا إلى تنمية الوعي لدينا بضرورة مساعدة الفقراء ومراعاة الآخرين ذوي الظروف الأقل حظا منا، فقد كنا نتعرض للعقاب دوما إذا ما كذبنا. كما تعلمنا ألا نلجأ إلى العنف أبدا، بل وأن ندير «الخد الآخر» إذا ما تعرضنا للاعتداء. وأنا أعتقد أن كل هذا كان له تأثير مباشر على الفلسفة السياسية لدى إدوارد سعيد، بالرغم من أنه لم يتطرق إلى مناقشة هذه المسألة كثيرا.

  • هل كان يؤمن بحل الدولتين - كما يسمونه الآن - أو هل كانت لديه حلول بديلة للقضية الفلسطينية؟

- وجهة نظر إدوارد سعيد في ما يخص القضية الفلسطينية معروفة، لأنه كتب فيها بشكل مكثف وكثيرا ما أدلى بآرائه في لقاءات في وسائل الإعلام البصرية والمكتوبة. ولا أظن من الضروري تكرار ما قاله هنا. إلا أني أحب أن أذكر أن إدوارد كان مفكرا ديناميكيا، فلم يكن أبدا استبداديا في آرائه، كما أنه لم يتمسك أبدا برأي أحادي دون أن يعاود التفكير فيه. وأظن أنه في نهاية حياته كان لديه إيمان قوي بحل الدولة الواحدة الديمقراطية ذات الحقوق والالتزامات المتساوية لكل مواطنيها. وكان السؤال هو كيف نصل إلى هذه الدولة؟ وكان إدوارد مؤمنا بجدوى الوسائل غير العنيفة، ليس فقط من وجهة نظر أخلاقية، لكن أيضا من وجهة نظر عملية. فقد رأى أن الوسائل غير العنيفة تعتبر بمنزلة سلاح أكثر فاعلية من الوسائل العنيفة في إقناع العالم بعدالة القضية الفلسطينية.

وكان هذا بالنسبة له هو الأمر الأكثر أهمية، كما سبق أن أشرت عدة مرات، لأن العدالة هي جوهر القضية الفلسطينية، لذا فإن أكثر السبل فاعلية لجذب العالم للوقوف معنا هو إبراز عدالة قضيتنا. كان إدوارد سعيد قادرا على إبراز عدالة القضية الفلسطينية اعتمادا على قدراته الفذة باعتباره أكاديميا. فقد تمكن من خلال الاستناد إلى علمه بالثقافة الغربية وإتقانه للإنجليزية ووضعه كأستاذ شهير وشخص خلوق وأحد المفكرين العظماء في القرن العشرين، من تعزيز قدرته على الوقوف في وجه أسوأ أنواع البلطجة التي تعرض لها من هؤلاء الذين حاولوا الإضرار به. كما أنه حصل على مساعدة كبيرة من زملائه والمفكرين الآخرين عبر العالم, لدرجة أني تعجبت من عدد التعازي التي وصلتنا من مختلف بقاع العالم عقب وفاته, سواء من الهند وبنجلاديش وباكستان وإندونيسيا أو غيرها من الدول الشرقية أو من إفريقيا وأوربا وأمريكا، وبالطبع من العالم العربي. وهذا يعني أن ما كتبه وقاله كان يؤثر في الناس في كل مكان بالعالم.

 


 


شقيقة إدوارد سعيد تلقي محاضرة أمام رائدات ثقافية واجتماعية