على هامش ذكرى تحرير الكويت

 على هامش ذكرى تحرير الكويت

حديث الشهر
حتى ينتهي عصر الفردية العربية

فبراير هذا، هو الأول الذي تعيش الكويت أعياده في هذا القرن الجديد، القرن الواحد والعشرين. وكنت أتمنى أن يكون هذا العيد هو ختاما لعقد طويل من الزمن عانينا فيه نحن الكويتيين حالة "انعدام الأمان" دامت على مر هذه السنوات رغم طولها. فقد بدأ هذا العقد صبيحة يوم 2 أغسطس عام 1990، وشهد أياماً من التهديد والقمع ومحاولة محو خريطة هذا الوطن، ثم شهد معارك التحرير التي لم تنته النهاية السعيدة التي كنا نأملها. فمازال نظام الفاشست القمعي قائماً على حدودنا الشمالية تحت ظل حالة من الحصار الدولي تثير قلق المجتمع الدولي على نتائجها المباشرة ضد الشعب العراقي، واستمرار النظام العراقي يجني ثمار كسب الوقت لتدعيم وجوده، كما أنه مازالت هناك حالة أخرى من الحصار يعاني منها أهلنا الأسرى في السجون العراقية. وحتى لا أتهم بالنظرة المغلقة على مشاكل وطننا الصغير، فإنني أعلم أننا جزء من جسم أكبر هو عالمنا العربي. وحالة "انعدام الأمان" التي نخاف منها هي حالة عربية بالأساس، فالأنظمة العربية تعيش تحت تهديد وضغوط الدول الكبرى وشعوبها تعاني حالة دائمة من افتقاد الديمقراطية وغياباً كاملاً للرؤية المستقبلية، كما أن انتشار النزعات الإرهابية يهدد بتقويض أبنية المجتمع المدني التي مازالت هشة، كما أن نمو الاقتصادات العشوائية والإحساس بأن كل ما يعلن من مشاريع للتنمية سوف يكون حتمية لاستغلال النفوذ. كل هذا جسد حالة عدم اللا أمان العربي وجعلنا ندخل هذا القرن ونحن أسرى تلك الحالة المزمنة.

قد يبدو هذا الحديث متشائما ونحن نعيش ذكرى أفراح التحرير والاستقلال التي تشهدها الكويت في هذا الشهر. كما أن فبراير هذا العام يقع بين عيدين إسلاميين كبيرين هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وهي كلها مناسبات تدعو للتفاؤل والفرح. كما أننا نقف على أعتاب قرن جديد يحمل للبشر آمالا جديدة في أن يحل المشاكل المستعصية التي خلفها القرن الماضي. كل هذا يجعلنا ننظر إلى مشاكل العالم العربي التي نعيش فيها على أنها مخلفات "أنثربولوجيا" سوف تكتسحها ريح التغيير العاصفة التي بدأت في الهبوب منذ الثمانينيات في القرن الماضي وسوف تواصل هبوبها. كل هذا لا يمنعنا أن نشخص مشاكلنا بكل ما في التشخيص أحيانا من قسوة وصراحة.

أفراد لا دول

فمشكلة بعض دولنا العربية أنها تتصرف كما يتصرف الأفراد. وإذا كان الأفراد يتصرفون أحيانا برعونة وفق نوازعهم ومصالحهم الضيقة، فإن الدول حين تتصرف بهذه الطريقة تقترب من حافة الكارثة. فالرعونة تتحول عند الدولة إلى مغامرة عسكرية غير محسوبة أو إلى قرارات تصيب أفرادها في الصميم . كما أن العمل وفق النوازع والمصالح الخاصة لم يعد ملائما وسط عالم يزداد ضيقا وتداخلا يوما بعد آخر . فالاقتصاد تحكمه شبكة عالمية من المصالح، وقمع حقوق الإنسان في الداخل أصبح يستدعي التدخل الخارجي، وإذا كنا قد تغنينا طويلا بأواصر الروابط والوشائج التي تربطنا كعالم عربي فنحن لم نترجم هذا الغناء العميق والمليء بالأسى إلى أعمال، لقد تصرفنا بشكل فردي وسط محيط ضيق يجمعنا معاً وكانت النتيجة هي التصادم، ثم المزيد من التصادم. ومثال غزو العراق للكويت هو أكثر الأمثلة دلالة على ذلك .. وهذا المثل ليس الوحيد بطبيعة الحال.

الفردية العربية - ولا أريد أن أقول الأنانية - هي التي حولت القرن الماضي إلى قرن من الصراع العربي - العربي، وزرع إسرائيل في قلب المنطقة هو محصلة طبيعية لهذه الفرقة التي طال أمدها والتناحر المميت الذي أضاع فرصاً ثمينة على كل الدول العربية في التقدم والرقي. ففي ظل غياب الوعي العربي تم تقسيم الأرض العربية إلى مناطق للنفوذ، وفي ظل الخيانات المتبادلة كبرت رقعة الأرض التي تستحوذ عليها إسرائيل، وبفضل أنظمة استبدادية جاهلة عبرت جيوش الغزو العربي حدود دولة عربية أخرى في محاولة لمحوها من الوجود.

هل شاركت الكويت في مواكبة هذه الفردية العربية؟ هل أمسكت بالثروة النفطية التي حباها الله بها وهي تهتف أنا ومن بعدي الطوفان، أم أنها استخرجت كل ما في أعماقها من قيم الإيثار والتكافل؟ أعترف أن من الصعب أن أكون موضوعياً في محاولتي للإجابة عن هذا السؤال، فالمرء لا يستطيع أن يخرج من جله ليرى أهله بمنظور غريب، ولكنني سوف أحاول التوسل إلى ذلك بوقائع مجرة يعرفها القاصي قبل الداني كما يقولون.

مجتمع البحر والصحراء

فالكويت الدولة والشعب عرف عنها قديماً وحديثاً السعي للمساعدة ومديد العون للمحتاج والوقوف مع الأخ والصديق في أوقات المحن والأزمات. وهذه طبيعة أصيلة في التكوين الاجتماعي الكويتي لاحظها معظم الرحالة الأجانب الذين مروا بالمنطقة قديماً، وربما كانت هذه إحدى الظواهر التي تولدت مع تكون المجتمع الكويتي القديم، ذلك المجتمع الذي امتزج فيه البر بالبحر، مجتمع التزاوج بين الغوص والسفر بالبحر والرعي في الصحراء حسب المواسم. فالبحر بكل ما يحمله من أخطار وعواصف، وخاصة مهنة الغوص التي يعتبرها الجميع أشق مهنة عرفتها البشرية الغوص التي يعتبرها الجميع أشق مهنة عرفتها البشرية بعد العبودية، وكذلك الصحراء بما فيها من أيام الجفاف والشظف والتوهان في فضاء الله الواسع، كل هذه العناصر دفعت الكويتيين الأوائل إلى ابتكار نظام اجتماعي للتعاضد والتكافل، فقد فرضت الطبيعة على ساكنيها التعاون والتراحم والنخوة والتضحية في سبيل الآخرين. هذه الظاهرة الأنثربولوجية ترسخت وأخذت بعدها في تقاليد الحياة اليومية حتى أصبحت جزءاً من لحمة المجتمع الكويتي حتى بعد أن عرف المجتمع بداية الطريق للانتعاش عن طريق التجارة وربط شواطئ العرب بشواطئ الهند. حتى هذا الأسلوب التجاري الشاق استلزم أيضاً المزيد من التعاون والتآزر بين أطراف هذا المجتمع.

وقد غير ظهور ثروة النفط شكل المجتمع الكويتي، غيره رأسا على عقب. ولكن هذه الثروة لم تبدل من قيمه وقناعاته القديمة. فقد كانت أولى المبادرات أو المشروعات الكويتية مع الأيام الأولى للاستقلال عام 61 وبداية صعود الثروة النفطية، كانت إنشاء الدولة "الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية" وقد عاصر هذا الصندوق وسار جنبا إلى جنب مع خطط التنمية المحلية. أي أن الكويت لم تنتظر الانتهاء من بناء بنيتها الأساسية وتلبية حاجات مواطنيها من كهرباء وماء وطرق ومستشفيات ومدارس وجامعات، وبدأت تفعل ذلك لأشقائها العرب ولأصدقائها من دول العالم الثالث التي كانت في وقت استعار الحرب الباردة في أمس الحاجة إلى مساعدات خالية من الشروط ومن المن والأذى.

ولا أريد أن أغرق في الأرقام والتواريخ لأنها كثيرة، ولا أريد أن أستعرض المشروعات التي مولها هذا الصندوق فقط، حتى لا أنزلق إلى مهاوي المن على إخوة لنا، ولكن يكفي القول أنها مشروعات كانت كلفتها عشرات المليارات من الدولارات وانصبت كلها في البنية الأساسية كبناء الجامعات والطرق والسدود والمشروعات الزراعية والكهربائية، وقد تم هذا قبل أن يتم ما يماثله في الكويت. وأسوق هنا مثالين بسيطين حدثا في بلد عربي حين أقامت الكويت صرحين من صروح العلم هما جامعة ومكتبة وطنية، وأكاد أجزم بأن الكويت في ذلك الوقت لم تكن تملك مثيلا لهما، وكما قلت فإنني لم آت بهذين المثلين إلا بداعي الاستشهاد فقط.

أيادي الخير

إن قيم الدعم والمساندة والمبادرة لفعل الخير للصديق والأخ ممدودة منذ القدم في ضمير وعقيدة المجتمع الكويتي، ومنذ أن بدأت قضايا أمتنا العربية مع نمو المجتمع الكويتي وتشكل الدولة الحديثة فتكونت الجمعيات واللجان الخيرية والمؤسسات لجمع التبرعات الأهلية لدعم ومساندة قضايا أمتها العربية في فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل، وبعدها، في فترة الثورة في الثلاثينيات كان تجار الكويت يتبرعون ويشترون (السلاح) ويرسلونه إلى المفتي في فلسطين، وكذلك للجزائر ونضالها التحرري، ولليمن في نضاله ضد بريطانيا، وامتدت إلى دعم منظمات عالمية كالصليب الأحمر ووكالة غوث اللاجئين وحقوق الإنسان والمشردين الذين يتكاثرون في هذا العالم المرير من جراء تلك الحروب الأهلية الطاحنة من لبنان إلى يوغسلافيا ومن كشمير إلى الشيشان ناهيك عن ضحايا الزلازل والكوارث في العالم.

البئر في الذاكرة الكويتية

كان أهلنا يشاهدون في الكويت حفار الآبار، وهو واحد من أناس كانت لهم موهبة خاصة في معرفة الأماكن الخفية التي تسري فيها المياه تحت الرمل الجاف. وكان حفر بئر هو بمنزلة معجزة صغيرة تحدث في المكان فتغير صورته وتبعث الحياة من قلب الممات. ولعل هذه الذكريات رابضة في أعماق كل كويتي عاش تلك الفترات، فحلم البئر المتدفقة بالمياه لم يغب أبدا عن الذاكرة رغم اختفاء مهنة حفاري الآبار وبروز محطات تحلية المياه العملاقة. ولعل هذا سر هوس واحتفاء الكويتيين بحفر الآبار حتى الآن.

ورغم أنهم لم يعودوا يحفرون في وطنهم فإنهم يساهمون في حفر الآبار في كل بلاد الله العطشى. وما إن تعلن أي جهة خيرية خطتها لمثل هذه المشاريع حتى تبدأ التبرعات دون مناقشة ودون مبالاة بمعرفة مكان البئر، بالآبار دائما تحفر في أكثر بلاد المسلمين جفافا وأشدها فقراً وأبعدها عن العمار. وعلينا أن نعترف بأن للجمعيات الخيرية الكويتية خارطة خاصة بها تتوجه مباشرة إلى عالم المسلمين المنسيين في كل بقاع الأرض. ففي وسط أدغال إفريقيا وسهوب آسيا وجبال أوربا المنيعة نجد آثارهم، مشاريع صغيرة وكبيرة، تقدم خدمات مؤثرة في صميم هذا المجتمع المنعزل دون ضجة ودون إعلام. ولولا المصادفة البحتة ما عرفنا أماكن هذه المشروعات، فعلى السفوح الجنوبية لكازاخستان حيث كان يوجد آلاف من الفلاحين المسلمين الفقراء الذين ماتت أراضيهم بسبب ازدياد الملوحة في "بحر أرال" واضطروا للهجرة إلى أماكن أخرى كانت خالية تماماً من أي مصدر للمياه، قام أهل الخير في الكويت بحفر عشرات الآبار لهم فحولت الجحيم الجاف الذي كانوا يعيشون فيه إلى أرض قابلة للزرع والإنبات. ولم يكتفوا بذلك بل بنوا لهم مسجداً تحول إلى مركز اجتماعي مهم تدور حوله كل أنشطتهم، فلم تمارس فيه العبادة فقط ولكن أصبحت تتم فيه الاجتماعات وحفلات الزواج وتعليم الأولاد اللغة العربية والقرآن. وفي مدن إفريقيا البائسة لم يتم حفر الآبار فقط ولكن أقيمت ملاجئ للأيتام ومدارس لتعليم الصغار في كل المراحل وأقيمت العيادات الطبية في مناطق نائية خالية من كل تلك الخدمات، ووسط أناس لا يعرفون أصلا من أين تأتي هذه الخدمات إلا أنها من إخوة مسلمين مثلهم. ولعلني أتذكر هنا قول واحد من أنشط رجال العمل التطوعي في إفريقيا وهو الدكتور عبدالرحمن السميط الذي قال لو أنني ملكت كل أموال الأرض لوجهتها لنهضة التعليم في إفريقيا. وهو كان بذلك يضع يده على الخلل الرئيسي في تلك القارة ذات الإمكانات الهائلة والفقر المزري. بل إن قلة التعليم في هذه القارة جعلت كل هذه الأعداد الهائلة من المسلمين عاجزة عن حكم نفسها ولعل تنزانيا ونيجيريا والصومال خير شاهدين على ذلك.

ولم تتوقف مبادرات أهل الخير عند ذلك الحد، فهي موجودة في كل البلاد العربية التي تحتاج إليها، وموجودة في فلسطين رغم الاحتلال، وموجودة في معسكرات اللاجئين في أوربا وروسيا. وهي بذلك تعبر عن طبع أصيل في النفس الكويتية المحبة للخير والتي جربت شظف الحياة وجوعها في عصر ما قبل النفط. فكل هذه المشروعات تترك فيها الدولة المجال واسعاً لمن يريد أن يقدم المساعدة من الشعب الكويتي، وهي لا تقوم على عاتق الأغنياء فقط من الشعب الكويتي بقدر ما تقوم على جهود جموع الشعب كله. فالإنسان الكويتي البسيط قد تعود باستمرار أن يترك مبالغ صغيرة في صناديق التبرعات المتناثرة في كل مكان، في البقالات والجمعيات التعاونية والأسواق. وقد تحولت هذه العادة الإنسانية البسيطة إلى استثمار بشري ضخم يتم بصمت في عالم المسلمين المنسيين، وهو يؤكد بذلك أن رغد الثروة لهم يعم عينيه عن بقية البؤس الذي يعانيه إخوته.

القلب الثقافي

الكويت آمنت أيضا بالدور الذي تلعبه الثقافة في نهضة الأمم، وبأن الوحدة الثقافية العربية ربما كانت الوحيدة القابلة للتحقق حتى الآن. بل وآمنت أيضاً بأن هذا الدور هو الذي يمكنها من الانتقال من موقعها الجغرافي في أطراف العالم العربي إلى موقع القلب الثقافي منه. لذا فقبل أن تفتح صفحات إصداراتها الثقافية لكل تيارات الفكر العربي فتحت حدودها أمام كل العقول العربية من مختلف المشارب والاتجاهات فهي لم تقم أي نوع من الحواجز أمام أبناء أمتها في أي مرحلة من تاريخها. وقد شهدت مؤسسات التعليم ثم جامعة الكويت نخباً عربية ذات اتجاهات قومية ويسارية ودينية وقد تعاملت معها جميعاً دون حجر أو إلزام. ولعل هذه النزعة المتسامحة والمنفتحة تبدو في الإصدارات التي تقدمها دولة الكويت وفي المشروعات الثقافية والتعليمية التي تتبناها.

وللحق أقول إن الانفتاح الكويتي على التنمية الثقافية والعلمية لم يقتصر على الحكومة فقط، ولكن مبادرات المؤسسات والأفراد، ممن أنعم الله عليهم من خيره، من عشاق الثقافة قد سارت إلى خطوات بعيدة. ولعل هؤلاء الكويتيين كانوا من الرواد الأوائل الذين أقاموا مؤسسات ثقافية وأرسوا الجوائز الأهلية لتكريم المبدعين من جميع أبناء العرب وهي الظاهرة التي بدأت في الانتشار في عالمنا العربي الآن. إن أحداً لن ينسى مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ذلك المشروع الذي تساهم به مؤسسات اقتصادية كويتية بنسبة من أرباحها السنوية، والتي ركزت نشاطها على رصد جائزة الكويت للتقدم العلمي للباحثين والمفكرين والعلماء العرب في أي مكان، ونشر التراث العلمي العالمي والعربي والإسلامي، ودعم المشروعات البحثية العلمية والثقافية محلياً وعربياً. ومؤسسة دار سعاد الصباح للنشر والجوائز التي رصدتها للإبداع العربي، وما حوته إصداراتها من عشرات بل المئات من عناوين الكتب. وكذلك لا أنسى مؤسسة عبدالعزيز البابطين التي تقدم الجوائز للشعراء العرب وتصدر أكبر معجم عربي من نوعه يعرف بكل شعراء العربية المعاصرين، وتقيم عشرات المهرجانات في كل عاصمة عربية لتسليط الأضواء على شاعر أو مفكر عربي مهم.

وبعد .. هاهو فبراير يعود .. لعله يكون نهاية لهذا العقد من النزعات الفردية العربية وافتقاد الأمان، نتمنى أن يصبح كل هذا شكلاً من أشكال الماضي وأن نحول هذا الافتقاد إلى نوع من التحدي ونتخلى عن تلك النزعات الفردية لعلنا نواجه العالم كجمع من العصي يأبى التكسر ونكون مستعدين للتعامل مع عالم جديد ككتلة واحدة، ولو اقتصادياً وثقافياً.

 

سليمان العسكري