الفلسفة التي... ماتت

الفلسفة التي... ماتت
        

          أثارت (العربي) على صفحاتها قضية الحوار الفلسفي في الخطاب الثقافي العربي في العدد (550) سبتمبر 2004, فالفيلسوف (د.ناصيف نصار) الذي كتب المقال بناء على طلب من الدكتور سليمان العسكري - وليته يطلب من كتّاب مختصين في مواضيع أخرى كالتاريخ مثلاً - قطع على الكتّاب والنقّاد والفلاسفة والتاريخيين الطريق للكتابة عن حوار فلسفي جديد. وأظن أن المسألة فيها الشيء الكثير, لأن موت الفلسفة في خضم الصراع الأيديولوجي, وإحياءها في طرح الحوار عبر مجلة واسعة الانتشار, وعلى صفحة منتدى الحوار, يعيد الحيوية والدم للفلسفة التي لا تعني حقيقة كما قالوا (مَن تمنطق تزندق), واليوم يقولون من تفلسف أسفف!

          عندما دخلت علينا الفلسفة منذ إخوان الصفا, لم نستفد منها شيئًا سوى التشكك في تكوين الخلق, والتساؤل عما بعد الوجود, وقبل الوجود وما وراء الطبيعة, ومَن خلق الله? وعن سرقة الحضارة الإسلامية من حضارة الإغريق والتأثر بها والتأثير فيه, ونشوء النزاعات الفكرية وظهور المهرطقين والمذاهب التي لا صلة لها بالإسلام, بل الشك في حضارة الإسلام قلبًا وقالبًا, وذلك عن طريق التلاعب بالألفاظ ومحاكاة العقل, مما أدى إلى نشوء أفكار عصرية وتفشّي هذه الأفكار في عقول الجيل المسلم وتأثيرها في مناهج التعليم, وتبنيها من قِبل الساسة والقادة وأرباب الفكر والعلم, ليبعدوا القيم الأخلاقية والفكرية لدى المسلمين تحت اسم الحوار الفلسفي, لا مانع لدينا أن نقرأ الفلسفة كمعرفة وثقافة, أما أن نطبق آراء الفلاسفة الجدد الذين هم (أنبياء العصر) من وجهة نظر الفلاسفة, فهذا أمر يجب أن ننتبه له. ومن خلال دخول الفلسفة في قضايا تخص العالم الإسلامي من كل جوانبه في العلوم والوجود والأخلاق والجسد والسياسة والدين. من هنا يجب أن نغلق الباب بوجه الفلسفة الجديدة, ولا نتحاور معها, ليس ضعفًا في الرد, ولا هروبًا من الحوار, وإنما هربًا من هدر الوقت والجهد من أجل مواضيع لسنا بحاجة إلى ذكرها ومعالجتها, لأننا حقًا نملك البديل لحل كل مشاكلنا?

          لماذا يُريد الفلاسفة منّا أن نستورد فلسفة ليست من إنتاجنا, وعندنا فائض من القوانين الصحيحة والحلول المنطقية والعقلية تتكيف مع نمط تفكيرنا وعاداتنا وحاجاتنا ومتطلباتنا الدينية والفكرية والجسدية, هؤلاء الفلاسفة يريدون أن يكونوا أنبياء هذا العصر, وكل منهم يسعى لكي يترك العرب والمسلمين ديانتهم وفقههم, فضاقت صدورهم وأعينهم, وحاولوا فرض آرائهم على الساسة وعلماء التربية, لكي يقودوا المجتمع هم بدلاً من رجال الدين وعلماء التربية.

          الفلاسفة لا يؤمنون بشيء. لهم آراؤهم الخاصة, ويكرهون كل ما هو فطري وعقائدي وأخلاقي وديني من أجل شهوة خاصة, كتحطيم مجتمع متديّن, ليحلوا محله جيلاً على نمط فرويد وداروين. يرى د. زكي نجيب محمود في مقال له بـ(العربي) أنه عندما فلسف الفلاسفة الدين كفّروا الناس? وعندما فلسفوا السياسة قاتل بعضهم البعض, وفي فلسفة الاجتماع اتهم بعضهم البعض بالرجعية والانحلال) (العربي العدد 547).

          ماذا حصد العالم العربي من فلاسفة الإسلام, الذين فلسفوا العقيدة بدءًا من إخوان الصفا وابن تيمية وابن القيم الجوزية, وانتهاء بفلاسفة العصر الحديث, والذين تأثروا بالفلسفة الشيوعية والوجودية - والتسميات كثيرة - بعد أن تأثر الفلاسفة العرب في العهد العباسي بالفلسفة الإغريقية? مما أثر سلبًا على بعض فلاسفة القرن العشرين العرب, واتهموا الحضارة العربية بأنها بنت الحضارة الإغريقية قلبًا وقالبًا?! وشوّهوا صفاء ونقاء وفطرة الحضارة الإسلامية وأبعدوها عن جوهرها وبساطة العقيدة والممارسة الطبيعية للدين مما أدى إلى ظهور فرق إسلامية منشقة عدة وأحزاب وطوائف وظهور ما يسمى بالتصوّف الإسلامي كرؤية فلسفية جديدة, وظهر لها مؤيدون وأتباع وجنود? مما جعل الحوار الفلسفي مع هؤلاء عقيمًا ولا جدوى منه, وأصبح لكل شيخ طريقة تختلف عن شيخ طريقة أخرى في الممارسات والتصرفات والعبادات, وحتى في طريقة اللباس والطعام والسكن والشكل العام, مما أدى إلى تباعد وتباغض وعداوة بين هؤلاء وتلك الفرق المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي. بل أصبح البعض يعتقد أن هذه الفرق إنما هي دين خالص ليس للإسلام أي علاقة بهم? من أين جاءت هذه الأفكار والممارسات والتفاسير لولا الفلسفة والحوار الفلسفي? صحيح أن بعض هذه الفرق أو بعض الفلاسفة الذين يمثلونها وصل لمرحلة راقية من الحوار الفلسفي كابن تيمية, ولكن الإسلام كدين ليس بحاجة إلى مثل هذه الفلسفات ليتطور, فهو بحد ذاته متطور بشكل فقهي وليس للفلسفة أي دور فيه? والمشكلة أن العرب أحبّوا الفلسفة لأنها علم الكلام, والعرب مشهورون بهذا العلم, لذلك أقبلوا عليه وزادوا فيه وزاد عدد الفلاسفة, وكلّ يحاول أن يثبت أنه فيلسوف زمانه! ومَن هو الفيلسوف الذي يتفق مع آخر والكل مختلف? وما مدى جدوى الحوار الفلسفي الآني لحل مشاكلنا التي لا تنتهي قائمتها, وهل يستطيع الفيلسوف, بل الفلاسفة أن يحلوا مشاكلنا عبر هذا الحوار والبحث عن الطريقة الصحيحة للحل?

          مشاكلنا لا يمكن أن تحلّ عن طريق النظريات الفلسفية, والسبب أن البديل موجود عندنا, فلا دواعي إذن للفلسفة ولا للفلاسفة? فلسف أحد المفكرين العرب الخطاب الديني ورأيه في الخلفاء المسلمين بأنهم طغاة ومغتصبو السلطة الدينية والدنيوية!

          لماذا لم يتحقق مشروع الفلاسفة العرب بالحلم العربي, عن طريق الحوار الفلسفي بدءًا من رفاعة الطهطاوي, وفرح أنطون, وأحمد فارس الشدياق والأفغاني, والتونسي, والشيخ محمد عبده, الذين طرحوا مسألة الدولة المدينة بحدة, مع الدعم النخبوي العربي لهم, لأنهم أخذوا من فلسفة الدستور الفرنسي, واختمرت فكرتهم من جان جاك روسو واستهوتهم (روح الشرائع) لمونتسكيو, وأحبّوا آراء فلسفة فولتير, وأعجبوا بمسارح وشوارع باريس, وطبعًا كانت لهم أصوات وصدى ومؤيدون أين ضاعت أفكارهم ومبادئهم? طبعًا ستفشل كل الرؤى والنظريات الفلسفية التي نادى بها كل هؤلاء, لأن تجربتهم الفلسفية جاءت من الغرب ليطبقوها في الشرق بدءًا من شرطي المرور, حتى نظام الحكومة والتشريع الفلسفي في بلد إسلامي لا تتماشى مع ثقافته وتشريعه وطبعه وحضارته? أما بالنسبة لقول د. ناصيف (إن التحديات الهائلة لمشاكلنا والتصدي لهذه المشكلات, والانكفاء على الاعتقاد القائل إن تراثنا الديني يتضمن حلولاً لكل المشكلات المعاصرة, فهذا الاعتقاد ساقط عمليًا, إلا حيث تفرضه القوة)?

          هذا الكلام غير صحيح, وقد ثبت بالتجربة والواقع العملي وحتى التاريخي أن التراث الديني هذا كان الدواء الناجع لحل كل المشاكل, المعاصرة, واللاحقة لا يحلها سوى هذا التراث الديني, وعندما وضعنا الحلول الفلسفية بدلاً من الحلول الدينية لحل مشاكلنا, وقعنا في مشاكل لا عدّ لها ولا حصر, بل زادت من المشاكل التي كنّا لم نسمع بها أصلاً, وكيف تخفى هذه المشاكل الكثيرة والمتنوعة على فيلسوف وهو يعيش ضمن ومع وخلف وفوق وتحت ركام هائل من المشاكل من جراء إجراء تجارب فلسفية لحل هذه المشاكل. وقد ثبت أن التراث الديني كان المخرج الوحيد لحل المشاكل, ليس على الصعيد العربي, إنما العالمي مادامت الفلسفة معقدة, وهي تعقّد المشاكل, لماذا نلجأ إليها ونترك التراث الديني?! ولم ننعت التراث الديني بكلمة الساقط عمليًا, فهي لفظة غير مهذبة, أم أن لغة الفلسفة لغة ساقطة?

زياد ديا
حمص - سورية

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات