الحرية... القيمة المستحيلة

 الحرية... القيمة المستحيلة
        

          هل نسعى إلى الحرية حقًا? أم أن في داخلنا رغبة غريزية للخضوع? وهل ننصاع لقوة خارجية? أم لدافع من أعماقنا?

          للكاتب الأمريكي هنري جيمس رواية عنوانها (ميدان واشنطن). محورها فتاة تعيش في هذا الموضع من مدينة نيويورك, وكان إذ ذاك حيًا سكنيًا راقيًا, عاش فيه المؤلف نفسه في صباه, قبل أن ينتقل إلى إنجلترا كما هو معروف عنه. نشأت هذه الفتاة يتيمة الأم, وأدى بها تسلّط أبيها وأرستقراطيته إلى أن نشأت خجولة الطبع, مهملة المظهر, بالرغم من شهرة أبيها, الذي كان طبيبًا كبيرًا واسع الثراء, سليط اللسان, كثيرًا ما يذكّرها بجمال أمها وأناقة ملبسها, مما زاد من شعورها بالكبت. تقدم لخطبة البنت شاب كان واضحًا لأبيها أنه لا يستحقها, وأنه طامع في ثروتها, ولكي نتخيل الحدث الدرامي, قد يفيدنا أن نذكر الإنتاج السينمائي لتلك الرواية, وقد جاء في منتصف القرن العشرين, وكان (أبيض وأسود(, وأسموه (الوراثة), ربما لأن عنوان الرواية الأصلي - وقد ظهرت سنة 1881 - لم يكن يعني كثيرًا عند جمهور السينما, وقد قام بدور الطبيب الممثل الإنجليزي المسرحي الكبير رالف ريتشاردسون, وبدور الفتاة الممثلة أوليفيا دي هافيلاند, وهي امرأة بارعة الجمال, ولكنها تأتي هنا في صورة هذه الشخصية البائسة. أما الفتى, فكان الممثل الأمريكي البارع مونتجومري كليفت. رفض الأب أن يزوج ابنته الوحيدة لشاب أوقعها في حبه من أجل ما تتوقعه من ثروة طائلة, وقد كان الأب قد عرف أن حياته لن تطول لإصابته بعلة في القلب. وأمام إصرار الفتاة على أن من حقها أن تتزوج من تحبه, ومن ستجد حريتها في اختياره وسعادتها في أن تعيش معه, قرر الأب حرمانها من ثروته إذا تزوجته. وعندئذ وجد هذا الشاب - مصداقًا لظنون الأب الخبير - أنه لم يعد له صلة بالمسألة, واختفى من المسرح. مات الأب وورثت الابنة ثروته وعندئذ عاد الصياد إلى الظهور ليواجه الابنة التي تعلمت من الحياة أن الحرية ليست بالضرورة طريقًا إلى السعادة, وقد واجهته الآن بقسوة لم تكن من طباعها أصلاً, وعندما لامتها مربيتها التي أصبحت الآن رفيقة عمرها, على فظاظتها, أجابتها بأنها قد تعلمت على أيدي أستاذين, أبيها, والشاب الذي أحبته, الحب في كلتا الحالتين لم يكن سوى مصدر للعبودية واليأس, هل يلام الأب على حرمانه لابنته من حريتها? أم يحمد على أنه استخدم ما لديه - وليس لديها - من حكمة وتجربة ومن حرص على مصلحتها, من أجل حمايتها من خطر داهم? ظل هذا السؤال بعد ذلك محورًا للعديد من اهتمامات هنري جيمس وكتاباته. كما ظلت كلمة (الحماية) ذريعة لاستخدام القوة في السيطرة على المجتمعات المتخلفة من جانب القوى الأوربية المتقدمة, وعندما بطل هذا الأسلوب, ونالت هذه الدول (حريتها), فإن هذا كان طريق بعضها إلى النهوض والارتقاء والتقدم, بينما وقع بعضها الآخر تحت سطوة حكم وطني لا يتسم دائمًا بما يجب أن يوجد لدى القادة من الحرص على مَن هم تحت قيادتهم. ويحضرنا هنا هذا المثال الرائع: نلسون مانديلا. دفع هذا الزعيم الأفريقي حريته, بل وحياته كلها ثمنًا لكفاحه من أجل حرية أبناء وطنه, وقد أدرك سجّانوه في النهاية مدى عظمته وأحقيته هو وشعبه في الحرية, وكان وهو لايزال سجينًا يمارس الزعامة, ويعقد الاجتماعات, ويصدر التعليمات والتوجيهات, ومما يؤثر عنه أنه تولى - كما نعرف - رئاسة جنوب إفريقيا سنوات, وعندما انتهت ولايته, أعلن أنه (قد نال حريته من جديد!) مشيرًا إلى أن ممارسته للحكم كانت سجنًا هي أيضًا, وهو مفهوم كان شائعًا لدى سارتر والوجوديين, فحواه أن القائد يشعر بفقدان حريته ويصبح كل الناس أحرارًا إلا هو! هذا بالطبع هو القائد الذي يحب شعبه, ويعمل على تحقيق خيره, وليس الطغمة التي ابتلت البشرية بعبودية لم تشهدها في عصور أسواق تجارة العبيد.

          (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا?) لم يكن عمر بن الخطاب يقصد بعبارة (ولدتهم أمهاتهم) أننا أحرار منذ لحظة خروجنا إلى الحياة, إنها مجرد كناية عن المجيء إلى الدنيا, فالإنسان لحظة ولادته أقرب إلى الشيء منه إلى الكائن الحي, وفي اللغة الإنجليزية يعامل هكذا, (it), هكذا يشيرون إليه, والكائن الآدمي هو أكثر الكائنات اعتمادًا على غيره, العجل يخرج من بطن أمه قادرًا على الجري, ولا يرضع إلا أسابيع قليلة. أما نحن فنظل سنوات طويلة لا قدرة لنا على البقاء دون (حماية) الأبوين, أو مَن يقوم مقامهما. والطفل الآدمي - مع كونه سلالة أرقى الكائنات وأذكاها - لا يعدو الأمر عندما يولد إلا أنه قد تحوّل من جنين في رحم أمه إلى جنين على صدرها, ويظل سنوات طوالا يمشي ويعمل ويأكل وكل شيء, ولكنه يظل محتاجًا إلى الرعاية, وما يؤديه من ثمن للحصول عليها, ويأتي هذا من حقيقة أننا لسنا كائنات نمطية, وبالتالي, فالتجمع الآدمي ليس نمطيًا هو أيضًا, فإلى جانب غرائزنا, هناك عقولنا التي تكتسب كل يوم مزيدًا من المعرفة, تجعل الأفراد والمجتمعات تتباين إلى حد أن كلاً منها تدوين مستقل لتاريخ البشرية, وكما يقول الوجوديون, فإن كلاً منا يدفع المجتمع بأكمله بتصرفاته لأن كل ما نعمله يصبح مما هو محتمل أن يعمله الناس, ثم هناك عواطفنا أيضًا, وهي ثالثة الدوافع, ولعلها أقواها. وعندما ينمو الفرد الآدمي ويظل عرضة للضياع الذي تعرضت له الفتاة كاترين في قصة هنري جيمس, فإنه يصبح لأبيها الحق في ممارسة (الرعاية) عليها. بهذا المنطق نفسه, بدأت القوى الأوربية المتقدمة تبسط (الرعاية) أو (الحماية) - كما جاء في الإعلان البريطاني الشهير بشأن مصر عند اندلاع الحرب العظمى - على دول آسيا وإفريقيا, هل خسرت هذه الشعوب (الحرية) بسبب هذه الرعاية? لكي نجيب عن هذا السؤال العويص لابد لنا من أن نقيس ما كان لديها من حرية قبل مجيء قوى الاستعمار, وما بقي لها بعد جلائها عنها, مع الأخذ في الاعتبار اختلاف العصور, ومدى كفاءة الإدارة الوطنية التي تخلف قوى الإمبراطورية الراحلة. ولعل أفضل مثال لهذا على الإطلاق هو الهند, والتي بدأ استعمارها على أيدي الإنجليز والبرتغاليين - وكان هؤلاء إذ ذاك غير ما نراهم اليوم, بعد أن تطوّروا مع تقدم العلوم والفلسفات - بدأ هذا الاستعمار باستغلال الثروات المادية والبشرية, أما كيف انتهى, فكما نعرف, هبط اللورد ماونتباتن من الطائرة ليعلن أنه سيكون آخر نائب للملك, وكما نعرف أيضًا, فإن غاندي ونهرو وغيرهما من قادة الهند, كانوا قد تشبّعوا بثقافة الإنجليز, وتعلموا في بلادهم, وإذا كانت الهند اليوم هي أكبر دولة ديمقراطية في العالم, فإن هذا هو أقوى دليل على أن (الرعاية) وتوأمها (التحكم), حتى هذه... ليست كلها شرًا, وأن الراعي قد يكون مصدرًا للكثير من الخير لو أن المشمول بالرعاية لديه البصيرة والحكمة والصبر الذي يلزم لذلك. ولعل ما يقصده هنري جيمس هو أن يقول إن الذي يفتقر إلى الحكمة ولا ينصت لصوتها, لا يستحق أن يكون حرّا.

حدود الحرية

          هل الحرية شيء لا حدود له? إذن لماذا القانون وأدوات تنفيذه? في كل الشرائع والقوانين حدود للحرية. وقد تطوّر الإنسان - الفرد والمجتمع - كثيرًا في منح الفرد أنواعًا متعددة من الحرية. وقد عشنا لنرى هذه الحرية نعمة ونقمة في وقت واحد, وهو تأكيد لمعادلة الحياة, وهي أن (الخير والشر بها توأمان), كما يقول الشاعر علي محمود طه. الإنسان حر في أن يملك السلاح ليدافع عن نفسه ضد الوحوش الحيوانية والآدمية, أدى هذا في المجتمعات الصناعية إلى تفشّي الجريمة, وأصبح من الصعب تقييد امتلاك السلاح لأن هذا سيضعف الأسوياء ويقوي المعوجين, فهم خارجون على القانون, والذين سيمتلكونه سواء بالقانون أو دونه. وفي عصر الرئيس الأمريكي كلينتون, حاول أن يحد من الجريمة عن هذا الطريق, فاصطدم بهذه العقبة, وكل ما أمكنه هو أن يحرم امتلاك السلاح الهجومي, يعني ليس مسموحًا للفرد العادي أن يمتلك دبابة - وهو ما كان يحدث فعلاً - أو مدفعًا رشاشًا. أما المسدس والبندقية فلا سبيل في أي بلد لتحريمهما. وكذلك فإن المجتمعات المتقدمة أصبحت صارمة جدا في تطبيق الحقوق الدستورية لكل فرد, هناك قواعد للقبض على الناس وتقديمهم إلى المحاكمة, والإجراءات منصوص عليها في القانون, أدى هذا إلى استشراء المافيا والجريمة المنظمة, وكثيرًا ما يضطر القاضي إلى إطلاق سراح مجرم هو واثق من أنه مذنب, والأدلة كافية, وذلك لأن أي محام بارع يستطيع أن يثير اعتراضًا على إجراءات اعتقاله مثلاً أو ضبط السلاح المستخدم. وللعصابات الإجرامية المنظمة تاريخ طويل في الالتفاف حول القانون, وقد كتب الكثير عن هذا, ومنه أن واحدًا من أشرس المجرمين, آل كابوني, لم يتمكنوا من حبسه إلا بتهمة التهرّب من الضرائب بالرغم مما هو ثابت في حقه من ممارسة القتل والتهريب, وكل أنواع الشرور المصاحبة لذلك. هنا تتمثل مشكلة الحرية في أجلى صورها, مزيد من الحرية يعني المزيد من العنف والجريمة, لأن الحرية للجميع, بمن فيهم الأشرار, وهذا يصح أيضًا على المستوى السياسي, الحرية للجميع بمن في ذلك أعداء الحرية من الفاشيين والشيوعيين والأصوليين, وقد وصل هؤلاء إلى مقاعد الحكم في ألمانيا في الثلاثينيات, وفي شيلي في السبعينيات, وفي جميع هذه الحالات كان إرهاب السلطة كفيلاً بإبقائهم جالسين عليها إلى الأبد. ففي أيديهم الإعلام الحديث بما له من سطوة لم يسبق لها مثيل, ثم السلاح والمرتزقة الذين يحملونه, وما لديهم من النزعة إلى تدمير الآدمية بالتعذيب والاغتصاب, وهم - على الترتيب - يبررون فظاعاتهم بالمصلحة القومية, أو تحقيق العدالة! - أو بأنهم رسل الله على الأرض, وأنهم مكلفون بإعلاء كلمته. وفي هذه الحالات, كان لابد من استخدام القوة لإزاحتهم, سواء من الخارج أو من الداخل.

          هل الناس أحرار في بيوتهم? كانوا كذلك لحين استحداث الأجهزة الصوتية, ليس من حقك أن تزعج جيرانك بالضجيج. هل هم أحرار في عقائدهم? ربما, بحيث لا تشكّل خطرًا. في مدينة فيلادلفيا الأمريكية كانت تسكن أحد المنازل جماعة تؤمن بما يسمى (حق الحياة). أي أن لكل كائن خلقه الله حقًا في الحياة يساوي حقهم فيها - وهم لا يقولون لنا رأيهم في فيروسات الإيدز والسارس - ما لبث الأمر أن تحول إلى مشكلة اجتماعية, فقد انتشرت الصراصير والفئران في حديقة المنزل, وبدأت تتسلل إلى المنازل المحيطة, وفي النهاية جاءوا بمروحية قذفت البيت بالقنابل محدثة أضرارًا جسيمة. هل من حق القوى العالمية أن تفعل هذا بدولة تدور في داخلها أمور تهدد البشرية? وباء مثل الإيدز - مثلاً - الذي أصبح ما يقرب من نصف سكان وسط وجنوب إفريقيا مصابين به? أو مثل (السارس) الذي أصاب شرق آسيا لو أنه انتشر بشكل مخيف? أو إشعاع نووي كالذي انبثق في تشيرنوبل, لو أنه اتخذ أبعادًا يمكن أن تلوّث الكوكب? هل من حق السلطة أن تحتجز مَن يتضح أنه مصاب بالإيدز لتمنع انتقاله إلى غيره? وما الفرق بينه وبين من يدخن ويعرّض نفسه لداء خطير كالسرطان وهو في الوقت ذاته منتفع بالتأمين الصحي الذي يموّله عموم الناس? هل يجوز حرمان المصابين بأمراض معدية من الوظائف التي تجعل هذه العدوى كبيرة الاحتمال, كالتعليم والتمريض والخدمة الشخصية والعمل في المطاعم...إلخ. بل وتحذير العموم منهم? أم أن هذا يكون اعتداء على حريتهم وعلى خصوصية الإنسان وكرامته? قضايا أخلاقية معقدة, تجعلنا نفضّل أن نهرب منها, ساعين إلى ما قد يكون أسهل ولو قليلاً, وهو البحث عن (كنه) الحرية, ومدى إمكانها, ثم (طبيعاتها). من سياسية إلى اجتماعية ثم اقتصادية, وربما عقائدية أو تراثية. وإذا كانت (بضدها) تتميز الأشياء كما قال الشاعر, فإن مضمون الحرية قد يتضح لنا من خلال التأمل في نقيضها وهو العبودية.

(استئناس) البشر

          كان توماس جيفرسون (1743-1826) ثالث الرؤساء الأمريكيين, وكان يعد بمقاييس زمانه رجلاً عالمًا واسع الاطلاع, عظيم الثقافة, وهو الذي صاغ وثيقة الاستقلال عن بريطانيا, وكان معاصرًا للثورة الفرنسية, ومبعوثًا لبلاده في فرنسا في أثناء مرحلة من مراحلها, وكان أيضًا يمتلك ما يقرب من مائتين من العبيد الأفارقة, وعاشر أمةً منهم تدعى (سالي), بعد وفاة زوجته, وكانت هذه قد ورثتها عن أبيها, ولعلها كانت أختًا لها, وأنجب منها أثناء فترة رئاسته ما يقال إنهم ستة من الأبناء والبنات, أعتقهم وتخلص منهم, ومازال نسل هؤلاء يعيشون, بل وبدأ أقاربهم البيض يدعونهم إلى بعض أعياد الأسرة بعد أن تغيرت الأحوال وأصبحت التفرقة العنصرية جريمة يعاقب عليها القانون الذي أعدّه جون كنيدي, وكان من أسباب اغتياله, ألا يبدو هذا تناقضًا في شخصية هذا الرجل الذي كتب يقول: (إن كل شيء قابل لأن يتغير عدا أمر واحد, هو الحقوق الأساسية للكائن البشري, والتي هي كامنة في طبيعة البشر, ولا يجوز فصلها أبدًا عنها) - كيف إذن يتفق هذا مع ذاك? الإجابة غاية في البساطة, كان جيفرسون يعتقد أن الأفارقة ليسوا بشرًا يتساوون مع الجنس الأبيض في تكوينهم (الجيني) أو (الوراثي). ولو أن مستر جيفرسون عاش في عصرنا هذا لسمع من علماء بلاده أن الفصيلة الآدمية التي تحدر هو منها, (هومو سابيتر), قد نشأت في إفريقيا, ولأروه خريطة (الجينوم) التي يشترك فيها كل سكان عالم اليوم, ولرأى أيضًا زنجيًا إفريقيًا يشغل أرفع منصب في العالم وهو سكرتير عام الأمم المتحدة. وهو ليس وحده في ذلك, فقد كان اكتشاف الدنيا الجديدة فتحًا عظيمًا للبشرية, وكان أيضًا مناسبة لكمّ هائل وبشع ومنفر من هذا الشيء القبيح المخجل في تاريخ الإنسان, وهو امتلاك البشر كما لو كانوا كلابًا أو قططًا, بل إن هذا الامتلاك كان يسمح للسيد بتقطيع أوصال عبيده, لمنعهم من الهروب, بينما قد يدخل مالك الكلب أو القطة إلى السجن في عصرنا هذا إذا أقدم على إيذائه. إن دل هذا على شيء, فعلى خطورة المعرفة في حياتنا, وكيف أنها هي الخير الأعظم, وأن مصدرها في كل عصورنا - من فلاسفة اليونان إلى علماء عصر التنوير, هو مصدر الخير, وإذا كان قد أمكن تحريم تجارة العبيد في القرن التاسع عشر, فإن قدرًا من الفضل في هذا يرجع إلى بداية الثورة الآلية على أيدي ستيفنسون وجيمس واط, وقد أدى استحداث وسائل الرفع والنقل إلى تحرير رقاب البشر الضعفاء من قبضة الأقوياء, كما أدى إلى تطهير عقولنا من خرافات التفرقة العنصرية, وغيرها من خرافات العصور القديمة.

          وكما نعرف, فإن الفراعنة كانوا يمارسون الضحية الآدمية, وأنهم كانوا (في كل عام درة تلقى بلا ثمن) إلى نهرهم العظيم, لعلهم كانوا يتصوّرونه كائنًا ذكيًا, وأنه يكافئهم على ولائهم بالفيضان الذي نعرف الآن من حقائق (هايدرولوجية) النهر من أين, وكيف يأتي. يقول برتراند راسل (هناك آثار للضحية الآدمية في العهد القديم, ولكن اليهود كانوا قد أبطلوا ممارستها قبل أن يسجل التاريخ كل شيء عنهم). ونتيجة لكتابات أمريكيين مثل وليم فوكنر, والزنجي الأصيل أليكس هيلي, يتصور البعض أن المهاجرين الأوربيين إلى الدنيا الجديدة هم الذين ابتدعوا الرق, والحق هو أنهم وحدهم الذين كتبوا عن فظائعهم بعد أن تقدموا في المعرفة, وبالتالي في أساليب الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكن الرق يرجع إلى ذلك الحادث الهائل في تاريخ البشر: اكتشاف الزراعة, أكبر الظن أنه كان في مصر, وربما بين النهرين, وهو - هذا الحدث - يتساوى مع اكتشاف الدنيا الجديدة من حيث إن كلا منهما جاء بحاجة هائلة إلى القوة البشرية لاستخراج ما في كنز لم يسبق للبشر أن عثروا على شيء مثله. وقد اتخذ الأمر أبعادًا كبرى في الدنيا الجديدة, وكان ملاك الأرض في الجنوب الأمريكي يقتنون الإماء الشابات لكي يتخذوا منهن مزارع آدمية كمزارع السمك في عصرنا هذا, ويجعلوهن يتوالدن من أجل أن يبيع الواحد منهم (أولاده) منها تمامًا كما يبيع محصوله من القطن. لم ينتف هذا الشيء من حياتنا تمامًا حتى الآن, إلا أنه من الإنصاف ألا نحمل الخطيئة لعصر دون غيره, ومعروف أن شاعرنا العظيم المتنبي أمر بذبح شاب من عبيده لأنه ضبط متلبسًا بسرقة شيء تافه, ولكنه - المتنبي - كان متعكّر المزاج في ذلك اليوم. وطبعًا هو الذي ينصحك بألا تشتري العبد إلا والعصا معه, وقد وصف العبيد بأنهم (أنجاس مناكيد), وعيّر كافور بلونه, وذكره بأذنه وهي في (يد النخاس دامية), وبقدره وهو بـ(الفلسين مردود).

          إذا كان الرق هو أن يكون الإنسان مملوكًا لغيره, وفي يد هذا الغير أن ينهي حياته أو يكفّ رزقه, وأن يشرّد أولاده, وأن يفعل ما يشاء بامرأته وبناته, فإن العبودية لاتزال تمارس في كل بلدان الدنيا, فقط بدرجات متفاوته. تحت عنوان (الدنيا كما يمكن أن تكون) يقول فيلسوف القرن العشرين, نقلاً عن المفكر ج. كول: (السؤال الذي أريد أن أطرحه هو: ما الشر الأساسي الذي يجب أن يتصدى له المجتمع الحديث? سيقول الكثيرون إنه الفقر, بينما يحسن بهم أن يقولوا: العبودية). ويقول راسل معقبًا: الأمر بالعكس, الفقر هو العرض, الداء الأساسي هو العبودية, الناس لا يستعبدون لأنهم فقراء بل إنهم فقراء لأنهم مستعبدون. وهو محق - ولو بعض الشيء في ذلك - من حيث إننا لو أطلقنا رقاب العباد, ومنعنا حكامًا مستبدّين سفهاء وجهلة من تبديد ثروات البلاد التي يحكمونها تحت شعارات بلهاء زائفة وحماقات لا طائل وراءها, لأمكن القضاء على الفقر كما نعرفه نحن سكان العالم الثالث. والفقر ليس السبيل الوحيد إلى العبودية, وهناك شر آخر يبغضه راسل أكثر مما يبغض الفقر وهو الحرب. كان أسرى الحرب - ولايزالون! - يؤخذون أخذ الرقيق, وقد عاد الجيش المصري من حرب المورة بسبية يونانية أصبحت بعد ذلك جدة أمير الشعراء أحمد شوقي (الخير والشر توأمان حقًا). إلا أن الناس يعانون العبودية تحت وطأة شيئين: السلطة الحاكمة, والتقاليد السائدة. وكما كان المصريون يقدمون العرائس قربانًا للنهر, فإنهم لايزالون - وغيرهم - يمارسون وأد بناتهم بممارسة هذه الجريمة الفظيعة التي تسمى (الختان) وللسبب نفسه, وهو الافتقار إلى المعرفة. وكما عرفنا أن النهر ليس إلهًا, حريٌّ بنا أن نعرف أن تمزيق أعضاء البنات ليس سبيلاً إلى العفة, بل إلى أدواء نفسية وصدمات عصبية ليس هذا مجال الحديث عنها إلا من حيث إنها عالم من العبودية قائم بذاته.

          وتلعب السلطة دورًا هائلاً في إفقار الشعوب, الواقع أنه لا يوجد شيء اسمه بلد فقير, هناك بلاد تُساء إدارتها وتُنتهك حرماتها, وتدمّر مؤسساتها الإعلامية, وتتلف ثرواتها, وتُنتفى آدمية شعوبها, من أجل أن ينتفع بلطجية السلطة بما يأتي به مما هو أوفر من مال قارون, وأثمن من حجر الفيلسوف.

          كما أننا لا نلقي بمسئولية الثقافات السائدة على أكتاف السلطة وحدها. ولو تأملت أحوال الفقراء في منطقتنا من العالم, لوجدت وصفة نافعة في التخلص من الفقر, وهي الحد من الإنجاب كالجرذان, والكفّ عن تبديد الأرزاق في تدخين المعسّل وغيره من الآفات, واستهلاك أطنان من القهوة والشاي, لا أظن أحدًا يستمتع برشفة واحدة منها, إنه فقط يحاكي الآخرين, ناهيك بممارسة ألعاب الزواج والطلاق كالطاولة والكوتشينة.

هل نحن حقًا نحب الحرية?

          استيقظ الضمير الأمريكي بعد سبات طويل كانت أثناءه كندا - إلى الشمال - قد قضت على امتلاك الرقيق, وكذلك المكسيك إلى الجنوب. ومن المفارقات المثيرة, أن ولاية تكساس كانت قد تخلصت من هذا الداء البشع وهي تابعة للمكسيك, وعندما استولت عليها الولايات المتحدة في حربها مع جارتها الجنوبية, عاد إليها الداء, ولم تشفَ منه إلا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية, واسترداد وحدة الأمة. جاء تحرير العبيد في ولايات الجنوب فجائيًا بشكل ما, ووجد الكثيرون منهم أن الحرية ليست كلها خيرًا, فإلى أين يذهبون. فالحرية إن كان تعريفها أن يفعل المرء ما يشاء بحياته, فهي مصحوبة بهذا الإحساس المخيف, وهي أنه يصبح أيضًا مسئولاً عن نفسه.

          كان سيجموند فرويد يرى أن هناك فجوة هائلة بين الفرد والمجموع, وأن الفرد بطبيعته معاد للمجموع, وأن على المجتمع أن يستأنسه بإشباع حاجاته, وأنه - الفرد - لا يتغير إلا بقدر ما يبذله المجتمع من ضغط عليه. أما جون ديوي فيقول: (إن الخطر الذي يتهدد الديمقراطية عندنا لا يتمثل في وجود مجتمعات شمولية, بل إنه ما يوجد في أعماقنا نحن, وفي مؤسساتنا نحن من الميل إلى تقبّل السلطة, وإلى الانتظام مع الآخرين والانبهار بـ(القائد) كما نراه في غيرنا من المجتمعات). أما الروائي الفرنسي الكبير أونوريه دي بالزاك, فيقول في كتابه: (معاناة المبتدع): (لدى الإنسان ذعر من الوحدة, ومن بين جميع أنواعها, الوحدة الأخلاقية أشدها إثارة للرعب. وهو يستخدم كل طاقة لديه وكل وسيلة في تجنبها, وهل كان إبليس يجد رفاقًا دون هذه النزعة التي لا تقاوم?!, وللمرء أن يكتب ملحمة بأكملها حول هذه المسألة, وسيكون ما يكتبه مقدمة لـ(الفردوس المفقود), لأن الفردوس المفقود ليس سوى اعتذار تمرّدي).

          يقول أحد علماءالنفس: (أليس من المحتمل أنه بجانب الرغبة الدفينة في الحرية, تكمن في نفوسنا رغبة غريزية في الخضوع? وإلا فكيف نفسّر انصياع الملايين منا لزعمائهم? وهل ننصاع دائمًا للقوة الخارجية القاهرة, أم لدافع من أعماقنا, كالضمير أو الواجب أو لسلطة لا اسم لها, كالرأي العام? هل هناك إحساس خفيّ بالطمأنينة يأتي من الخضوع? وماهو جوهر هذا الإحساس?).

          قد يمكننا أن نحاول الإجابة. نعم, جوهره هو فقدان الثقة بالنفس وعدم الرغبة في تحمّل المسئولية عن أنفسنا, تخيل مدرسًا يقود صفًا من التلاميذ الصغار في طريق مزدحم, وفجأة يختفي. لن يحسّوا بأنهم ناعمون بالحرية, سيحسّون بالذعر من المسئولية التي هبطت على رءوسهم, كلهم مثل كاترين, جاهلون بالحياة. عماد المسئولية هو المعرفة, والذين لا يعلمون لا يتساوون مع الذين يعلمون, والشعوب لن تستطيع أن تمارس الحرية - ولن تستحق ذلك - إلا إذا أتيح لها أن تستنير بالمعرفة, والديمقراطية لمن لا يقدرون عليها, ستخنق نفسها أو سيزهقونها هم.

 

محمد الحديدي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات