المقام العراقي.. نغم وطرب وذكرى

المقام العراقي.. نغم وطرب وذكرى
        

كلمة مقام لغةً, تعني موقع القدمين أو ما يعتليه الشاعر أو المغني أثناء الإنشاد أو الغناء.

          المقامات جمع مقامة وهي المجلس والجماعة من الناس, وتطلق المقامات أيضًا على خطب من منظوم ومنثور, كمقامات الحريري والهمذاني. وأول من أطلق كلمة مقام هو قطب الدين بن مسعود بن مصلح الشيرازي المتوفى سنة 1310م في كتابه (درجة التاج لغرة الديباج).

          والمقام اصطلاحاً, تعني مجموعة من الأنغام متسلسلة أو غير متسلسلة وأي تغيير يحصل في هذا النظام نحصل على مقام آخر.

          حين تذكر كلمة (مقام), في الموسيقى, نعرف بداهة أنها تعني نغمة ما, أو سلمًا من سلالم الموسيقى, كأن نقول مقام راست أو مقام بياتي, على سبيل المثال, ونعني بذلك نغمة راست أو سلم راست, والأمر يشمل بلدان الوطن العربي. في حين أن عبارة (مقام عراقي) تنطبق على العراق فحسب, ذلك أنها تعني بالذات نوعًا من أنواع الغناء التقليدي ينفرد به العراق دون غيره من بلدان الوطن العربي.

          والمقام هو نمط غنائي يقوم على نغمة معينة. فالمقامات العراقية عبارة عن مؤلفات غنائية وموسيقية, تتداخل فيها مجموعة أنغام منسجمة بعضها مع البعض الآخر, تتكامل في بنائها النغمي وحسن صياغتها وجمال انتقالاتها بين قطعة وأخرى أو جنس وآخر, يرتجل فيها المغني أو من يسمى (قارئ المقام) حسب قدراته الصوتية, وخبرته في علم المقامات, وارتجاله هذا في غناء المقام يخضع لشروط متوارثة عبر الأجيال, وقواعد أساسية تنطبق على المقام عمومًا, وأخرى فرعية لكل مقام على حدة. هذه القواعد تندرج ضمن عدة أركان, تصل أحيانًا إلى ستة وأحيانًا أقل من ذلك. بدءًا من التحرير أو البدوة وانتهاء بالتسلوم (التسليم) وما بينهما مجموعة من الجوابات والقرارات والقطع والأوصال يقرأها القارئ بانسجام مع الآلات الموسيقية التقليدية بشكل تعارف عليه أهله.

          قليلة هي الأبحاث حول المقام العراقي, وعلى قلتها فقد حملت الآراء المتناقضة حول تاريخه ومنبعه. فهناك من أعاد تاريخه إلى العصر العباسي ومنهم من يرد أصله إلى ما قبل ذلك بكثير. فالحاج هاشم محمد الرجب يخلص في مؤلفاته إلى أن (المقام العراقي) أو المقامات العراقية الحالية لا يرتقي زمانها إلى أكثر من 300 أو 400 سنة قبل الآن. ويذكر أن المقامات العراقية مؤلفة من أجناس وعقود غنائية ثلاثية ورباعية خماسية وسداسية وقليل منها سباعية. بينما الموسيقى والغناء في العصر العباسي وما بعده ثمانية أي مؤلفة من ثماني نغمات (أوكتاف). والمقامات العراقية مقامات غنائية, بينما المقامات في العصر العباسي وما بعده مقامات موسيقية أي سلالم موسيقية لأجل التلحين كالسلالم الموسيقية الشرقية المثبتة في الكتب الموسيقية الحالية. ثم إن الكتب الموسيقية الخطية منها والمطبوعة التي ألفت خلال العصر العباسي ومابعده أي إلى نهاية القرن التاسع الهجري, القرن الخامس عشر الميلادي لم يرد فيها أي ذكر للمقامات العراقية الحالية. إذ لو كانت موجودة في وقتهم وعصرهم لكانوا ذكروها وشرحوها وشرحوا أركانها كشرحهم للأبعاد والسلالم والأوزان والإيقاعات والآلات الموسيقية وجميع ما يتعلق بفن الموسيقى والغناء شرحًا مسهبًا ومفصلاً.

          في حين أن شعوبي إبراهيم, عازف آلة الجوزة ومدرس المقامات العراقية, يرجع تاريخ المقام إلى العصر الأول للخلافة العباسية, حيث وصلتنا أخباره من الكتب الخطية والمؤلفة من قبل فلاسفة وأعلام الموسيقى آنذاك والتي حققها الباحثون ويثبت أن هذه الكتب ذكرت أسماء المقامات الموجودة والمتداولة في العراق اليوم, كما ذكر الفيلسوف ابن سينا (... إن بعض النغمات يجب أن تخصص لفترات معينة من النهار والليل ومن الضروري أن يعزف الموسيقار في الصبح الكاذب نغمة راهوي وفي الصبح الصادق حسيني وفي الشروق رست وفي الضحى بوسليك وفي نصف النهار زنكولا وفي الظهر عشاق وبين الصلاتين حجاز وفي العصر عراق وفي الغروب أصفهان وفي المغرب نوى وفي العشاء بزرك وعند النوم مخالف...). والواضح أن هذه الأسماء لاتزال متداولة في المقامات العراقية اليوم.

          أما صفي الدين الأرموي البغدادي المتوفى سنة 1294, فيذكر عن شد الأوتار (دوزان) بطرق مختلفة نظرًا لما يتركه كل شد من أثر في النفس مغاير وله متعة مختلفة عن الشّد الآخر. (فمنها ما تؤثر قوة وشجاعة وبسطًا وهي ثلاثة: عشاق وبوسليك ونوى. أما راست ونوروز وعراق وأصفهان فإنها تبسط النفس بسطًا لذيذًا لطيفًا وأما بزرك وراهوي وزيرافكند, وزنكولا وحسيني فإنها تؤثر نوع حزن وفتور...).

          جاء في مقدمة كتاب (الدر النقي) في علم الموسيقى للشيخ أحمد بن عبدالرحمن الموصلي القادري الرفاعي الشهير بالمسلم المتوفى في حدود سنة 1150 هجرية. ذكر العديد من أسماء المقامات المتبعة في العراق فلقد كتبها الرفاعي وهو من أهل الموصل, كان ذا إلمام بالمقام والاشتغال فيه.

          ذكر في مقدمته المقام والدرجات العليا, المحير والأوج والعراق والمخالف وأصفهان والصبا والحجاز والعشاق والمقابل والإله والفصول وذكر تعادل الأوزان والزمن (الإيقاع) والفروع من الأصول ونوروز العرب ونوروز العجم وغيرها.

          أما ثامر عبدالحسن العامري فهو يدحض مقولة الرجب بأن المقامات عمرها ثلاثمائة سنة أو أكثر, وإن المقامات عراقية صرفة, استحوذت على مشاعر الذين توالوا على احتلال العراق أثناء هيمنتهم ووجدوها مادة دسمة جميلة. وكذلك هي ليست بالتأكيد يهودية, حسب البعض, بل إن اليهوداشتغلوا بها مثل ضروب النشاطات الأخرى لكونهم أفرادًا ضمن المجتمع العراقي, خاصة عندما تخلى بعض المسلمين عن ممارسة العزف والغناء في العهد العثماني بحكم التقاليد الدينية فأتيحت لليهود فرصة العمل في الموسيقى بكل أصولها المتعارفة لدى المغنين المسلمين الذين عاصروهم. فالمقامات تحمل نكهة شرقية واسعة وهي حقيقة لا يمكن الطعن بها. ويقول العامري: (... ربما ابتكر الأتراك والفرس بعض المقامات الخاصة بهم ولكن ليس معنى هذا أن تصبح مقاماتنا ملكًا لهم). وجاء العامري بالعديد من الوثائق والمخطوطات التي تقطع دابر الشكوك. مغني المقام العراقي الفنان حامد السعدي, يذكر أن اسم المقامات العراقية ونسبتها يدلان على ذلك فهي عراقية صميمة منذ عهد العباسيين, وما قيل من أن بعض الأسماء الأعجمية فيها تدعو إلى التشكيك في صحة كونها عراقية بحتة, فإن ذلك لا عبرة له, ومن ادعى كون المقامات العراقية تركية المنشأ أو أن الأتراك العثمانيين جاءوا بها إبان حكمهم العراق لا يقوم عليه دليل, لأن الأتراك أنفسهم لا علم لهم بما في المقامات العراقية من عمق ومن تفصيل, وهم حكموا في أنحاء البلاد العربية والأرجاء فما تركوا فيها شيئًا يشبه هذه المقامات, مثل مصر وتونس واليمن وسورية والجنوب الغربي من الجزيرة العربية, فليس من المعقول أن يصطفوا العراق وحده بهذه الثروة النغمية الضخمة دون أن يبقوا لغير العراقيين بقية من ذلك.

          ولا يستغرب السعدي, أن يأخذ المغنون العراقيون بعض ما استحسنوه من أنغام الشعوب الأخرى وما رأوه منسجمًا تمامًا مع طبيعة موسيقاهم العريقة. ومن ملاحظة أنماط المقام العراقي نرى أن هناك مقامات وأنغامًا تبدو عليها سحنة البداوة العربية كالجبوري والحكيمي, فالمقامات العراقية المعروفة في بعض الأنحاء المجاورة إن كانت غير عراقية الأصل فلقد باتت بحسن تصرف المغنين العراقيين عراقية, إذ لعبت بها حناجرهم فأزالت عجمتها, هذا إن لم تكن الأنغام الأعجمية هي نفسها عراقية عربية بلغت أسماع الأعاجم منذ العصور الأولى. وحول موطن المقام العراقي, فالمقامات العراقية كالمنصوري والحليلاوي والخنبات مثلاً مقامات غنائية لا تغنى إلا في العراق فقط.

          أما في تركيا وإيران والهند وباقي الأقطار الشرقية ففيها مقامات غنائية وأسماء بعض منها كأسماء مقاماتنا إلا أنها تختلف عنها في التحارير والقطع والأوصال والميانات وحتى في الأداء. وقد عرف المقام في بغداد والموصل وكركوك وبعض المدن الكردية مع اختلافات بينها في صياغته وتعاطيه وبعض تسمياته, مع ظهور قراء مقام في بعض المدن العراقية كالبصرة والحلة وسامراء.

          في الموصل تختلف المقامات عنها في بغداد, في التحارير والبداوات والقطع والأوصال والميانات والجلسات. ولا يتقيد قراء المقام في الموصل بتسلسل أركان أي مقام إذ إن المغني أو القارئ يحرر المقام وبعد التحرير يأخذ أي قطعة تروقه. وإذا أعاد غناء المقام نفسه قد يأخذ قطعة غير تلك التي أدخلها في المرة الأولى وهكذا. بينما في بغداد خلاف ذلك, إذ إن المغني بعد تحرير المقام يسلسل أركانه بحسب ما هو متعارف عليه ومتبع عند أربابه وإذا أعاد غناءه فهو يعيده كالمرة الأولى.

الأغراب والمقام

          تعددت الاحتلالات, وتتالت الفتوحات على العراق منذ سقوط الدولة العباسية وحتى اليوم, ومن البداهة أن تتأثر المقامات العراقية بعادات المحتل ولغته وموسيقاه كما هو العكس تمامًا. فنجد مقامات عربية أصيلة مثل الصبا وأخرى تركية مثل الأورفه وفارسية مثل السيكاه وكردية مثل اللاووك وهندية مثل الراست الهندي. لكن الأكيد أن المقامات صهرت بحناجر عراقية فأصبحت ذات خصوصية عراقية عربية, وخاصة حين نعرف أن لكل قارئ طريقته وأسلوبه في إدخال قطع وأوصال والابتكار في التحارير والبداوات والقرارات والجلسات والميانات والتساليم. إنها مادة فيها خصوصية ضمن الخصوصية, والتلاميذ نقلوا أسلوب كل منهم عبر الأجيال مشافهة.

          ويعود سبب بقاء الألفاظ الأعجمية في بعض المقامات إلى أن بعض أو أكثر المغنين كانوا يتغنون إرضاء للولاة والوزراء والأمراء الذين يجهلون اللغة العربية. أما سبب الإبقاء على هذه الألفاظ الأعجمية, فهو خوف المغني عليها من الضياع إن هو أبدلها بكلمات عربية, خاصة في ذلك الوقت حين لم يكن قد تم اختراع آلات التسجيل, لكي تحفظ المقامات, حيث كانت تنتقل مشافهة كما أسلفنا عن طريق أرباب المقام وتلامذتهم, رغم وجود محاولات من بعض القراء وضع كلمات عربية بدل تلك الأعجمية كما فعل هاشم الرجب في مقام الراست حين سجله في إذاعة بغداد عام 1959.

          كما كان مبدأ الوصلة في الغناء المصري والتي تقوم على غناء قصيدة ودور وموشح وطقطوقة مثلاً في وصلة غنائية واحدة على مقام واحد, فإن المقامات العراقية كانت تغنى غالبًا ضمن فصول, وعددها خمسة. والفصل مكون من عدة مقامات متعارف عليها تغنى واحدًا بعد الآخر على أن يبدأ بمقام رئيسي. وبين مقام وآخر تغنى بستة (أغنية شعبية) من قبل أعضاء الفرقة الموسيقية لكي يستريح المغني بعد قراءته للمقام ولكي يستعد لقراءة المقام الذي يليه, وبين فصل وآخر استراحة عامة للمغني والموسيقيين.

          والفصول الخمسة هي:

          1 - فصل البيات, ويتضمن مقامات: البيات, ناري, طاهر, محمودي, سيكاه, مخالف وحليلاوي.

          2 - فصل الحجاز, ويتضمن: حجاز ديوان, قوريات, عريبون عجم, إبراهيمي وحديدي.

          3 - فصل الرست, ويتضمن: رست, منصوري, حجاز شيطاني, جبوري وخنبات.

          4 - فصل النوى, ويتضمن: نوى, مسجين, عجم عشيران, بنجكاه وراشدي.

          5 - وفصل الحسيني ويتضمن: حسيني, دشت, أورفة, أرواح, أوج, حكيمي, وصبا.

          يذكر أن هناك العديد من المقامات غير داخلة في هذه الفصول مثل النهاوند, الجمال, البهيرزاوي, البشيري, المقابل, الحويزاوي, القطر, السعيدي, الخلوتي, الأوشار, الجهاركاه, شرقي دوكاه, المثنوي, الهمايون, الحجاز كاركرد, التفليس, الحجازكار, المدمي, بختيار, الدشت ومقام اللامي.

أنواع المقامات:

          - من حيث الكلام الذي يغني به: هناك مقامات تغنى بالشعر العربي الفصيح وعددها 33 مقامًا. ومقامات تغنى بالشعر العامي الذي يسمى الزهيري أو ما هو متعارف عليه بالموال البغدادي الذي يتألف من سبعة أشطر ويسمى أيضًا (نعماني), حيث الأشطر الثلاثة الأولى تنتهي بكلمة واحدة متحدة في اللفظ مختلفة في المعنى (جناس), وثلاثة أشطر الأخرى تنتهي بكلمة واحدة متحدة في اللفظ مختلفة في المعنى أيضًا. أما الشطر السابع فينتهي بكلمة الأشطر الثلاثة الأولى مع اختلاف المعنى أيضًا. وعدد المقامات التي تغنى بالشعر الزهيري 20 مقامًا.

          - من حيث التصنيف إلى: (مقيد) و(مطلق), فهناك مقامات مقيدة: وهي المقامات التي يجب على المغني أن يؤدي جميع أركانها وقطعها وأوصالها ومراعاة تسلسلها بحسب ما هو متعارف عليه عند أربابه. وهناك مقامات مطلقة: وهي التي لا يتحتم على المغني أن يراعي فيها تسلسل أركانها وقطعها وأوصالها.

          وسميت المقامات العراقية نسبة لأمور عدة:

          حسب النسبة والمستقر, مثل مقام الحسيني, أو حسب المستقر فقط مثل مقام السيكاه. أو حسب النسبة فقط مثل مقام المدمي. وقد يكون على اسم مدينة مثل الأورفة والبهيرزاوي. أو على اسم عشيرة مثل البيات. أو نسبة إلى اسم رجال مثل الإبراهيمي أو لقب عائلة مثل الحكيمي وغيره.

          ويقال إن مقام المنصوري جاء نسبة إلى منصور زلزلة, في العهد العباسي, الذي كان أحد قراء المقام والمجيدين له ومبدعًا فيه, والذي ابتكر مقامًا موسيقيًا وأدائيًا سمي بالمنصوري واعتبر منذ ذلك الوقت من المقامات الرئيسية التي تؤدى بالشعر العربي الفصيح, ومن الناحية الموسيقية أدخل منصور (وسطى زلزلة) التي عرفت لاحقًا بالربع صوت, وقد ورد ذكره لدى الأصفهاني والأرموي وشهد له إسحق الموصلي واشتهر بأنه أصلح السلم بإدخاله الوتر الثالث الأوسط إذا اختلف علماء زمانه في موضع نغمة السيكاه على آلة العود وكانوا يسمونها الوسطى.

أغراض المقام العراقي

          اعتنى العراقيون بالمقام العراقي في فترة من الفترات حتى بات جزءًا من حياتهم ومناسباتهم الدينية والدنيوية, وكان التنافس مستديمًا بين قرّاء القرآن والمقام على الدوام, وتم توظيف المقام العراقي في أغراض عدة منها:

          1- الجالجي البغدادي. الجالجي لفظة تركية وتعني حفلة. ويقدم عادة في حفلات الأعراس. وفي ليالي رمضان تكون حفلات الجالجي في المقاهي البغدادية, وتختلف طقوسها عن تلك التي في الأعراس وما شاكلها من مناسبات, وكذلك تختلف المقامات المتبعة حسب المناسبة.

          2- المقامات في المولد النبوي. المقامات فيها تؤدى بشكل خاص بالمولد وعدة مقامات لها طرقها الخاصة وأربعة فصول مختلفة عن فصول (الجالجي البغدادي).

          3- مقامات الأذكار. أي تلك التي يعتمد فيها على الدفوف, وتقام في التكايا والجوامع المشيدة في المحلات الشعبية التي يدرس فيها الملالي القرآن الكريم قبل انتشار المدارس, وقد باتت من الماضي, وتكون الأبيات الشعرية على شكل غناء صوفي وهي أربعة أذكار معروفة: الذكر المصري والذكر الرفاعي والذكر القادري والذكر البغدادي.

          4- مقامات تؤدى أثناء التمجيد في الليالي المباركة أو في استقبال الأعياد. ويتم التمجيد عادة من فوق المآذن, والمقامات المتبعة في التمجيد هي مقام السيكاه والحجاز ديوان. أما الشعر الصوفي المغنى, فيؤدى من مختلف المقامات والأنغام كمقام الأرواح, والمحمودي, عجم عشيران, وعريبون عرب, وعادة ما ينتهي التمجيد في مقام الصبا. وفي ليلة العيد, اعتمد الممجدون نغم الجهاركاه الذي يحمل صدى الفرح والبشرى.

          وكان أهل العراق يحبذون الخطيب الذي يتغنى بالأنغام مثل الحسيني والصبا. كما في المراثي الحسينية, حيث يكون لجمال الصوت الدور الفعال في شحذ المشاعر.

          5-  في الرياضة. كان يستخدم في رياضة تسمى (الزورخانة). وهي نوع من رياضة المصارعة وبعض التمارين في حلبات, ووفق أصول معينة وأنغام وأوزان إيقاعية خاصة, حيث يوجد رجل يسمّونه المرشد, يضبط إيقاع المصارعين على (طبلة) كبيرة في يده, ويغني لهم ما يلائم ألعابهم من الأنغام المنشطة للهمم والعزيمة, والمصارعون لا يتحركون إلا وفق إيقاع نقرات المرشد وألحانه, وللزورخانة طقوس دينية خاصة بها, وهي تضفي على ممارسيها سمات القوة والرصانة والخلق الرفيع. وهي أيضًا باتت من الماضي.

أهم قرّاء المقام العراقي

          يطلق كلمة قارئ في العراق على مغنّي المقام, لما يحمله هذا النوع من الغناء من منزلة رفيعة ومقام عالٍ, تقارب منزلة قارئ القرآن. وكان عدد قرّاء المقام العراقي كبيرًا في جميع العهود, لكن ما وصلنا من أسماء هو بضع عشرات من أوائل القرن  التاسع عشر, وحتى اليوم, لعدم وجود أرشيف وأبحاث خاصة بالمقام قبل تلك الفترة. وبفضل الباحثين العراقيين الجادين, المهتمين بالحفاظ على هذا التراث الكبير والغني, تم منذ عقود, تثبيت أسماء أهم القرّاء في القليل من الكتب والمراجع التي تناولت أولئك مع منزلة كل منهم, وتعلّمه على أيدي سابقيه, وطريقة أدائه وأسلوبه, وكان البعض منهم يجيد غناء كل المقامات, ومنهم مَن يجيد بعضها, أو مَن يجيد مقامين أو حتى مقامًا واحدًا نذكر بعضاً منهم على سبيل المثال:

          الملا عبدالرحمن وليّ, والذي أخذ عنه القارئ - رحمه الله - شلتاغ, وعلي الصفوا شيخ قرّاء المقام في الموصل, وصاحب مدرسة آل الصفوا للمقام في الموصل, ويليه نجله أحمد, والملا حسن البابوججي, وحمد الشهير بأبواحميّد, وحافظ بكر وخليل الرباز.

          إسماعيل الفحام الموصلي: كان حكيمًا وعالمًا بجميع المقامات الأساسية وفروعها. مميزًا بصوت شجي حنون يسيل عذوبة ورقة, لذا كان مثار إعجاب كل قرّاء المقام والتلاوة الذين كانوا يتوافدون على مجالسه.

          يوسف عمر: من مواليد بغداد عام 1918م, رحل عنا في عام 1986م, تاركًا إرثًا عظيمًا, وفراغًا كبيرًا في فن المقام العراقي, إذ كان رائدًا من روّاده, وصاحب طريقة شكّلت في جوهرها خلاصة أصيلة لتجارب الكبار في المقام. ويعتبر خاتمة لطرائق أولئك.

          ناظم الغزالي: مواليد عام 1921م, توفي عام 1963. يعتبر ناظم الغزالي من أبرز المغنين المجددين في القرن العشرين, وبخاصة في الأغنية التي جعلها شخصية مستقلة خارج إطار المقام العراقي بعد أن كانت تابعة وملحقة به. ويعتبر من المغنين الذين قرّبوا المقام العراقي من الذائقة الشعبية لأسلوبه السلس والمتدفق, وتلوينات نبرته وروحه المعاصرة العاشقة للتحديث.

مغنيات المقام العراقي

          قلة هن النساء اللواتي تجرّأن على اقتحام فن المقام العراقي الذي اعتبر على مرّ العصور بأنه فن الرجال. وكل مغنية تحاول الدخول إلى عالم المقام الرجالي يطالها النقد اللاذع, وتحبط عزيمتها, وما تلبث بعد غناء بضعة مقامات أن تنكفئ وتعود إلى ألوان الغناء الأخرى. لكن بعضهن استطعن إثبات وجودهن وقدرتهن على أداء بعض المقامات مثل مائدة نزهت, حتى جاءت فريدة محمد علي لتثبت للملأ أن فن المقام العراقي هو فن الصوت القادر الكبير والواسع والخبير والأكاديمي, بغض النظر إن كان صوت رجل أو امرأة.

مستقبل المقام العراقي

          لقد ابتعد جيل المغنين العراقيين منذ سنوات عن هذا النوع من الغناء التقليدي. ولأسباب عدة ليست غافلة على أحد بينها أسباب محلية حيث الوضع السياسي, وهناك أيضًا أسباب خارجية تتعلق بالعولمة والتكنولوجيا. فالثقافة الموسيقية باتت أبعد ما تكون عن جيل الشباب مما دفعه للابتعاد عن هذا الغناء الصعب, والجدي والتقليدي, وهو يرى العالم من حوله في فورة وثورة معلوماتية غير مسبوقة تطال هذا الجيل بالدرجة الأولى, وتؤثر في الحركات الموسيقية في العالم. ومن اللافت, أن نجد بعض الباحثين الجادين مثل حسين الأعظمي وهو يدعو إلى التجديد والتحديث في طرق أداء المقام العراقي لكي يواكب روح العصر, ويجذب الشباب إلى سماعه, والعودة إلى أدائه كي لا ينطمس هذا الكنز الغنائي. وبالفعل, فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها حول إمكان تحديث المقام العراقي ليلائم العصر الحالي, عصر الإلكترون والكمبيوتر والمعلوماتية, فمثلاً كيف يمكن الاستفادة من تقنيات العصر في تطوير أو تقديم المقام بما يتلاءم ومتطلبات شباب اليوم وتطلعاتهم? هل من الممكن إدخال آلات جديدة على الفرقة - على سبيل المثال -? هل يمكن تغيير أو إضافة أو إلغاء بعض ما يعوق استمرار وبقاء المقام العراقي? ماذا يريد السامع الشاب من المقام العراقي كي يسمعه? وما الشكل والمضمون, وكيف يمكننا تطوير أو تقديم المقام من دون تشويهه أو الاعتداء على حرمته?

          والحقيقة فإن رواد المقام الموجودين في هذا المضمار باتوا اليوم قلة, يعدون على أصابع اليد الواحدة, وهذا أمر يبعث على الخوف واليأس, فبعد تلك الأعداد الهائلة التي كانت تخوض وتتنافس وتزدحم بها المقاهي العراقية والمسارح والمناسبات والأذكار, ويحوم حول كل منهم مريدون وتلاميذ ينقلونه إلى الذين بعدهم, بات المقام في خطر حتى في ظل التدوين الموسيقي له أو لبعض المقامات. كل ذلك يبدو اليوم إلى اندثار, والسؤال الآن هو: ما مستقبل المقام العراقي في داخل العراق بعد أن انفرط عقده في أنحاء العالم. اعتزل مَن اعتزل, ورحل مَن رحل, وغادر الدنيا مَن غادر. ورغم الدور الكبير الذي يلعبه فنانو المقام في دول الاغتراب, لكن المسئولية في تربية الأجيال في الداخل على احترام هذا الإرث والحفاظ عليه بشكل يحتاج إلى دراسة عاجلة وتطبيق فعلي, تقع على عاتق قلة من الغيورين على الهوية والكنوز الموسيقية, أو ما تبقى من هذه الكنوز, ونعني بهم أمثال الفنان حسين إسماعيل الأعظمي والموسيقيين الذين معه, حيث يتولى مسئولية بيوت المقام العراقي, والحفاظ عليه, وإحياء الأمسيات في ظل الظروف الحالية الصعبة.

 

سحر طه   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فرقة المقام العراقي التي تكونت سنة 1933





المطربة فريدة محمد علي في شبابها





مطرب المقام العراقي يوسف عمر





ناطم الغزالي أستاذ المقام العراقي بلا منازع





مائدة نزهت من اشهر مطربات المقام





حامد السعدي مازال له تلاميذ يأخذون عنه