المعطف (قصة × صفحة)

المعطف (قصة × صفحة)
        

          قبيل العيد, إلحاح تطاردني به أختي لأؤجل السفر إلى الوطن وأقضي العيد بينهم, وأنا جزء من قلبي يهفو إلى البقاء معها في نيويورك السابحة بأضوائها وزيناتها الساحرة, وآخر يهفو إلى طي الأيام القليلة الباقية, وإلى استباق المسافات البعيدة ليحط في رحاب الوطن.

          تأخذنا - أنا وهي - حمى التردد على الأسواق لاستكمال شراء الهدايا للأحبة والأصدقاء, تكتظ الحقائب بما نقذفه فيها في غدونا ورواحنا, وتزدحم عبر الهاتف أسئلة الأصدقاء والمعارف من أبناء الجالية هناك: هل من مكان لهدية صغيرة تحمل إلى الأهل في الوطن? فيطالعهم جواب أختي القاطع المؤكد: لا...لا مكان في الحقائب حتى...لمغزّ إبرة!

          كان هذا حقيقة إلى درجة أننا بذلنا - أنا وهي - جهودًا سال لها جبينانا عرقًا, ونحن نغلق تلك الحقائب الثقيلة ثم نقفلها. تلك الحظة, اختار أن يدخل علينا دون إعلام هاتفي مسبق. لم يخف علينا ارتباكه ولا نظرته المخالسة للحقائب المقفلة! سحب ببطء رسالة من جيبه: هل أطمع في إيصالها لأسرتي?

          حمدت الله أنها رسالة أخذتها ودفعت بها إلى قلب حقيبتي اليدوية التي غدت, بتأثير طبقات الرسائل, منفلشة كحقيبة ساعي البريد أيام زمان!

          شرب القهوة, بدا حائصًا شديد الارتباك, تبادلنا - أنا وأختي - نظرات خفية متسائلة, رأيناه بعد تردد يمد يده فجأة إلى داخل سترته ويخرج منها صرة مضغوطة يدفعها إلي, وقد غدا وجهه بلون حبة الشمندر:

          - هذا...(لسليمان)...أفي حقائبك مكان له? قرأ التساؤل في وجهينا.

          - سليمان, ابني, ذو الخمسة أعوام.

          لحظنا ارتعاشًا في شفتيه, وبريقًا لدموع في عينيه, توقف للحظات - لم نشك أنها كانت لابتلاع دموعه - قبل أن يردف بابتسامة مغتصبة:

          - هذا المعطف اشتريته له منذ ثلاث سنوات.

          - ثلاث سنوات?

          هتفنا معًا وكأننا نقول: ألم يكبر الطفل على المعطف بعد سنوات ثلاث?

          قرأ الشك والاستغراب في هتافنا فأوضح: في أول عيد اشتريت له المعطف, رفض المسافرون إلى الوطن حمله لامتلاء حقائبهم. وفي العيد الثاني عدت إلى تبديله بواحد أكبر, تعرفان أنه مادامت قسيمة الشراء موجودة, فالتبديل ممكن مهما يمض على زمن شرائه.

          حقائب المسافرين  التي لم تتسع له مرة ثانية قادتني هذا العيد إلى تبديله للمرة الثالثة بواحد أكبر! وهكذا كنت أجد عزائي دائمًا في قسيمة الشراء التي أحافظ عليها, خوف الضياع, محافظتي على روحي! فهل تسمحين بـ.....

          لم أدعه يكمل صوغ عبارة الرجاء, خطفت الصرة من يده وأنا أكبح دموعًا اندفعت إلى عيني بقوة, فتحت حقيبتي...أخرجت منها بعض ملابسي ودفعت مكانها بالصرة!

          سمعت هتاف فرحه من خلفي: الآن, لن أضطر إلى الاحتفاظ بالقسيمة.

          نهض واقفًا وراح يمزق القسيمة نتفًا وكأنه يرقص!

          بعد أن خرج, ومن خلال دموعنا وشهقاتنا التي أرخينا لها العنان, تدفقت كلماتي, مختنقة متقطعة, في وجه أختي: أو تصرّين عليّ بعد هذا أن أقضي العيد معكم بعيدة عن أولادي في الوطن?!

 

وفاء خرما   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات