هل سيموت الأب وتختفي الأسرة البيولوجية?

هل سيموت الأب وتختفي الأسرة البيولوجية?
        

          هل يتراجع نظام العائلة? وهل تفقد دورها الاجتماعي ووظيفتها في استمرار الحياة? وهل نشاهد علاقات أخرى تعلو على المبدأ البيولوجي الذي يربط أفراد الأسرة معًا?

          يبدو أن التطورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة والمتسارعة, التي يشهدها العالم منذ عقود قليلة, سوف تفرض على المجتمع الإنساني أن يراجع موقفه من كثير من النظم الاجتماعية الأساسية, التي ظلت تعتبر طيلة العصور السابقة من أهم ثوابت ودعائم الحياة الاجتماعية وأن يعيد النظر في كثير من أنماط الحياة التقليدية المتوارثة, وأن يدخل عليها بعض التعديلات الجذرية حتى تتلاءم مع الأوضاع الجديدة, والتي ينتظر أن تستجد في المستقبل غير البعيد, وأن يتنازل عن بعض الأفكار التي كانت تؤخذ دائما على أنها مسلمات لا تقبل الجدال أو المناقشة, وأن يستعد لمواجهة بعض التحولات والتعديلات التي سوف تلحق بتلك النظم الاجتماعية الأساسية, بل والتي قد تعرضها لخطر الاختفاء والاندثار. وربما كانت أخطر هذه التغيرات والتحولات هي تلك التي يتوقع الكثيرون أن تلحق بنظام العائلة الذي كان يعتبر دائما الركيزة البيولوجية الأساسية لقيام الحياة الاجتماعية واستمرار الجنس البشري. فثمة من المؤشرات ما يدل على أن هذا المبدأ البيولوجي المهم المتمثل في العلاقات الجنسية المشروعة, والمعترف بها من المجتمع سوف يتراجع, أو هو في سبيله بالفعل إلى التراجع كأساس جوهري يبرر وجود العائلة كنظام اجتماعي, له كيانه ووظيفته, بل إن ثمة احتمالات قوية باختفاء ما يعرف باسم العائلة النواة nuclear family أو الأسرة المكونة من الأب (الزوج) والأم (الزوجة) والأولاد من كلا الجنسين, والذين يعيشون مع أبويهما حتى تحين لهم فرصة الزواج والانفصال بالتالي لتكوين عائلات نووية خاصة بكل منهم/ منهن. فهذه الأسرة الصغيرة المحدودة العدد هي الشكل السائد الآن في المجتمعات الغربية, كما أنها هي الشكل الذي يتجه نحوه التنظيم العائلي في جميع أنحاء العالم بسرعات متفاوتة, بينما تتراجع أشكال العائلة الكبيرة والممتدة, التي قد يجمع الشخص فيها بين أكثر من زوجة مع أولاده وأحفاده منهن جميعا, والتي قد تضم إلى جانب ذلك عددا آخر من الأفراد الذين ينتمون إلى عدة أجيال ويرتبطون معا بروابط الأخوة والبنوة والأبوة والعمومة وملحقاتها وتفرعاتها كما كان عليه الشأن حتى عهد غير بعيد في المجتمعات الغربية ذاتها, وبخاصة في المناطق الريفية, وكما لا يزال عليه الحال في كثير من المجتمعات التقليدية حتى الآن, ولقد كانت الثورة الصناعية التي بدأت في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر هي العامل الأساسي المؤثر في تغيير ذلك النظام العائلي القديم إلى الشكل السائد الآن وإن لم تفلح تماما في القضاء على الروابط القرابية الممتدة, التي أصابها على أي حال كثير من الضعف والوهن نتيجة للتباعد المكاني.

          والتغيير الجوهري الذي سوف يلحق بالعائلة الصغيرة النواة, والذي يعطيه بعض الكتاب كثيرا من الاهتمام البالغ, هو الميل إلى إسقاط المبدأ البيولوجي من الاعتبار كأساس تقوم عليه العلاقات الزوجية الشرعية والمشروعة. فالعائلة نظام اجتماعي يستند إلى أصل بيولوجي يتمثل في العلاقات الجنسية بين الزوجين التي تهدف - إلى جانب المتعة الجنسية المشروعة - إلى الإنجاب بما يكفل استمرار الجنس البشري بوجه عام. ويميل كثير من العلماء إلى استخدام مصطلح (العائلة البيولوجية) في حديثهم عن عائلة المستقبل, ويقصدون بذلك المصطلح العائلة النواة, التي هي أصل كل التكوينات العائلية والقرابية الأكثر تعقيدًا, كما أن المصطلح نفسه يتضمن الاعتراف بطبيعة وشرعية العلاقات الجنسية بكل ما يتعلق بها من حقوق وواجبات والتزامات متبادلة بين أطراف هذه العلاقة. وإنكار المبدأ البيولوجي والتنكر له والخروج على مقتضياته هو الذي يهدد استمرار التنظيم العائلي المتعارف عليه حتى الآن في الغرب, وينبئ بتراجعه أمام المحاولات الجديدة التي يراها الكثيرون محاولات شاذة, وإن لم تكن فاشلة تماما لإقامة تنظيمات عائلية على أسس مغايرة للأساس البيولوجي المألوف (العلاقة الجنسية الطبيعية والمشروعة بين زوج وزوجة - أي بين ذكر وأنثى) واعتبار هذه العائلة البيولوجية مجرد نمط عتيق أو (موضة قديمة) تخطاها الزمن, لأنها تلتزم بقواعد وقوانين ومبادئ وضعتها سلطات أعلى من الفرد دون أن تأخذ في الاعتبار الاختلافات والفوارق والميول والنزعات والرغبات الفردية الخاصة, المتعلقة على وجه التحديد بالحياة الجنسية ذاتها, التي تقوم عليها العلاقات بين (الزوجين) أيا كان نوع هذين الزوجين. وثمة على أي حال ما يشير إلى انتشار هذه الأفكار في المجتمعات الغربية وظهور أنماط مختلفة من العلاقات الجنسية التي قد يقابلها المجتمع بالاستهجان والاستنكار في أول الأمر, ولكنها لا تلبث أن تنتشر بين جموع كبيرة نسبيا من الأشخاص من كلا الجنسين, بحيث تصبح نظما معترفا بها, بل وقد تصبح في المستقبل القريب هي النظم المألوفة والسائدة في مجتمع الغد. والأدلة على ذلك كثيرة:

علاقات دون زواج

          ففي أمريكا مثلا ارتفع عدد حالات المعاشرة المستمرة والمستقرة من دون زواج خلال عقد التسعينيات فقط من 3,2 مليون حالة إلى 5,5 مليون حالة. بينما تراجعت نسبة العائلات النواة, القائمة على الزواج الرسمي والمعاشرة الفعلية من 45% من كل العائلات في الستينيات إلى 25,6% مع بداية هذا القرن أي خلال أربعين سنة فقط على ما يقول دون فيدر Don Feder في نشرة أصدرها في مايو 2000 تحت عنوان Nuclear Meltdown Threatens Society في إشارة واضحة وصريحة إلى خطورة اختفاء العائلة النواة على المجتمع ككل, كما يذكر في هذه النشرة ذاتها أنه بينما لم يرتفع عدد العائلات التي يتولى فيها الأبوان تربية أطفالهما بنفسيهما إلا بنسبة 7% فقط ارتفع عدد (العائلات) ذات الوالد الواحد (الأب أو الأم) بنسبة 25% خلال التسعينيات, كما ارتفع عدد المواليد من علاقات جنسية مستقرة, ولكن دون زواج رسمي بنسبة 523% خلال العقود الثلاثة بين الستينيات والتسعينيات وهكذا.

          في الوقت ذاته (عام 2000) نشر ريتشارد برتود تقريرا عن (التكوين العائلي في بريطانيا المتعددة الثقافات) يرد فيه هذه التحولات التي بدأت تطرأ على مفهوم العائلة إلى عدد من العوامل الثقافية المتغيرة مثل قبول مبدأ المساواة في الحقوق الجنسية, بما يضمن حق التحرر في ممارسة الجنس والمعاشرة دون زواج رسمي, وحق المرأة المطلق في حرية التصرف في جسمها وإقرار حق المعاشرة بين أفراد الجنس الواحد ثم انتشار ظاهرة غياب أحد الزوجين عن العائلة سواء بالطلاق أو الهجران, فيما يعرف باسم (الرفض السلبي) لنظام العائلة وما تفرضه على أعضائها من حقوق والتزامات متبادلة. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا كله إلى ظهور تشكيلات وتنويعات (عائلية) عديدة تختلف عن العائلة النواة, الصغيرة في التكوين والحقوق والالتزامات بل وفي نوعية الروابط الاجتماعية والعاطفية لأن أعضاءها لا يشتركون معا في كثير من الأحيان في الأصل الجيني. وقد تعتبر المرحلة الحالية التي تشهد كل هذه التنويعات مجرد مرحلة تجريبية سوف يستقر بعدها العالم على شكل عائلة المستقبل مثلما استقر بعد الثورة الصناعية على العائلة النواة ولكن الواضح حتى الآن على الأقل أن كل هذه التنويعات تجد لها أرضا خصبة في المجتمع الغربي بغير تمييز, ولكن المهم هنا هو ضرورة التفرقة بين العائلة البيولوجية وأنماط (العائلات) المستجدة التي يتوقع الكثيرون أنها سوف تنتشر في كل أنحاء العالم في المستقبل غير البعيد, وأن أطراف العلاقة هم الذين سوف يحددون بمحض إرادتهم الشخصية الحرة نوع (العائلة) التي سوف يتولون تكوينها وينتسبون إليها ونوع الحقوق والواجبات التي يودون الالتزام بها, مما ينبئ في آخر الأمر باحتمال اختفاء العائلة البيولوجية كنظام اجتماعي مقبول, خاصة أن التقدم الهائل في مجال التكنولوجيا البيولوجية وأساليب التحكم في عملية الإنجاب وإمكان الإفادة من وسائل وطرق التخصيب الصناعي يجعل من السهل والميسور تحقيق الإنجاب مع الاستغناء تماما عن الجنس الآخر كعضو في العائلة, بل إن هذه الوسائل تعتبر مخرجا للمرأة للتخلص من سيطرة الذكور في المجتمع الأبوي والثقافة الذكورية التي تعمل على تهميش المرأة بنفس الطريقة ونفس المنطق الذي يرى أن انتشار العلاقات الجنسية بين الذكور هي وسيلة للتغلب على النزعات والاتجاهات النسوية وما بعد النسوية التي تهيمن الآن على الفكر الغربي المعاصر.

          وتساعد هذه التصرفات الجديدة والأفكار المساندة لها على ترسيخ فكرة أن العائلة النواة ليست سوى رابطة خاصة بين شخصين من الجنسين المختلفين أو من أحد الجنسين فقط, بحيث يكون لهما وحدهما حق اختيار نوع العلاقة وأسلوب التعامل والحياة وطبيعة الالتزامات والمسئوليات التي يلتزمان بها دون التقيد بقوانين المجتمع وتقاليده وأخلاقياته, وأنه ليس من حق المجتمع أن يرفض أو يعترض أو يستهجن هذه التصرفات التي توفر لأطراف العلاقة أكبر قدر من الراحة والسعادة, لأن هذه العلاقة تقوم أساسا على الثقة المتبادلة بين الأطراف المعنية, وهذه الثقة أهم بكثير من (الورقة) التي تعتبر دليلا ووثيقة وشاهدا على الزواج. فالزواج التقليدي الذي يؤدي إلى قيام العائلة البيولوجية ليس في آخر الأمر سوى (ورقة رسمية) لن تعني شيئا إن لم تتوافر النوايا الطيبة والرغبة الصادقة في الارتباط القائم على حرية الاختيار بصرف النظر عما إذا كان طرفا هذه العلاقة ينتميان إلى جنسين مختلفين أو إلى جنس واحد. وعلى ذلك فإن ما كان يعتبر حتى وقت قريب علاقة زنا أو معاشرة في الخطيئة إن لم تكن هذه المعاشرة قائمة على التوثيق الرسمي والقبول الاجتماعي أصبح الآن واقعا ملموسا ومألوفا بل ويجد من يدافع عنه ويدعو إليه, لأن العائلة البيولوجية أصبحت في نظرهم مجرد شكل واحد من عدة تنظيمات ممكن تحقيقها على أرض الواقع, وتوفر لأعضائها من المتعة الجنسية والتحرر من الالتزامات المفروضة بحكم العرف والتقاليد والقانون ما لا توفره العائلة البيولوجية.

          وسوف تترتب على تراجع أو اختفاء الرابطة الجينية بين أعضاء (العائلة) التي ينتظر أن تظهر في المستقبل تعقيدات كثيرة بالنسبة لنوع العلاقة بين الوالدين - أو الأبوين على الأصح - والأطفال الذين لا يشاركونهم في الأصل الجيني لأنهم لم يتحدروا من أصلابهم. فهناك احتمالات لأن يكون للطفل في العائلة الجديدة - عائلة المستقبل أيا كان نوعها - والد جيني واحد بدلا من اثنين كما هو الشأن مثلا في حالة الاستنساخ. أو قد يكون للطفل أكثر من والدين اثنين بيولوجيين واجتماعيين, بل وقد يصل العدد إلى خمسة (مانح الحيوان المنوي + مانحة البويضة + الأم الحاضنة للبويضة المخصبة من غير زوجها + الأبوان اللذان يتوليان عملية التربية دون أن تربطهما أي روابط بيولوجية بمثل هذا الطفل المصنوع), وهنا تثور مشكلة المسئولية الأخلاقية حول اختلاط الأنساب نتيجة لكل هذا الخلط في الأصول البيولوجية من أشخاص مختلفين لا يمت الواحد منهم بصلة للآخر, ولا للأبوين اللذين سوف ينتسب الطفل إليهما (اجتماعيا) وليس بيولوجيا. ففي مثل هذه الحالة التي قد تصبح نمطا مألوفا وعاديا في المستقبل تتوارى وتزول كل الحدود والمبادئ والاعتبارات الأخلاقية التقليدية.

          والغريب في الأمر أن هناك من يرد على هذه التحفظات وأمثالها بأن الإنجاب البيولوجي من علاقة جنسية مشروعة بين زوجين داخل تنظيم الأسرة لا يفرض ولا يتطلب في ذاته وبذاته أي مسئوليات أو التزامات أخلاقية إلا إذا أراد الوالدان/ الأبوان ذلك, لأن البيولوجيا في حد ذاتها لا تحمل بين ثناياها أي مقومات أو قيمًا أو مبادئ أخلاقية تفرضها على نتائجها أو منتجاتها (الأطفال مثلا). والدليل على ذلك هو ازدياد حالات هجر أحد الوالدين/الأبوين - أو كلاهما - للأطفال البيولوجيين دون إحساس بأي التزامات أخلاقية نحوهم, كما هو الشأن في كثير من حالات الطلاق أو الفرار من البيت ومن العائلة.

          ويزيد من المخاطر التي تهدد استمرار وجود العائلة النواة في المستقبل بعض القوانين التي تسنها الحكومات في الدول الغربية بهدف تحقيق مبدأ المساواة بين الجنسين دون أن يؤخذ في الاعتبار النتائج, وما قد يترتب على ذلك من آثار جانبية تلحق ببناء الأسرة, وينجم عنها بعض المشاكل الاجتماعية التي قد لا تظهر سلبياتها إلا بمرور الوقت. ففي مارس عام 2002 على سبيل المثال أجازت الحكومة الفرنسية قانونا ينظم عملية انتقال لقب العائلة الأصلي عبر الأجيال والذي كان يقضي بأن يحمل الطفل اسم الأب ولقبه بطريقة تلقائية, فإذا بالقانون الجديد يعطي الوالدين حق الاختيار بين أن يحمل الطفل لقب أحدهما أو كلاهما معا ولكن بشرط أن يحمل كل الأطفال من نفس الوالدين نفس اللقب. ويمثل هذا الإجراء القانوني تهديدا مباشرا لاستمرار نظام الانتساب التقليدي في خط الذكور وهو ما يعرف باسم Patrilineal System عبر الأجيال وتآكل وظيفة الأب في الأسرة وتراجع المكانة الرمزية التي يشغلها وانهيار سلطته. وهذا التراجع في مكانة الأب في العائلة أمر واقع بالفعل في المجتمعات الغربية ولكنه يشير في الوقت ذاته إلى إمكان التخلي تماما في وقت من الأوقات في المستقبل عن نظام العائلة المعروف, كما يثير الشك حول دور الأب بالذات في عملية التربية والتنشئة الاجتماعية للأطفال خاصة أن للأم الحق - حسب ما ينص عليه ذلك القانون الفرنسي - في أن تعطي لقبها هي للأطفال من دون موافقة الأب على الرغم من كل ما قد ينشأ عن ذلك من مشكلات اجتماعية وسيكولوجية.

الأب هو الخاسر

          وواضح من هذا المثال - وثمة أمثلة أخرى شبيهة - أن الخاسر الأكبر في كل هذه المواقف والتغيرات سيكون هو الأب. وكما يقول داني نوبوس Dany Nobus الأستاذ بجامعة براون في مقال بمجلة Discourse of Sociological Practice عن (أشباح الأبوة Spectres of Fatherliness) إن ثمة شبحا مروعا يهدد العالم الغربي هو اختفاء الأب - أو بالأحرى عدم وجود الأب في الأسرة ووجود عائلات بغير أب وانعدام معنى الأبوة, وهو شبح تتضافر كثير من الجهود للتخلص منه والتغلب بالتالي على المفهوم الذي شاع استخدامه في كثير من الكتابات الحديثة عن (موت الأب) تعبيرا عن هذا الغياب أو الاختفاء, وأن تأثير هذا الشبح يتجاوز المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويهدد كيان البشرية, بل ووجود الكائن البشري نفسه كآدمي وإنسان له كيانه وكرامته واحترامه.

          وواضح من هذا كله أن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه النظام العائلي سوف يتحول تدريجيا - بل إنه بدأ يتحول بالفعل في بعض الثقافات في الخارج - من البيولوجيا والروابط الجينية إلى مبدأ حرية الاختيار القائم على الإرادة الشخصية مما يتيح الفرصة لقيام علاقات معاشرة جنسية واجتماعية لا تخضع بالضرورة للقواعد المنظمة للزواج والعائلة بالمعنى المتعارف عليه, ويتوقف استمرارها على رغبة الأطراف المعنية ولا تهدف بالضرورة إلى الإنجاب البيولوجي, مادام في الإمكان دائما الحصول على الأطفال من مصادر أخرى خارجية وبطرق ووسائل صناعية ميسورة, مما يعني في حقيقة الأمر أن الأطفال سوف يتحولون تحت هذه العلاقات إلى مجرد (سلع) يمكن التخطيط لها مسبقا و(صنعها) حسب مواصفات معينة, ويمكن تعديلها وتغييرها وإصلاحها وإدخال التحسينات عليها بفضل التقدم الذي أحرزته الآن بالفعل التكنولوجيا البيولوجية والذي سوف تحقق المزيد منه في المستقبل, وبذلك سوف يتحول (الإنجاب) والتناسل إلى عملية عرض وطلب وصفقات تجارية لسلع بشرية يمكن الحصول عليها للاستهلاك الشخصي ثم نبذها واستبدالها دون أن تكون هناك التزامات أخلاقية تمنع من ذلك.

تغيير أم تعديل?

          وقد تكون هذه صورة قاتمة لما سيكون عليه الوضع في المستقبل بالنسبة للتنظيم العائلي, الذي ظل خلال كل فترات التاريخ المعروفة يؤلف الركيزة الأساسية لبناء المجتمع الإنساني واستمرار الجنس البشري, على ما سبق أن ذكرنا. وثمة بعض الآراء والتوقعات, التي ترى أن الأمر لا يدعو إلى كل هذا التشاؤم, وأن القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم العلاقات العائلية التقليدية لم يطرأ عليها أي تغيرات جوهرية تستدعي كل هذا القلق والانزعاج,  وأن كل ما حدث وما يتوقع حدوثه في المستقبل هو بعض التعديلات التي تتطلبها الأوضاع العالمية الجديدة, وأن الاستجابة لهذه المتطلبات سوف تجعل الحياة في المستقبل أكثر سهولة ومرونة. فالعلاقات الجنسية التي يقوم عليها نظام العائلة سوف تصبح أكثر (حداثة) لتتواءم مع الأوضاع الجديدة من ناحية, ولكي تتيح للفرد مساحة أوسع لاستخدام حقه الطبيعي في الحصول على المتعة الحسية والإشباع الجنسي بالطريقة التي تناسبه هو شخصيًا, وليس بالأسلوب الذي يفرضه عليه المجتمع. وإذا كان الشكل التقليدي للعائلة البيولوجية في طريقه إلى التداعي والتراجع والانزواء فإنه سوف يظل - في رأي بعض الكتّاب - هو المثل الأعلى للحياة الجنسية المشروعة والسليمة رغم أنه فقد وظيفته في الحياة الواقعية نتيجة لتغير الأفكار والتوجهات والرغبات والنظرة إلى الجنس مما أدى إلى ظهور كل هذه (التنويعات) من العلاقات الجنسية والأنماط (العائلية). وكما يرى بعض المفكرين في الغرب أنه بحلول عام 2020 سوف يكون من الصعب الحديث عن نمط عائلي (نموذجي) يسود العالم كله كما هو الشأن بالنسبة للعائلة البيولوجية التي أفرزتها الثورة الصناعية وأفلحت في أن تفرض نفسها على معظم مجتمعات وثقافات العالم خلال ما يزيد على قرنين كاملين.

          فالمستقبل القريب سوف يشهد إذن انتشار أنواع كثيرة مختلفة من (العائلات) التي سوف تكتسب كلها صفة الشرعية لأن مجتمع ما بعد الحداثة لا يحكم على أي شيء بأنه خاطئ أو ممجوج أو يتعارض مع القيم والتقاليد, وعلى ذلك فلن يكون من المستغرب أن تكون هناك عائلات تضم أطفالا تحدروا جميعا من أصول جينية مشتركة أو انفرد كل واحد منهم على حدة بأصل جيني خاص به هو وحده أو شارك في (صنعه) وإنتاجه وتنشئته أربعة أو خمسة (منتجين) بيولوجيين واجتماعيين, وهكذا. والمتوقع في رأي الكثيرين أيضا أن تكون (عائلات) ما بعد الحداثة أكثر قبولا وإشباعا للرغبات الفردية عن جميع الأنماط التي عرفها التاريخ حتى الآن, ولكن هذا يحتاج إلى حدوث تغيرات جذرية في المفاهيم والقيم المتأصلة والتي يصعب القضاء عليها أو حتى التنكر لها تماما. ولكن هناك خشية حقيقية لدى الكثيرين من أن اختفاء العائلة البيولوجية التي يحب البعض وصفها بأنها تقليدية أو كلاسيكية سوف يزيد من شعور كبار السن بوجه خاص بالوحدة والعزلة والاكتئاب نظرا للتفكك والتشتت وقلة التواصل المباشر بين أعضاء (العائلة) الذين كانوا يرتبطون معا بأصولهم الجينية الموحدة, ولذا يتساءل الكثيرون عما إذا كان كبار السن سيجدون في ضوء هذه التغيرات (العائلية) من يعنى بهم من (الأقارب) في المستقبل? هناك شك كبير في ذلك.

 

أحمد أبوزيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات