فان ديك وجويا.. مركيزة ومركيزة

  فان ديك وجويا.. مركيزة ومركيزة
        

          كان الرسام الفلامنكي أنتوني فان ديك (1599-1641م) في الرابعة والعشرين من عمره, عندما تخرج في محترف أستاذه بيتربول روبنز, وانتقل إلى جنوة في إيطاليا, حيث أصبح بين ليلة وضحاها رسام الصور الشخصية المعتمد لدى أرستقراطية المدينة. ومن بين كل اللوحات التي رسمها آنذاك, لم يضع الرسام من المهابة والاحترام والتفخيم ما وضعه في صورة المركيزة إيلينا جريمالدي.

          في البدء, لابد من الإشارة إلى أن لحجم اللوحة الكبيرة دلالته الخاصة (173 × 246سم), إذ تسمح لنا هذه المقاييس برؤية المركيزة بالحجم الطبيعي تقريبًا, وهي تخطو إلى الأمام بثوبها الأسود المهيب شبه الخالي من الزخارف, وترمق الرسام (المشاهد) بنظرة جانبية لا تخلو من التعالي. وفيما ترفع بيدها اليسرى ذيل ثوبها الطويل, تمسك باليمنى بغصن مزهر رمزًا للأنوثة والأناقة والحياة الهنية التي تعيشها.

          إضافة إلى ذلك, تجدر الإشارة إلى أن الفنانين الذين يرسمون صورًا شخصية نصفية, (صدر ووجه فقط), يتمتعون بحرية ترك خلفية اللوحة خالية من الأشياء, أو رسم بضعة أشياء رمزية, أما الرسام الذي يرسم قامة كاملة, فإنه يجد نفسه مضطرًا إلى رسم ما يحيط بهذه القامة, ومعالجة المكان أو الخلفية المحيطة بالشخصية, تصبح أمرًا بالغ الأهمية.

          في هذه اللوحة استخدم فان ديك كل العناصر لإضفاء أقصى حد من المهابة على صورة المركيزة جريمالدي. أعمدة القصر من خلفها كورنثية الطراز (كما هو حالها في المعابد اليونانية والرومانية) والطبيعة تنحدر نزولاً أمام قدميها. وتتجلى براعة الرسام أيضًا في رسمه الزهور تحت قدميها بألوان داكنة, ليزيد من امتداد ثوب المركيزة صوب الأسفل, فتبدو أطول قامة. الأمر نفسه ينطبق على المظلة الحمراء التي يحملها الخادم, والتي وُضعت فوق رأسها, بحيث إن قامتها صارت تمتد من الأرض إلى تاج العمود الكورنثي.

          كان لهذه السياسة الفنية ما يبررها تمامًا. فالأرستقراطية الجنوية كانت تتمتع في النصف الأول من القرن السابع عشر بهذه المهابة فعلاً نظرًا إلى جمعها النفوذ السياسي بجانب الثراء المادي (المركيزة جريما لدي كانت متزوجة من تاجر ثري يدعى نيكولا كاتانيو), كما أن الفنان الشاب شاء آنذاك أن يستثمر كل قدراته في التودد إلى هذه الأرستقراطية وإرضائها, رغبة منه في ترسيخ مكانته, والوصول إلى الأعلى, الأمر الذي تحقق له بسرعة إذ وصل صيته إلى إنجلترا, وانتقل لاحقًا إلى العيش فيها, حيث أصبح رسام البلاط والأرستقراطية الإنجليزية من دون منازع.

          أما الرسام الإسباني فرنشيسكو دي جويا الذي عاش في القرن التالي (1746 - 1828م), فقد كان على عكس فان ديك في كل شيء تقريبًا.

          كان اهتمام جويا في العمق منصبًا على اضطرابات عصره, وعلى ما تشهده أوربا من تحوّلات اجتماعية, فلم يأخذ يومًا على محمل الجد الشخصيات الأرستقراطية التي كانت تتهافت عليه ليرسمها.

          المركيزة دي بنتيخوس كانت واحدة من تلك الشخصيات التي تحولت على يدي الرسام إلى ما يشبه (المسخرة). ولو بدأنا بالحديث عن  المقاييس لتوجب لفت النظر إلى أن مقاييس اللوحة تبلغ 126 × 221 سم, أي أن المركيزة لا تشغل أكثر من 150سم ارتفاعًا, فتبدو بالتالي أصغر بقليل من طولها الطبيعي. وفيما نلاحظ بسرعة أن الرسام لم يكلف خاطره إضفاء أي لمسة تجميل على وجهها الخالي من أي تعبير, نرى كل التركيز على الثوب المرسوم بدقة وعناية فائقة, وكأن هذه السيدة هي مجرد دمية تعرض ثوبًا بالغ الأناقة والتزيين.

          أما خلفية اللوحة فتبدو مستوحاة من الخلفيات الطبيعية في لوحات الرسامين الإنجليزيين جوشوا رينولدز وتوماس غينسورو اللذين كانا (على الموضة) آنذاك, واطلع جويا على نسخ عن أعمالهما وصلت إلى إسبانيا. ولكن الخلفية الطبيعية هنا تفتقر إلى ترتيبها الأنيق الذي عُرف به الأساتذة الإنجليز, وتبدو وكأنها لملء الفراغ ليس أكثر. حتى اللون الأخضر الذي استعاره الرسام من الطبيعة ليضيفه إلى الثوب الأبيض بهدف إيجاد وحدة لونية أو تجانس لوني, لم يكن كافيًا لإيجاد أي رابط معنوي ما بين هذه المركيزة ومحيطها الذي بقيت منسلخة عنه. الرابط الوحيد هو مع الكلب الصغير الذي يبدو بطوقه المزين بشريطة, مثل صاحبته, إنه ثمرة تصنع منسلخ تمامًا عن المحيط الطبيعي من حوله.

 

عبود عطية   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أنتوني فان ديك, (صورة المركيزة إيلينا جريمالدي), 1623م, متحف الناشيونال جاليري, واشنطن





فرنشيسكو دي جويا, (صورة المركيزة دي بونتيخوس) 1786م, مجموعة أندرو ميلون