هل انتهت اللوحة الزيتية?

 هل انتهت اللوحة الزيتية?
        

          يعيش عالم الفن, وأينما كان, أعراض أزمة بادية للعيان, لاسيما لأهل الفن أنفسهم, بين فنانين وعاملين في أجهزة عرض وتسويق وبيع وحفظ ونقاد وفلاسفة فن وغيرهم. وتتعيّن هذه الأزمة في إعلان (موت) اللوحة المسندية, الزيتية, وصيغتها (فن الصالون) أو (الفن الصالوني). فما حقيقة الموت هذا?

          في إمكان المتسرع أن يقول: إنه إعلان متأخر لموت مبكر, أو أن يقول: إنها وقائع موت معلن منذ وقت. ويمكن لهذا القائل أن يسوق أجوبة عدة, مستقاة من وقائع الفن في العقد الأخير تحديدًا, الذي ختم قرنًا, ودشّن آخر (حتى أن البعض وجد في هذا الموعد الزمني موعدًا لتغيير أشمل وأعمق من جهة الفن).

          فالذي يتابع وقائع (البينالات) الدولية الكبيرة, سواء في البندقية الإيطالية أو في (الدوكيمنتا) الألمانية, أو في بينالي القاهرة أو الشارقة عربيًا, يلاحظ أن البينالات هذه باتت تقصر عروضها و(دعوات) الفنانين إليها على (التجريبيين), منهم وحسب, أي على الخارجين - باختصار - على (منطق اللوحة). وهذا ما يصح قوله في ندوات نقدية, وفي (ملفات) درس ونقد, يمكن متابعتها هنا وهناك, وأعلنت, هي بدورها, هذا (الموت), ولكن أهو موت أكيد?

مفارقة اللوحة

          طرحُ السؤال لازم, لأن معلني الوفاة ليسوا من (أهل الفقيد). إن جاز القول, بل من طالبي التّسيّد على الفن, ما يعني أن لهم مصلحة في ترويج مثل هذا (الموت), ماداموا يُسوّقون لفن آخر, ويتعجّلون في تجيير التركة - تركة الفن المتراكمة, أي (فن الصالون) تحديدًا, بمدارسه وأساليبه المختلفة - لمصلحتهم, فضلاً عن تشريع (مقترحاتهم) الفنية والجمالية بوصفها خلاص الفن الأكيد, وتجديده الحداثي الحاسم, وحاملة (بذرة) التطور المستقبلي من دون شك, فما الذي يمكن قوله هنا?

          لا يسع الدارس إلا أن يلاحظ أن نقد اللوحة قديم, يرقى على الأقل إلى مطالع القرن العشرين, إذ جرى منذ هذا العهد نقد أسس ومعايير في بنائها الفني أو في تذوقها الجمالي, ما يحتاج إلى عرض وتبين. فهذه اللوحة, التي (تسيّدت) على الفنون التشكيلية, وقبلها على (الفنون الجميلة), شكلت نموذج الفن عمومًا, ومرجعه وصورته على مدى ثلاثة قرون في المحترفات, كما في الصالونات الأوربية. بل يمكن القول إن بدايات التعرض للوحة, أو التخفيف من بعض علامات (تسيدها), يرقى إلى العهد التاريخي الذي اكتسبت فيه صفتها (العالمية), وهو ما يشكّل أوسع وأغرب مفارقة لسيادتها هذه. ففي الوقت الذي كانت تنتشر فيه هذه اللوحة في طوكيو, كما في بيروت والقاهرة وبغداد, كانت تصيبها من جراء الاكتشافات الصناعية (الصورة الفوتوغرافية, السينما...) أحوال جديدة تفسد عليها مقامها المرجعي الأول, ذلك أن اللوحة المسندية قدمت نفسها, من جهة التصوّر الجمالي, على أنها الصورة الصالحة, عملاً بقول إيطالي شهير (ليوناردو دافينشي) يشدد بأن التصوير هو, قبل أي شيء آخر, شأن أو قضية (عقلية). وهو ما يتابعه الدارس - لو شاء - في مراجعة مجهودات الفنانين التشكيليين المتتابعة والمتراكمة منذ القرن السادس عشر, التي قامت على تصوير دقيق, صحيح, بالمعنيين الوصفي والتعبيري, للمشهد الطبيعي أو الهيئة الإنسانية: هكذا يتحقق الدارس, على سبيل المثال, بأن دافينشي درس الجسم الإنساني, ليس في هيئته فقط, وإنما في تكوينه العضلي أيضًا, لكي يحسن ممارسة الفن, حتى أن علم (التشريح) بات الأقرب إلى ممارسة التصوير نفسه.

          الصورة الصناعية, الفوتوغرافية مثل السينمائية, خففت بوجودها, بقدراتها على إنتاج صورة أكثر أمانة وصحة, بعض مرجعية اللوحة, سواء من الناحية (العقلية) (التعويل على اللوحة والمحفورات والرسوم في أمور العلم والتقنية التوضيحية والشرحية المختلفة). أو من الناحية الفنية والجمالية (بعد أن جرى إدراج هاتين الممارستين في عداد (الفنون), فجرى تسمية التصوير الفوتوغرافي (الفن السادس), والسينما (الفن السابع)). وهو مسار لم ينقطع في مدى القرن  العشرين, ومع اكتشاف أي أداة نقل وإنتاج جديدة للصورة, مثل التلفزيون ((الفن الثامن)), والفيديو, وإنتاجات الحاسوب الصورية المختلفة, بما فيها الصورة الرقمية, خف بالتالي اللجوء (العقلي) إلى صورة اللوحة (أو الرسم...), فهل احتفظت بقيمتيها الأخريين, الفنية والجمالية?

          يمكن القول بأن القيمة الفنية للوحة زادت منذ تأكدها كحامل أساسي لـ(الفن), ولاسيما في الاستثمار الذي طاولها في التداولات القيمية والمالية, وهو ما تعين - حسبما تحققت في كتابي (الفن والشرق) (2004)  - ابتداء من الربع الأخير في القرن التاسع عشر. فقد حازت اللوحة, في سياقها البيتي, (الصالوني), اهتمامًا سابقًا على الموعد, إذ تصدّرت جدران البيوت وصالات العرض والمتاحف, مثلما انتظمت في مجموعات, سواء لدى الأفراد أو الجهات أو المؤسسات, مثل المتاحف و(الأكاديميات), وغيرها, عدا أنها اندرجت في سباقات حول ملكيتها, تعيّنت خصوصًا في الشراء التنافسي العلني لها, ولاسيما في مؤسسات (درووه) و(سوزبيز), وغيرهما (من جهات البيع المعروفة, وحتى أيامنا هذه): فقبل الربع الأخير من القرن التاسع عشر, كان شراة اللوحات يقبلون على بيعها بأقل من سعرها الأول, ولم تحظ اللوحة بمراهنات قوية على قيمتها المالية, إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر, وخصوصًا في العقود الأولى من القرن العشرين. وهو ما تمثل - في جملة ما تمثل - في دخول رساميل أمريكية, فضلاً عن الأوربية, على سوق الفن, الذي أصبح بالتالي (سوقًا غربية), ولأول مرة, منذ هذه اللحظة (وهو ما يفسر أسباب امتلاك جامعين أمريكيين لأكبر مجموعات انطباعية في العالم, إذ ترافق دخولهم إلى السوق الأوربية, مع تأكد الأسلوب الانطباعي, فاشتروا من أعمالهم مجموعات ومجموعات وبأسعار زهيدة في ذلك  الوقت). وقد يكون خير دليل على ما أقول, ما أصاب لوحات فان جوخ, إذ لم يستطع في حياته بيع أي لوحة من أعماله الفنية, فيما بلغت لوحاته بعد عقود, وخصوصًا اليوم, مبالغ خيالية, تساوي اللوحة فيها, كما في عمليات البيع الأخيرة, مئات الملايين من الدولارات.

          والمفارقة عينها, التي شددتُ عليها سابقًا, أتحقق منها عند درس التذوق الجمالي الذي أصاب اللوحة الزيتية, المسندية, منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر, وخصوصًا في مطالع القرن العشرين: ففي الوقت الذي تطورت فيه معرفة الأوربيين بالفنون غير الأوربية, مثل الآسيوية (الصينية, اليابانية, الكورية), والعربية والإسلامية, والإفريقية, والأمريكية القديمة, وهو الوقت الذي كان يتم فيه - في دراسات النقاد والمؤرخين الفنيين الأوربيين - تأكيد تفوّق جمالية اللوحة المسندية على غيرها من الفنون (المتخلفة), كانت تتأسس في الوعي أيضًا كما في الخطاب, وإن في جهة خلفية في هذا الوقت, معالم وشروط نقد جدي لهذه الجمالية تحديدًا, بلغت مع أحد النقاد الأوربيين أخيرًا حدود القول بأن هذا الفن الأوربي لا يعدو كونه (تقليدًا محليًا), ليس إلا. ذلك أنه في اطلاع النقاد والمؤرخين والمنقبين ودارسي الآثار وفلاسفة الفن الأوربيين على الفنون الأخرى, المغايرة, ما أظهر لهم جماليات أخرى, تختلف عن جمالية (التمثيل) (أو محاكاة المشهد, أو الهيئة الإنسانية) التي أعلنتها اللوحة المسندية موضوعًا لها: ففي المزوقة (المنمنمة) الإسلامية يتم إظهار ما لا تراه العين بالضرورة, ويصور الفنان من دون أن يحاكي في صورة تامة أو أمينة. كما يتم في الفن الإفريقي إظهار القناع بدل الهيئة الإنسانية. ويُحتفى في اليابان بتقديم حفل شاي وبتصميم باقة زهر أو برؤية ومطالعة مخطوط شعري بوصفها (أعلى الفنون).... وهذا يصح في (عرض) الفنون كذلك, إذ إن تقليد عرض اللوحة الزيتية فوق جدران الصالون الأوربي لا تناسبها, ولا توافقها طريقة عرض الياباني أو الخليفة الفاطمي لمحفوظاتهما في الخزانة, إذ يؤتى بها لتمكين زائر من رؤيتها, ولا تفرض فرضًا عليه. خفتت, إذن, قيمة اللوحة الزيتية, المسندية, فهل نتحدث والحالة هذه - ومثلما يدعونا البعض - عن (موت) اللوحة?

          إن نظرة مقرّبة إلى واقع اللوحة وإلى واقع الإنتاجات التجريبية الجديدة, في العقدين الأخيرين, تظهر تباينًا بين دعاوى الخطاب وواقع الفن على اختلاف صيغه. فأعداد من الأعمال التجريبية (مثل الأعمال الكبيرة التي يتم نصبها في الساحات العمومية, أو في مساحات كبيرة من المتاحف) لا تتم, ولا تقوم لها قائمة فعلاً لا مجازًا, إلا بعد موافقة السلطات المحلية, من وزارة وبلدية وغيرهما. وهذا ما يمكن التحقق منه في وجه آخر من العملية نفسها, عند عرض أعمال تجريبية على البيع, وهو أنها - إن بيعت - لا تبلغ بأي حال ما بلغته, ولاتزال تبلغه, اللوحة الزيتية من مبالغ عالية.

الضمانة المالية

          هذا ما عرفته سابقًا المحفورة بأنواعها كلها, وهذا ما عرفه فن التمثال كذلك, وهذا ما تعرفه الفنون التجريبية, اليوم, على تنوّعها واختلافها, وهي أنها لا تحوز مقادير من التنافس على شرائها تقترب مما أصاب اللوحة الزيتية منذ قرن ونيف على الأقل. وما هو معروف عن اللوحة المسندية, هو أنها قابلة للحمل والنقل الميسرين, بعكس التمثال, ما أتاح حركة أكيدة لها, ساعدت مقتنيها على حفظها والتعويل عليها حتى في الظروف القاسية (مثلما تبين في سلوكات عدد من مقتنيها أثناء الحرب العالمية الثانية في أوربا). عدا أن حافظيها ما كانوا يخشون عند اقتنائها, لاسيما في القرن السابع عشر, مما كان يصيب الأغنياء, مالكي الميداليات (التي كان يتم مصادرتها لتذويبها في الحروب والشدائد), ومالكي الذهب (إذ يتم وضع اليد عليه في الشدائد أيضًا. مادام قابلاً لأن (يُسيّل) ماليًا, وعند أي كان, كما يقال في لغة المصارف): اللوحة عملة منقولة وعالمية, من جهة, وهي نادرة, بل وحيدة في كل لوحة منها, من جهة ثانية, بخلاف المحفورة ذات النسخ العديدة, وبخلاف التمثال الذي قد يصب منه غير مرة.

          لم تمت اللوحة المسندية بدليل أننا لم نعرف في تاريخ التنافس حول الفن, بوصفه مقتنى ماديًا, ما بلغته أسعار اللوحة في العقود الأخيرة: ففي العام 1650, على سبيل المثال, كان يبلغ سعر لوحة للفنان دافيد تينيه, ذات مقاسات متوسطة, 15 فلورينًا, ما كان يوازي شراء عشر مرات كيلو السكر, فيما بلغ سعر لوحته في العام 1998 مائة ألف دولار, وماذا نقول عن لوحة فان جوخ (حديقة في أوفير) التي بيعت في العام 1992 بمبلغ 57.7 مليون فرنك فرنسي (ما كان يوازي 8 ملايين دولار), وغيرها الكثير في السنوات الأخيرة?!

          هذا المؤشر, أي المالي, دليل أكيد على عدم موت اللوحة الزيتية, والمسندية, في واقع التداولات, ولكن هل تكفل الضمانة المالية وحدها هذه الحياة الزاهية للوحة في العقود المقبلة?

 

شربل داغر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جرنينكا - لوحة بيكاسو الشهيرة رسمها في الفترة من مارس إلى يونيو عام 1937 احتجاجا على وحشية الحرب ضد المدنيين العزل





السيدة تطل من النافذة - للفنان سلفادور دالي عام 1925





حادثة - لوحة للفنان الإسباني بونيس دي ليون عام 1936