فلسطين ... أصوات من خلف الحصار

   فلسطين ... أصوات من خلف الحصار
        

نقولا زيادة وجهاد فاضل

7% فقط من سكان فلسطين كانوا يهوداً ومع ذلك أخذوا وطناً قومياً

          بدأ هذا الحوار مع شيخ المؤرخين العرب د.نقولا زيادة بسؤال حول نبوءة وردت في كتاب نجيب العازوري الصادر بالفرنسية في باريس عام 1906 - أي قبل حوالي مائة سنة من اليوم - حول مساعي اليهود لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين, وعما يتوقعه هو بالذات, ونحن في بداية قرن جديد, لمستقبل هذا الصراع. كان العازوري قد ذكر في كتابه أن القرن العشرين سيشهد صراعًا بالغ الحدّة بين القومية العربية والحركة اليهودية الساعية لإعادة إنشاء مملكة صهيون في فلسطين, وأن هذا الصراع سيطبع القرن العشرين بطابعه, وستكون له آثار بعيدة المدى عربيًا وعالميًا.

          د. نقولا زيادة يقول إن الأمر كله متوقف على قوة العرب وتقدمهم. فلا يفلّ القوة إلا القوة, ولا يفلّ الحديد إلا الحديد. فإن لم نصل إلى الدولة القوية الناهضة, فإن إسرائيل باقية.

          في الثامنة والتسعين من عمره, ولكن الروح مازالت قوية, والذاكرة مازالت مشتعلة ونابضة بالذكريات التي عاشها نقولا زيادة في القدس وعكا وجنين ودمشق وطرابلس الغرب وجامعة عليكرة في الهند, وعشرات المدن والجامعات والمعاهد التي درس أو درّس فيها. وما يؤلمه أن أحوال العرب لا تتقدّم كما ينبغي أن تتقدم. ومما يقوله في هذا المجال إن الجامعات العربية كانت قبل نصف قرن أو أكثر, أفضل مما هي عليه اليوم.

          حاوره الكاتب اللبناني جهاد فاضل وشارك في الحوار د. سليمان العسكري رئيس تحرير (العربي).

إحساس بالخطر

  • ماذا عن نبوءة نجيب عازوري?

          - عندما وضع نجيب عازوري كتابه المشار إليه باللغة الفرنسية في مطلع القرن العشرين, كانت له خبرة وثيقة بالإدارة العثمانية. فلما أُنشئت متصرفية القدس, وفُصلت عن ولاية الشام, كان نجيب العازوري موظفًا كبيرًا في متصرفية القدس, ولأنه كان يعرف اللغة الفرنسية, كان صلة الوصل بين المتصرّف والقناصل الذين كانوا في القدس, أو الذين كانوا يأتون لزيارة فلسطين. معرفة العازوري بالإدارة العثمانية كانت أيضًا قوية.

          نجيب العازوري, كان مثقفا كبيرا ذا نزعة عروبية, لذلك كان يشعر بالخطر الآتي الذي سيصيب فلسطين, وكان اليهود قد ابتاعوا بعض الأراضي بفلسطين حتى في أواخر القرن التاسع عشر, لكن أكثر ما اشتروا من هذه الأراضي الفلسطينية كان في القرن العشرين, وبعضها في مرج ابن عامر, وقد بيعت قبل الحرب العالمية الأولى من سنة 1904 إلى سنة 1906.

          ابتدأ اليهود ينشئون مستعمرات هنا وهناك. لكن هذه المستعمرات لم يكن لها كيان. الشيء الذي لعل العازوري لم يكن يعرفه, لأن الحركة كانت قد بدأت بعد وفاته, هو أن الفكرة الصهيونية تبلورت في مراكز القوى السياسية في العالم, وأنها لذلك استطاعت أن تأخذ لنفسها مكانة. في يوم من الأيام ستُطبّق هذه السياسة على مكان ما. كانت فلسطين هي المقصودة.

          الذي حدث بين الوقت الذي كتب فيه نجيب عازوري كتابه في مطلع القرن, وبعد نحو عشر سنوات من ذلك, هو صدور وعد بلفور. صدر هذا الوعد في اليوم الثاني من شهر نوفمبر في سنة 1917. ينصّ وعد بلفور على أمرين: الأول أن حكومة (جلالة الملك) تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين, وترعى الأمر, وتسعى في سبيل ذلك على أنه لا يؤذي هذا بقية الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين.

          إذا كانت القضية نكتة سياسية, فهي نكتة سياسية, سبعة في المائة كانت نسبة اليهود بين سكان فلسطين, وقد أعطي هؤلاء وطنًا قوميًا, أما الجماعات غير اليهودية, فقد أشير إليها, وهي ثلاثة وتسعون في المائة, وعلى ألاّ تتأذّى من هذا الوطن القومي اليهودي.

          هذا الوعد - كما هو معروف - لم يعطه بلفور, ولم تُعطِه حكومة الملك جورج, لقد أعطي بناء على اتفاق وتأييد الولايات المتحدة, وكان مركز الاتصال حول الموضوع بين بريطانيا والولايات المتحدة, جبل طارق. هناك كان يجتمع المندوب الأمريكي مع الإنجليز حتى لا تتكشّف الخطة. وقد أيّدته إيطاليا وفرنسا. ولو أن ألمانيا ربحت الحرب, لكان لها دور.

تاريخ عابر

  • هناك أبحاث توراتية متأخرة أو حديثة كتبها علماء غربيون, أمريكيون على التحديد, تقول إن التاريخ اليهودي, كما يتحدث عنه اليهود, ليس سوى لحظة عابرة في تاريخ طويل اسمه تاريخ فلسطين, وإنه حتى المرويّات والمأثورات اليهودية المسجلة في التوراة ليست في معظمها سوى مرويّات غير مسندة إلى تاريخ, أو غير تاريخية أصلاً, لذلك تبدو عملية الاستناد إلى حق تاريخي للعودة إلى فلسطين, أو حتى إلى حق يُنعت بالحق الإلهي, إنما هي عملية مزوّرة. فكتّابها هم بشر, وقد رووا في هذه الكتابات حكايات, كما بثّوا في هذه الحكايات طموحات. وهذا كل شيء.

          - أنا ذكرت ما يؤمن به اليهود على أساس ما جاء في التوراة, أي العقيدة اليهودية القديمة. أنا أجيبك بشيء من التفصيل في هذه المادة التاريخية. هذه المادة التاريخية جاءت من العهد القديم من الكتاب المقدس. والعهد القديم يروي تاريخًا يبدأ من القرن الثامن عشر قبل الميلاد, لكنه لم يُبدأ بتدوين العهد القديم إلا في القرن الثامن قبل الميلاد, أي بعد نحو أحد عشر قرنًا من المفروض أنه يتحدث عنه.

          هذه واحدة, أمر آخر, إذا كان هذا يُحفظ عن طريق الرواية في أساسه أو في تفاصيله, فالرواية هذه لم تقتصر على ما كان عند اليهود, دائمًا دخلتها كل أنواع الروايات التي كانت معروفة في المنطقة, من حوالي ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف قبل الميلاد. على سبيل المثال في سفر التكوين الذي هو أول أسفار العهد القديم, هناك شيء عن الخليقة, قصة الخليقة الموجودة في سفر التكوين, منقولة شفويًا وتمامًا عن الأسطورة السومرية لخلق العالم التي تعود إلى حوالي الألف الرابع قبل الميلاد. وقد دُوّنت هذه الأسطورة في أيام حامورابي وسُمّيت الأسطورة البابلية, لكنها رُويت شفويًا كل هذه الفترة.

          من هنا يجب القبول بأن هذه الأشياء الموجودة في العهد القديم ليست تاريخًا لشعب معين. إنها خلاصة ما كان معروفًا في المنطقة.

          قصة الطوفان الموجودة في العهد القديم, هذه أسطورة بابلية سومرية دُوّنت في أيام بابل بتفاصيلها. كل ما هنالك أنه لم يُذكر أنه دخل أو أُمر أن يدخل إلى الفلك زوجان من كل أنواع الحيوانات. لكن الفكرة موجودة: الطوفان عمّ الأرض, وكنتيجة لهذا هناك واحد فقط, يمثل نوحًا أو يمثله نوح, نجا من الطوفان, ومعناها أنه صارت له الحياة الأبدية, فكان أن ملك نيبور السومرية ذهب ليبحث عن هذا الرجل ليطلب منه هذه الوصفة ولم ينجح. فالخليقة والطوفان موجودان قبل مجيء اليهود بما لا يقل عن 2500 سنة.

  • والآن ما الذي يقوله التاريخ?

          - يقول التاريخ إن هذه الأسفار بدأ تدوينها في القرن السابع قبل الميلاد, ولم تُقبل رسميًا إلا في القرن الأول بعد الميلاد.

          إذن لدينا شيء ليس مزوّرًا, لكن هذا هو الذي كان موجودًا, إنما كان اليهود يعتقدون أنه حصتهم وحدهم.

          وقد أثبتت البحوث الأثرية أن القدس لم تصبح مدينة إلا في القرن السابع قبل الميلاد, وكل ما كان هناك إلى ذلك الوقت, هو مجرد قرية, والقرية لا يُبنى فيها هيكل من هذا النوع.

          كما نعرف في الإسلام, القرية لا يُبنى فيها مسجد جامع, يُبنى فيها مسجد فقط, المسجد الجامع خاص بالمدينة.

          هذا الهيكل لم يُبْنَ في القدس في أيام سليمان, الهيكل الذي يقول اليهود إن بقاياه هي سور الحرم الغربي, ويُسمّى حائط المبكى, هو جزء من الهيكل الذي بناه هيرودوس الآدومي حاكم تلك المنطقة في القرن الأول قبل الميلاد واسمه الآدومي لأنه عربي (حرد), ثم صار هيرودوس عند اليونان والرومان, هذا بنى هذا الهيكل لليهود في ذلك الوقت. هُدّم هذا الهيكل في أيام الإمبراطور إدريان في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد, وبقيت منه أشياء. ولكن هذا الذي بقي, ليس بقايا هيكل سليمان. هيكل سليمان لم يُبْنَ. هذا فيما يتعلق بالبحوث الأثرية المعروفة.

  • إذن التاريخ اليهودي مزوّر.

          - نعم, التاريخ مزوّر, لكن الفكرة التي كانت عندهم فيما يتعلق بالعقيدة, فكرة موجودة.

          هناك مَن يقول, مثل وايتمان وكمال الصليبي وزياد منى, إن هذه الأحداث التي تُروى عن فلسطين, لم تحدث في فلسطين, بل حدثت في الخارج. وعلى كل حال, ومهما أخذنا منها, فإن جزءًا كبيرًا في التاريخ اليهودي مزوّر. هو مزوّر, ولكن هذا التزوير عندما يصبح عقيدة, ويُثار باستمرار, يتحول إلى تاريخ متين وثابت.

غزوة صليبية

  • إذا لم يكن لهم في الماضي وجود حقيقي في فلسطين, يؤيد ذلك عدم عثورهم هم على أي آثار توراتية في أرضها, فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى النظر إليهم على أن (حضورهم) إلى فلسطين بدءًا من وعد بلفور وحلول الانتداب البريطاني على فلسطين, هو في حقيقة الأمر غزوة صليبية جديدة للمنطقة, خاصة أن جذورهم التاريخية في بلادنا هشّة وغير قوية?

          - هي غزوة يهودية, لا صليبية...يجب عدم الخلط بين الأمرين, ما حصل في فلسطين, على مدار القرن العشرين يؤلف غزوة. لكن المشكلة هنا أن هذا الغزو كان يؤيده عالم واسع أوربي - أمريكي, ثم سوفييتي بعد ذلك. كان يؤيده عالم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا.

          عندما يقال إنه عندما زار المفتي الحاج أمين الحسيني هتلر في ألمانيا وطلب منه, إما رأسًا أو بالواسطة لا أدري, أن يٌصدر وعدًا بأنه إذا انتصر في الحرب يُلغي وعد بلفور, رفض هتلر.

          أنا لو كنت محله, أرفض أيضًا. هو كان يريد التخلص من اليهود ويرسلهم إلى فلسطين, يكمل على الباقي فيرسلهم مرة واحدة.

          القضية هي أن غزو اليهود لفلسطين هو غزو أو هجوم واستلاب, سمّه ما شئت, ولكن كان له مؤيدوه ولهم أسبابهم, والمؤيدون لم يكونوا قلة, وبالتالي يجب ألاّ نُنكر على اليهود التنظيم الذي قاموا به, بحيث إنه لما بدأ الانتداب في فلسطين, وكانت الوكالة اليهودية في القدس دائرة سياسية كاملة تقدم النصح والإرشاد, إذا طُلب منها, لحكومة فلسطين. ولما قامت دولة إسرائيل, الذين كانوا في الوكالة اليهودية, أصبحوا حكام إسرائيل.

          الآن كل القضية التي نتحدث عنها, هي في الواقع قضية مزورة, لكن ماذا تفعل بالقضية المزورة عندما تؤدي النتيجة إلى ما حدث?

  • وكيف تنظر كمؤرخ إلى أفق هذا الصراع بين الفلسطينيين والعرب من جهة, واليهود أو الإسرائيليين من جهة ثانية? السكان الأصليون, وهم الفلسطينيون, جرى اقتلاعهم من أرضهم, والطارئون, وعن طريق الدسائس والمكائد وتدخل القوى الدولية النافذة, تمكنوا من اغتصاب فلسطين وهم في طريقهم إلى ابتلاعها كلها تقريبا, وما من زاجر أو رادع.

          - مستقبل الصراع بين الفريقين هو مستقبل قوة. هذا إذا كان هناك صراع باقٍ. إنه مستقبل قوة. والقوة لها ناحية محلية من جهة ولها ناحية عالمية.

          إلى الآن, والآن خصوصا, الدولة المهيمنة في العالم هي الولايات المتحدة, والولايات المتحدة تؤيد إسرائيل طوال الوقت, ولا تهتم حتى بالعرب.

          ترسم (خارطة الطريق) ثم تسأل ماذا حدث (لخارطة الطريق)? لا نسمع سوى أن فلانا زار, أو فلانا صرح وتحدث, ثم ماذا. المهم ليس الحديث, المهم العمل. اليهود صار عندهم دولة منظمة ولهم مؤيدون نافذون في العالم, ماذا ننتظر? ننتظر أن ينقلب الكون فيصبح الأمريكان مستعمرين للمشارقة وساعتها ننتقم منهم.

فجوة حضارية

  • لا ننسى بالطبع الفجوة الحضارية الهائلة بيننا وبينهم. نحن من الشعوب المتخلفة, في حين أنهم أوربيون.

          - طبعا هناك فجوة هائلة, وحتي اليهود الذين أتوا من مناطق متخلفة جرى نقلهم من حال إلى حال. لديهم تنظيم. التنظيم الصهيوني لم يكن يعادله أي تنظيم آخر في أي مكان في العالم. حتى الدول العريقة لم يكن لديها مثل هذا التنظيم المذهل. أنت تنقر في الخشب باستمرار, وتجمع الأموال.

          الآن بعض الأراضي بيعت في فلسطين, القباني باع أراضي, سرسق, سواهم باعوا أراضي كبيرة.

          هناك فلسطينيون أيضا باعوا أراضي لليهود. لكن الأهم من هذا أنه كان في فلسطين أراض تسمى الجفتلك, كانت ملكا شخصيا للسلطان العثماني. لم تكن وقفا إسلاميا. كان السلطان يملكها, ويعطيها لمن يشاء. في أيام عبدالحميد أعطى عبدالحميد البشانقة الذين لم يظلوا في بلادهم في البوسنة, وجاءوا إلى فلسطين فأعطاهم السلطان أراضي في منطقة قيسارية. لما خرج الشركس من أوربا, أعطاهم السلطان عبدالحيمد أراضي في غور الأردن.

          لما زالت الدولة العثمانية, أصبحت أراضي الجفتلك ملكا للحكومة البريطانية, وسُمح للمندوب السامي أن يتصرف بها على الوجه المناسب.

          وعندما عُين أول مندوب سام في فلسطين, عُين لمدة خمس سنوات, وكان يهوديا صهيونيا, كما كان وزيرا سابقا في بريطانيا, وأحد العاملين جديا في سبيل وعد بلفور.. هذا عُيّن مندوبًا ساميًا واسمه هربرت صموئيل.. فماذا تنتظر منه أن يفعل?

          هربرت صموئيل كان داهية. صنع أشياء عُرفت في أيامه, وأشياء عُرفت لاحقًا, فبالنسبة للمنظمات اليهودية, ساعدها, أما المسيحيون, فقال إن هؤلاء كنائسهم وبطريركيتهم تهتمان بهم. ولأنه لم يكن في فلسطين مجلس تشريعي أو برلمان, أراد أن ينظم شئون المسلمين. وقد نظم هذه الشئون عن طريق إنشاء المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى. وبقدرة قادر, انتُخب الحاج أمين الحسيني الذي كان مفتي القدس رئيسا لهذا المجلس. كان الحاج أمين يشرف على كل موظف في كل جامع في فلسطين. كان مسلمو فلسطين كلهم سنة ما عدا ثلاث قرى شيعية. وكانت كل الأوقاف تحت تصرف المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى.

الحلم العربي

  • أعرف أنك كنت عروبي النزعة, وأنك من الذين حلموا بقيام دولة عربية واحدة منذ وقت مبكر.

          - أنا من الذين حلموا بهذا الحلم. بدأت أتعرف إلى القومية العربية في العشرينيات من القرن الماضي, أي عندما كنت في السادسة عشرة وكان مدربي أو معلمي الأول في هذا التوجه اثنين: خليل طوطح ودرويش المقدادي. درويش المقدادي كان متحمسًا تحمسًا شديدًا للقومية العربية, فتأثرت أنا به كما تأثر سواي. ثم تخرجنا وكانت القومية العربية في تلك الفترة هبّات شعرية أو رومانسية. لكن يكن هناك شيء واضح لأن الحركة التي قامت في أيام العثمانيين كانت حركة لها هدف معين: عرب ضد أتراك. الآن اختلف الوضع, كانت الآمال موجودة, أنا شخصيا أذكر, وهذا قد يبدو غريبا, أنني عندما قرأت كتاب أمين الريحاني: (ملوك العرب) (وقد قام بزيارته إلى الجزيرة عام 1923), وصدر كتابه عام 1925, وجدت أنه تحدث فيه عن جميع زعماء العرب يومها: من السعودية إلى اليمن إلى سواهما. وجدت في تأملات وطموح الشاب, أن الشخص الذي يمكن أن يستفاد منه يومها على هذا الصعيد هو السلطان (يومها) عبدالعزيز آل سعود. لماذا? بريطانيا موجودة في مصر وفي فلسطين وفرنسا وفي سورية ولبنان, وبريطانيا في العراق وفي الهند, ثم صرت أحلل القومية العربية وأصولها وجذورها وكتبت عنها وعلمتها ولكن كفلسفة. لم أعد أقدر أن أرى من هو الذي سيوحّد.

          ولما قامت الانقلابات العسكرية صار كل منهم يعتبر نفسه بروسيا العرب. الشيشكلي ذكر مرة أن سورية هي بروسيا العرب, مع أن أولئك الانقلابيين لم يكن أحدهم يضمن 24 ساعة, حصلت خيبة أمل, لكن الفكرة ظلت موجودة. ولاتزال موجودة عند عدد كبير من الناس.

          لكن في عام 1946 انعقدت أول قمة عربية قبل عبدالناصر, في انشاص وكانت تمثل الحكام الذين أنشأوا جامعة الدول العربية. كانوا سبع دول, رسمت مجلة (المصور) المصرية التي كانت تصدر بحجم كبير كاريكاتورا على غلافها الأخير عن مؤتمر انشاص: كان فيه زعيمان: كلّ يقبل الآخر, وبيده خنجر يطعنه في الظهر.. مع الأسف هذا واقع, أو أنه على الأقل كان واقعًا.

          إدارة فلسطين كانت تدير سكة حديد الحجاز في أرضها, وكانت تجمع الأموال إلى جنب على اعتبار أنها وصية على وقف إسلامي.

          السلطان عبدالحميد عمل أشياءً كثيرة, يكفي عبدالحميد أنه, على الأرجح, لم يأذن لليهود بشراء أراضي فلسطين. قال: فلسطين بلد مقدس ولن أسمح لليهود بشراء أراض فيها. ولو أن هناك من يتهمه بأنه (من تحت لتحت) دبّر الأمور. لكن مبدئيا, معروف عن عبدالحميد أنه لم يسمح لليهود أن يشتروا أراضي في فلسطين.

          القضية كلها معقدة أكثر مما يظن الناس. القضية لم تكن قضية عرب ويهود فقط. اليهود ساعدتهم الدنيا كلها, وتنظيماتهم, في حين أن العرب فقراء.

إسرائيل والغزوات الصليبية

  • هناك اهتمام في إسرائيل اليوم بالغزوات الصليبية أو بحروب الفرنجة. أنشأوا في بعض جامعاتهم أقساما لدراسة تلك الغزوات, وبخاصة لماذا فشلت هذه الغزوات في النهاية.

          - هل تعرف لماذا أنشأ وينشئ الإسرائيليون مثل هذه الأقسام? لأن الإفرنج لم يستطيعوا أن يحتفظوا بالبلاد العربية التي احتلوها, لأنه لم يكن عندهم عدد كاف لكي يسيطروا سيطرة تامة عليها. وقد انتبه اليهود إلى ذلك فدرسوا الأسباب التي أدت إلى فشل الصليبيين كي لا تتكرر معهم.

          اكتشف هؤلاء أن السبب الأساسي هو أنه لم يكن هناك عدد كاف من الأوربيين للسيطرة على البلاد. كانوا يأتون ثم يعودون. ولذلك اهتم اليهود بزيادة الهجرة إلى فلسطين ثم إلى إسرائيل.

          ليس هناك إذن ما يمكن تسميته بحملة صليبية في وضع الإسرائيليين اليوم. ثمة فرق في رأيي بين قوم استولوا على بلادنا وبقوا فيها, حتى الآن, وحملة أجنبية فشلت في البقاء فرحلت.

          هي غزوة بلا شك, وهجوم وحشي. أنا لا أنكر أنها غزوة, لكن كل ما هنالك أن المقارنة لا تضبط كما يجب.

  • وهل تعتقد أن التعايش ممكن بين الانغلاق الصهيوني الذي تمثله إسرائيل في قلب مجتمع عربي إسلامي وغالبية هذا المجتمع?

          - هذا أمر يتعلق بالمستقبل. نحن تحدثنا عن الماضي. هذه قضية يمكن أن يفكّر بها. عندك في النهاية مجموعة قائمة في غيتو, حولها سكان عرب أكثريتهم من المسلمين. ثمة خلاف أيديولوجي وسياسي, خلاف على الأرض. هناك نهب وسرقة للأرض. ما الذي يمكن أن يحدث عندما تفقد إسرائيل الدعم الأجنبي?

          هنا المشكلة. إذا تخلت الولايات المتحدة في يوم من الأيام لأي سبب كان, هل تستطيع إسرائيل أن تبقى هنا?

          إسرائيل ستذوب مع الوقت, ولكن ليس عن طريق الاجتثاث, بل عن طريق منع التطور. العرب - إذا استطاعوا أن يقوموا بهذا العمل - فهم عندئذ الذين سينقذون البلاد.

          هذه البلاد لم ينقذها أحد من خارجها. لن ينقذها من اليهود إلا أبناؤها, أبناء المنطقة. فإذا تخلى الأوربيون والأمريكان في يوم من الأيام عن إسرائيل, وكان العرب قد دفعوا بأنفسهم إلى الأمام, عندئذ تصبح القضية قضية أقلية يهودية في مجتمع عربي قوي وناهض. عندها تنعكس الآية وتزول إسرائيل. تزول من الوجود سياسيًا. وقد يعاود اليهود الهجرة من جديد, كما هاجروا من قبل وهم معتادون كما نعرف على الهجرة.

          ولكن هذا عن المستقبل. وهذا هو الذي أتصوره أنا, وهذا هو الذي يمكن أن يتصوره سواي أيضا.

المهم في الموضوع, في رأيي, هو أنه ما دامت إسرائيل لها مثل هذه الضمانة السياسية القوية, فهي موجودة.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ابتدع اليهود مايسمى بحائط المبكى واخذوا يبكون على السور الشرقي للمسجد الاقصى





نقولا زيادة





جهاد فاضل





طرق القدس القديمة طابعها عربي وتاريخها عربي, ولاصلة لها بأي تراث يهودي