ولقواعد النقد أيضاً... شواذ

 ولقواعد النقد أيضاً... شواذ
        

          لو قمنا باستقصاء الدراسات النقدية, لألفينا أن معظمها يقع على طرفي قطبين, فإما نقد قوامه الإطراء والتقريظ والثناء العطر إلى أبعد مدى والانتصار لصاحب الأثر الأدبي, وإما سعي بكل سبيل إلى التماس السقطات والعثرات للأثر الأدبي وصاحبه, وتشويه صورته. وكلا الأمرين يقع في دائرة النقد (الهدّام) وحيد الاتجاه. ويمكن تلخيص هذه الوضعية في بيت رائع للعالم الحكيم الإمام الشافعي رحمه الله يقول فيه:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا


          وقليلون, مع الأسف, هم الذين يمسكون بالعصا من الوسط, بحيث يعدّدون حسنات العمل موضوع النقد, وينبّهون إلى ما شابهُ من مظان الضعف بأقصى درجات التجرد, ذلك أن الناقد صاحب رسالة علمية نبيلة المقصد (ومن المسلَّم به أنْ ليس ثمة عمل -أيا كان- يبلغ مرتبة الكمال, كما لا يخلو كتاب من فائدة), ويبقى التقييم في نسبة مظان القوة ومواطن الضعف بين هذا الأثر وذاك. والنقد, أولا وأخيرا, هو أن يقال للمصيب أصبت, وللمخطيء أخطأت, عساه يسدد ما فرط منه من أمْت ويقوّم الاعوجاج الذي شاب نتاجه, وهذا هو النقد البنّاء.

          ارتأيت أن أسطّر هذه التوطئة البسيطة, وأنا أود أن أتحدث عن الملف الذي أفردته مجلة (العربي) في عددها 552, عدد نوفمبر 2004م لذكرى رحيل شاعر السودان عبد الله الطيب. وأود بدءا أن أقول إني قد طالعت بتمعن المقالات كلها التي تناولت الموضوع. على أن الذي استوقفني منها كثيرا كان مقال د. الربيعي الذي تناول فيه كتاب الطيب الموسومَ (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها). وقد وجدت أن د. الربيعي ينزع إلى أسلوب التورية أحيانا, من ذلك مثلا قوله: (في كل مرة يقرر فيها عبد الله الطيب نظريته تلك لا يلبث أن يورد هو نفسه من الشواهد الشعرية ما يجعلني مترددا في الاقتناع بهذه النظرية), لكيلا يقول إن السيد عبد الله الطيب سقط في مطب التناقض. وهو أسلوب محمود من د. الربيعي. كما أنه لم يغمط الكاتب حقه, إذ عدّد الكثير من حسنات مؤلَّفه.

          وأستميح القارئ عذرا في أن أدلي ببضع ملاحظات بشأن هذا الموضوع المهم لأشير إلى أني أشاطر د. الربيعي رأيه فيما ذهب إليه من عدم اقتناعه بما أضفاه الطيب على البحور من نعوت (أخلاقية) من قبيل (الشهوانية) و(الوحشية) و(الدناءة) وسوى ذلك, وما أشار إليه أيضا من عدم انفراد بحر دون آخر بطبيعة موسيقية ما, ففي تقديري أن البيت الأول الذي يمرق في ذهن الشاعر - والشاعر الحق هو الذي يكتبه الشعر لا الذي يكتب الشعر- هو المحدد للبحر الذي ستُنظم عليه القصيدة أيا كان طولها أو قصرها, فليس الغرض الشعري هو المحدد للبحر, وآية ذلك تعدد الأغراض في البحر الواحد, وتعدد البحور في الغرض الواحد. ثم إنه يكون لزاما على الباحث - إن هو رام الانتهاء إلى أحكام عامة ونهائية - أن يلمّ تمام الإلمام بمجموع الموروث الشعري العربي, ويحصر كل ما قيل في هذا البحر أو ذاك, وبناء على ذلك يخلص إلى نتيجة نهائية, وهذا لعمري ضرب من المستحيل, ومن الثابت أن كل كاتب إنما ينتقي فقط ما يخدم غرضه, عسى أن يكون ما يورده من حجج مقنعا.

          كما أود, ردا على ما ذهب إليه الطيب من أن البحر الكامل ليس بحر (تأمل), أن أورد بضعة أبيات من قصيدة رائعة لأبي الأسود الدؤلي نُسجت على بحر الكامل, يرثي فيها أبناءه الخمسة حيث قال:

أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قالت أميمة ما لجسمك شاحبا منذ ابتليت ومثل ما لك ينفع?
فأجبتها أن ما لجسميَ أنه أودى بنيَّ من البلاد فودعوا
أودى بنيّ وأعقبوني غصة بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
ولقد أرى أن البكاء سفاهة ولسوف يفجع بالبكا من يفجع
وتجلدي للشامتين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهمُ فإذا المنية أقبلت لا تُدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع


          ولعل من الأمور التي لا تليق بالباحث - أي باحث - أن يجزم بيقينية طروحه, ويسعى إلى فرضها على الآخرين ويرمي كل من يخالفه الرأي بالمكابرة والمغالطة في الحقائق. لكأنه يضعهم أمام حقائق مطلقة لا يتطرق إليها الشك من بين يديها ولا من خلفها!

          أخيرا وليس آخرا أقول إنه لربما كانت معضلة البحث مكمنها في إصدار الأحكام الإطلاقية والتعميم. فالمسلّم به أن لكل قاعدة شواذّ, فكيف إذا كان الرأي والحكم مبنيين على محض الاستقراء أو الانطباع على نحو لا ينهض الدليل على صحته في الأصل?.

 

عبدالحكيم خيران   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات