الثقافة أولاً... الثقافة أخيرًا

الثقافة أولاً... الثقافة أخيرًا
        

          في الآونة الأخيرة تزايد الحديث عن مفهوم التغيير ومقومات النهضة في الثقافة العربية التي رهنت نفسها للخطابةِ والشعر وبعض التقاليد الأخلاقية, التي تقضي بمسلمات معقدة, لا يجوز انتقادها, ولا التعرض لحراسها الذين يخطفون الإنسان من إنسانيتهِ - أحيانا - بالتزمت وبتشريع ما لا يعقل. ولستُ مفوضا للإفصاحِ عن مظاهر مشهودة تسيطر على المجتمعات العربية التي يطمح مثقفوها إلى الإصلاح وإعادة بناء المفاهيم والعادات والقيم مما أوقعهم في جدلية مزمنة وهي (من يقبل من?) المجتمع يذوب في الأطروحات الجديدة, أم الأطروحات الجديدة تذوب في المجتمع, الذي تحكمه حالات متوجسة لأنها غير واضحة غالبا? فالأبعاد الأسطورية والفانتازيا التاريخية تشطح بالعقل إلى حدِّ اللاإدراك وهذا ما يفرضه المتدينون, ولا أقول الديانات لأنها جاءت للإبانة عن مكنوناته ولا يكفي إذا لم تكن (الثقافة أولا) بوصفها مسئولية وحرية واقتناع بمبادئ مشتركة يتلاقى فيها الجميع, فما تنجزه الثقافة من مقولات الوعي وتطهير الضمير يصبح لعبة استفزازية وأكذوبة تاريخية, إذا لم تتحقق شعبية المفاهيم, إذا لم تتمحور القوانين والنظم الاجتماعية والدينية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية.... كلها حول صياغة قيمة لهوية الإنسان وعولمتها, بدلا من احتكارها في جنسية ما, وفي وطن  محدود بالجغرافيا.

          وما تقدمه المؤسسات الثقافية في الوطن العربي من خلال المهرجانات والتجمعات المستمرة لتقييم الثقافة ومستوى إنجازها ومستقبلها الذي يراهن عليه, لا أحد يتابع سيرة َ التوصيات ولوائح التنفيذ التي يتداعى بها المثقفون العرب في كلِّ مؤتمر وفي كل جلسة, لدرجة أنها أصبحت كابوسا عصيا لدى البعض.

          قائمة طويلة جدا من المثقفين العرب الذين لا يملون قراءة الوجه العربي, وحتى الآن لم يستطيعوا تفصيل قناع مبهج له. فالويلات والانحطاط الحضاري عزل الأمة عن السباق التكنولوجي ومطامع التمدن التي أضحت علامة فارقة في أولويات المجتمع المعاصر.

الخطاب الأكاديمي

          إن معظم مراكز البحث العربية يسيطر عليها أساتذة الجامعات والمعاهد والكليات, وهي ترسخ المنهج الأكاديمي, الذي تحكمه ظروف التدريس, والمنهج التعليمي غالبا ما يكون محدودا بآراء السابقين, ومناقشات محنطة لا تجادل ولا تتطور ولا تنفتح على أطياف مختلفة من النظريات والرؤى لذلك اعتبرتها محدودة وحتى أساتذة الجامعة منغلقون على أساليب ثابتة لا تؤدي إلى متوالية فكرية, حتى أن البعض يصف الجامعات العربية بأنها (مقبرة للفكر وتحنيط للإبداع) وهناك مقولة لكاتب غربي (الجامعات تعلم كل شيء حتى الغباء) وكأنه يشير إلى الجامعات العربية.

          وهذه المجموعة من أساتذة الجامعات نراها الأولى على مقاعد الإشراف والتنظير الثقافي, ولجان التحكيم في مسابقات البحث والعلوم, وفي تقييم الحراك الفكري العام في أطراف المجتمع العربي, ولكنها بحاجة إلى مراجعة وتقييم وتصحيح لمساراتها العلمية, ومواكبتها للأطروحات الحديثة. نجدهم من نقاد وباحثين وشعراء وكتاب وصحفيين خارج أسوار الجامعة ربما يكونون أكثر عطاء وجِدة  ووعيا, وبهم تتدافع عجلة التطور التاريخي والحضاري لأنهم ينطلقون من أنفسهم, ولا يحتكمون لرقابة ما. والتفكير الحر هو باعث صادق للتحول الحضاري لأنه محفز للتجريب.

رهان مؤجل

          وباعتقادي أن الشباب سيظل رهانا مؤجلا في أكمام القميص العربي, فكل المرافق الثقافية ومناصب الإعلام التي تعم أرجاء الوطن العربي تتوجه إليهم.... فالمستقبل هُم, وهُم حائرون كيف يقهرون السياج ويحققون اشتراطات النهضة والوعي. قد تكون الحروب والخصومات أقرب الوسائل لتمرين الشباب على مبادئ السيادة والتسلط ولكنها ستقحم الواقع بويلات وجرائم فظيعة لا يصح التكهن بها لكن الثورة, بعضنا ضد البعض الآخر, هي اللغط الملعون الذي يدهمنا في الخيالات فالرغبة في الحرية هي ما دفع أوربا لأن تغسل العار بدمائها, وأن تمحو صفحات الخطايا لتكتب (كلنا للوطن...) فالحرية واحدة والوطن واحد, والعمل الثقافي, إذا لم يتقاطع مع السياسة, فسوف يظل المثقف معزولا عن السلطات وبعيدا عن قرارات المصير, نحن أحوج ما نكون إلى المثقف السياسي ولا مانع من تسييس الثقافة كشرط للدخول في حياة فاعلة ومتصرفة في شئون الأمة وهو ما يضمن للشباب حيوية أبدية وإلغاء الرهان المؤجل, في سبيل واقع محايد وفكر أكثر حيادا.

حالة ُ إدمان

          تتعدد المقولات التنويرية / التصحيحية سواء في كتابات النخبة, أو في وسائل الإعلام المتنوعة أو في المهرجانات وما تتضمنه من بحوث ودراسات نظرية تفضح المسكوت عنه وتستوضح بواعث النكوص العربي المتنامي في جميع الأقطار العربية, وأن الإنجاز العربي الذي يبلغ صداه آذان العالم يمثل جهودا فردية عززت نشاطها وبحوثها (هناك) في مراكز البحث العلمي بالغرب وجربتها في المعامل والمختبرات حتى أكدت قدرتها بعد بروز النتائج. وكمثال ناصع نشير إلى العالم الكيميائي المصري أحمد زويل الذي فاز بجائزة نوبل, ولكن أبحاثه ونظرياته بفضل الدعم الأمريكي من خلال مراكز الأبحاث التطويرية, وقد سجلت ابتكاراته بجنسية أمريكية..!

          في هذه المرحلة المفصلية من أزماتنا علينا أن نخرج من غطاء الجاحظ حين ينسب الأمة العربية بقوله (العرب أمة بيان), ولهذا جاءت استجابة عبدالله القصيمي في كتابه (العرب ظاهرة صوتية), وعلي حرب في مناحته حول نقد المثقف وسقوط الأبراج العاجية, التي هوَّم عليها المثقفون العرب زمنا طويلا.

          فإلى (متى?) نُصِرّعلى فلسفة الـ (بين) في قضايانا ومشكلاتنا? لمَ لا نلجأ للمنطق الرياضي (إما /أو), فالثقافة التي لا تقبل التغيير هي ميتة, ويجب تغييرها, فلا حياة َ تستجد للموتى, و(تغييرها) يعني تقويض مبادئها ومسلماتها التي جعلتها في خذلان مفجع لابد أن تتجاوزه قريبا, والثقافة التي تؤجل إصلاحها هي شبه ثقافة لأنها (فردية) وحضارات اليوم ضد الفردية في صياغة المفاهيم, ونقدها وتطويرها أيضا, وهذا تأكيد على ما يسمى (العقل المشترك) في أجندة الثقافة العالمية الحديثة.

 

محمد الفوز