فراشات الأدب ومحرقة السياسة

   فراشات الأدب ومحرقة السياسة
        

          مرة أخرى نطرح موضوع العلاقة بين النخبة الحاكمة والمثقف العربي. وهي علاقة - كما شهدها تاريخنا - كانت دومًا في حال تأزم وخصام.

          منذ القدم حاول أفلاطون وضع أساس للدولة المثلى, وراح يحلم بإقامة (الجمهورية الفاضلة), أي الدولة التي يتولى فيها رجال الفكر والفلسفة زمام القيادة والحكم, لأن هؤلاء - في رأيه - هم الأفضل. وعلى هذا الغرار تطلع الفارابي, الفيلسوف الإسلامي, أيضًا إلى إيجاد (المدينة الفاضلة).

          غير أن واقع الحياة كان على الدوام مغايرًا, فلم تكن هذه النخبة هي الأقدر, وإن بدت لأفلاطون وأمثاله أنها الأجدر, كذلك لم تكن العلاقة بين السياسة والأدب على وفاق ووئام, بل كانت في معظم الأحيان في حال تأزم وخصام.

          من بواكير ما يطالعنا على هذا الصعيد في فجر التاريخ العربي قبل الإسلام, ما وصل إلينا من أخبار الشاعر الرائد امرئ القيس بن حجر الكندي (500-542م). وهو ملك ابن ملك. كان أبو (حجر) يتربع على عرش مملكة كندة التي قامت إلى أمد قصير, بجانب دولة المناذرة ودولة الغساسنة. وكان امرؤ القيس أميرًا عابثًا, لا يأبه لشئون الحكم وأحوال السياسة. فنبذه أبوه, بعد أن طاب لابنه عيش اللهو والمجون والصيد واحتساء الخمر وملاحقة النساء. ولكنه حين بلغه مصرع أبيه, وهو في جلسة عبث وشراب, أذهلته الصدمة, وذكر أباه المقتول بأسى ومرارة, وقال عبارته الذائعة (لقد ضيعني أبي صغيرًا, وحمّلني دمه كبيرًا), ثم تناول الكأس يودعه ويعبّ ما فيه, وهو يتمتم بقوله: (لا صحو اليوم, ولا سكر غدًا. اليوم خمر وغدًا أمر...).

          وهكذا نهض وريث الملك, ومضى يطالب بعرشه السليب. واشتهر منذ ذلك الحين (بالملك الضليل), أي كثير الضلال.

          وحين راح امرؤ القيس يجمع من حوله الأنصار لنيل مبتغاه, دون أن يفلح في مسعاه, قصد إلى قيصر القسطنطينية مستنجدًا البيزنطيين, طمعًا في أن يتصدّوا لأعدائهم المناذرة وأعدائه, ويعيدوا إليه عرش أبيه. ولكنهم لم يتحمّسوا له, فعاد خائبًا مقهورًا, ومات في بر الأناضول بعد أن أصابه مرض الجدري, ولقّب في إثر ذلك لقبًا جديدًا هو (ذو القروح). وهكذا كان رائد الشعراء العرب أول ضحايا السياسة.

          وفي آخر العصر الأموي, حيث انقضّت الأعلام السوداء بقيادة قائد العباسيين أبي مسلم الخراساني على عاصمة الأمويين دمشق, وبطشت بآخر خلفائهم, أخذت كتائب الثوار تطارد كل الذين يلوذون ببني أمية. وكان يتولى ديوان الخليفة مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين, الأديب الثائر عبدالحميد بن يحيى الكاتب الذي يعد رائد الكتاب في الأدب العربي, وفيه يقول النقاد القدامى: (بدأت الكتابة بعبد الحميد, وانتهت بابن العميد). وأصبح الكاتب عبدالحميد بسبب موقعه الرسمي وقربه من الخليفة, أحد المطلوبين البارزين في نظر الثوار العباسيين. فاختبأ عند صديقه الكاتب ومترجم كليلة ودمنة عبدالله بن المقفع, واختفى عن الأنظار, ولكن الجند اهتدوا إليه. وهنا يتجلى لنا موقف مشرف ينتزع الإعجاب كما يذكر المؤرخون. فعندما صاح قائد الكتيبة: (مَن منكما عبدالحميد?). أجاب ابن المقفع وعبدالحميد في آن واحد: (أنا عبدالحميد). وفي غمرة الدهشة التي اعترت الجندي المكلف, تقدم عبدالحميد بثبات ليقول, مهلاً, فلكل منا علامات. وهكذا عاد الجند ببغيتهم ليلقى الرجل الموت, لا لشيء إلا لأنه كان من أعوان الأمويين وكبار أعمدة دولتهم, ورأس الكتاب في عهدهم.

          ومن أشد دواعي الحزن وبواعث الأسف بعد حين, أن يلقى ذلك الخل الوفي عبدالله بن المقفع المصير نفسه الذي لقيه أيضًا صديقه الأثير عبدالحميد بن يحيى. هذا الكاتب الفارسي المجوسي, كان أديبًا بليغًا, ومترجمًا حاذقًا, وذكيًا نابهًا. وقد أصبح كاتب الديوان لعيسى بن علي, ثم أسلم على يده. وعيسى هذا وأخوه عبدالله من أعمام الخليفة الأول أبي العباس السفاح, فخاف عبدالله بن علي على نفسه, بعد تمرّده العاثر على الخليفة, فأعلن مبايعته واستسلامه, فمنحه الخليفة الأمان. ولكن الثائر عبدالله ظل يتوجس خيفة من ابن أخيه الخليفة, فتوخى الحذر, وطلب من ابن المقفع أن يكتب له صكًا يحميه في خضم التقلبات والنزوات, وهذا ما كان. ومما جاء في مضمون صك الأمان, أنه إذا غدر أبو جعفر بعمه, فإنه يحل للمسلمين خلعه, وأن نساءه طوالق, وأمواله حبس لبيت المال, ولما قرأه الخليفة استشاط غضبًا. وما إن عرف أن كاتب الصك هو ابن المقفع حتى نقم عليه وعزم على قتله. وقد أوعز إلى أحد ولاته أن يتولى أمره, فدبر له ميتة شنيعة, وهو شاب في الخامسة والثلاثين من عمره. وكان بذلك ضحية أخرى في أتون السياسة التي لا ترحم.

مأساة الزيات

          وشبيه بهذه الحادثة الأليمة, ما وقع في إبان العصر العباسي لمحمد بن عبدالملك الزيات, وزير المعتصم ثم الواثق. والوزير الزيات في طليعة الكتّاب والناثرين فصاحة وبلاغة, وكان صديقًا حميمًا للجاحظ. وقد رأى الخليفة الواثق يومًا أن يسأل وزيره وكاتبه الزيات في أمر ولاية العهد, فأشار عليه أن يجعل الخلافة من بعد لولده بدلاً من أخيه المتوكل. ولم يقدّر الوزير الزيات يومئذ أن في هذه العبارة هلاكه.

          وحين علم المتوكل بالأمر سكت على مضض, وأضمر الشر للوزير الكاتب, وكان أن قادت الظروف المتوكل إلى تسلم الخلافة. فاعتقل الزيات وأمعن في إيذائه, كما صادر أمواله وأرزاقه, وأرسل مَن ينهب داره. ثم أمر بحبسه وتقييده بالحديد, كما منع الطعام عنه, وحرمه من النوم. ثم أدخله في تنور فيه مسامير حديد, وعذبه فيه أيامًا حتى مات, ويا لهول هذا المصير.

          على أن اللبيب مَن اعتبر بغيره. لقد شعر الجاحظ بالحزن الشديد على صديقه الأثير. فاعتكف, وابتعد عن الأنظار مدة من الزمن. ثم جاءه رسول الخليفة المتوكل يعرض عليه أن يتسنم الوزارة بدلا من سلفه الزيات. فردّ الجاحظ بالشكر, واعتذر عن عدم تلبية هذه الرغبة السامية. وهذه, دون ريب, حصافة منه تجاه مغريات السلطة والنفوذ, والجاه والمال. وحين سأله بعض خلصائه عن ذلك أجاب بسخريته المعهودة, لا أريد أن أكون ثاني اثنين, في التنور.

          وفي وقت تال من هذا العصر العباسي كان ثمة شاب أديب وشاعر من أمراء بني العباس اسمه عبدالله بن المعتز, كانت حياته قسمة بين نظم الشعر وتأليف الكتب, وبين اللهو والصيد. ولكنه أفاق ذات يوم على فتنة طاغية, تم فيها خلع الخليفة المقتدر, والمناداة بابن المعتز خليفة جديدًا. إلا أن الأمور سرعان ما انقلبت رأسًا على عقب, إذ قامت جماعة مضادة بالقبض على ابن المعتز, فلقي مصرعه وهو في الخامسة والأربعين من عمره. وكأنما اختاره أنصاره ليقتل على مذبح السياسة, وقبل أن يذوق حلاوة الحكم, إذ لم تتم خلافته سوى يوم وليلة. وفيه صح شطر البيت السائر: (...خليفة أدركته حرفة الأدب).

المتنبي وكافور

          ولما كان من المعهود أن يكون للسلطة إغراء, وللكرسي إغواء, فقد مضى العديد من الشعراء والأدباء في طريق السياسة الشائك, وكان في جملتهم الشاعر أبو الطيب المتنبي, حين رحل إلى مصر أملاً في أن يحقق أطماعه في الحصول على ولاية يمنحه إياها الحاكم كافور الإخشيدي. ولكن أمله خاب في ذلك, وشعر بالأسى لأنه أذل نفسه أمام كافور, ومدحه في قصائد عدة دون أن يحظى بطائل, بل لقد قيدت حركته وبات موضع ريبة. ثم استطاع الإفلات من عيون الحاكم الداهية في ليلة العيد والقوم لاهون, فهرب تحت جنح الظلام, وترك لكافور هدية العيد التي أعدها بعناية وطار ذكرها في الآفاق, إنها قصيدة هجائية قاسية أفرغ فيها المتنبي كل نقمته وسخطه على كافور, ومنها قوله:

لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد


          أما الأندلس, حيث الشطر الآخر من العالم الإسلامي, فقد كانت مشاركة الأدباء والشعراء في أمور السياسة ناشطة في ربوعها إلى مدى أبعد. فالشاعر يحيى بن الحكم الأندلسي من أوائل الدبلوماسيين إن لم يكن أولهم, ولعله الأشهر في تاريخ العرب (156-250هـ). وقد لقبه معاصروه بالغزال لوسامته وظرفه, وكان معاصرًا للجاحظ المشرقي ومجايلاً له (159-255هـ), وعاش مثله أيضًا عمرًا مديدًا. هذا الشاعر عرف بالذكاء والفطنة, كما عرف بالكياسة والظرف. وجدير بمن تتوافر في شخصيته هذه الصفات أن ينتزع إعجاب أمير الأندلس عهدئذ عبدالرحمن الأوسط. لقد قربه الأمير ثم أوفده إلى بلاد الروم سفيرًا له, فوق العادة, كما يقال اليوم في الأوساط الدبلوماسية. وسافر الدبلوماسي الشاعر يحيى الغزال إلى (بيزنطة) بهدف عقد معاهدة مودة ووئام مع الإمبراطور تيوفيل (توفلس) لتوطيد العلاقات الطيبة بين دولة العرب الأندلسيين في الغرب, ودولة الروم البيزنطيين في الشرق.

          غير أن هذا الشاعر الدبلوماسي عرّض نفسه في بلاط قرطبة لهزات كان في غنى عنها, لولا فرديته وأنانيته وطمعه. فقد حدث أن وصل إلى الأندلس الموسيقي المشرقي زرياب. وكان تعرض لمضايقة أستاذه إبراهيم بن إسحاق الموصلي في بغداد, فآثر الابتعاد عنه وعن العراق جملة, وود الالتحاق ببلاط بني أمية في قرطبة. ويبدو أن يحيى الغزال وجد في زرياب وفي مواهبه الجمّة ما قد ينافسه ويخمل شأنه في الأندلس. فداخله الحسد نحوه, وعمد إلى هجائه. وبذلك أسخط عليه أميره عبدالرحمن الأوسط فقرر نفيه...كذلك, وعلى صعيد آخر, تمادى الغزال في تصيد المنافع مستغلاً موقعه الأثير في بلاط الأمير. فغضب عليه أمير الأندلس, وعمد إلى زجه في السجن, وهكذا أمضى حياته المتقلبة بين مد وجزر, إلى أن توفي بعد عمر مديد.

ابن حزم والطوق

          وكان طبيعيًا في بلاد الأندلس أيضًا أن يكتوي  العديد من الوزراء والسفراء بنيران السياسة, وأن يذوقوا حلوها ومرها. والشاعر الأديب علي بن حزم الأندلسي علم كبير في رحاب الفكر والفقه والتأليف (403-492هـ). كان من أسرة مترفة عرفت بالجاه والثروة, وكان أبوه وزيرًا للحاجب المنصور, ثم جذبته السياسة في تلك الفترة المضطربة, فتولى الوزارة مدة, ولكنه لم يلبث بعدها أن صار إلى السجن. وحين خرج من هذه التجربة القاسية آلى على نفسه أن يجنح للكتابة والتأليف, حيث تتجلى نفسه على حقيقتها. ومع ذلك كان يحس في أعماقه بغصة دائمة بسبب شعوره بالغبن, لأن أبناء قومه في الأندلس لا يعيرونه الاهتمام الذي يستحقه, خلافًا لما كانوا عليه من حفاوة بأدباء المشرق. ولا ريب أنه ليس أشق على المرء من أن يشعر أنه غريب في وطنه, ومن نفثاته في هذا الصدد:

أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب


          ثم كان الأشهر في الأندلس بين السياسين الأدباء, أو بين الوزراء الشعراء, أبو الوليد ابن زيدون أحد أعلام القرن الخامس الهجري, الحادي عشر الميلادي (394-463هـ), وهو الذي ارتبط اسمه بولادة كما ارتبط قبله اسم قيس بليلى, وجميل ببثينة, وكثيّر بعزة. وهو متحدر من قبيلة مخزوم إحدى أشهر بطون قريش, التي أنجبت, فيمن أنجبت. خالد بن الوليد, وابن زيدون من أسرة عالمة وفقيهة وثرية.

          لقد خاض ابن زيدون غمار السياسة في العاصمة قرطبة ثم إشبيلية, معتمدًا على عراقة نسبه, ومكانة أسرته, وعلى تنوع جوانبه, وتعدد مواهبه. وكان أن تمكن بفضل ذلك من تمهيد السبيل لوصول آل جهور إلى الحكم, وتوطيد دولتهم في قرطبة. ثم ما لبث أن صار وزيرًا. وبذلك لقبه أهل الأندلس بذي الوزارتين, وزارة السيف ووزارة القلم. وبعدئذ عهدت إليه السفارة لدى بعض ملوك الطوائف, فكان خير مَن توكل إليه الأمور السياسية والمهمات الدبلوماسية.

          على أنه ليس من المستغرب خلال الأحوال المضطربة في عهد ملوك الطوائف الأندلسيين أن تتفاقم مكائد البلاط, وتتلبد أجواء التنافس والصراع. وهكذا حلت القطيعة بين الأمير ابن جهور والشاعر ابن زيدون. فبين عشية وضحاها أطيح بالشاعر الوزير, ووضعت في يديه الأغلال, وزج به وراء القضبان, حيث أمضى سنوات أليمة من عمره, لم يكن أمامه خلالها سوى أن يستعطف ويتعتّب, ويشكو ويترجى. لقد انسلخت عنه السلطة, كما انصرفت عنه الحبيبة. وهكذا مرت ليالي الأنس والهناء, وانقلب السعد إلى شقاء.

          وفي العهود الأندلسية المتأخرة ازدادت مزالق الأدباء في معترك السياسة. وهذا معهود حال الدنيا, فالوزير لسان الدين ابن الخطيب (713-776هـ), (1313-1374م), كان أحد أبرز علماء عصره, كما أنه مؤرخ وأديب وشاعر, وهو صاحب الموشح الجميل الذي جرى على كل لسان ونسج على منواله كثيرون:

جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس


          وهو وشّاح وناثر, لقد كتب عليه أن يتقلد الوزارة مدة من الزمن لدى حاكم غرناطة, ولكن هذا الأديب المبدع والشاعر الرقيق ما لبث أن صار إلى أسوأ حال وشر مآل, بعد أن حبكت حوله مؤامرة ظالمة, وألصقت به تهمة الزندقة وسلوك مذهب الفلاسفة. فأفتى الفقهاء بقتله, ثم دخل عليه بعض السجناء وخنقوه.

          وفي هذا الجيل من الأندلسيين كان يعيش أيضًا شاعر كبير ووشاح شهير, يعرف بابن زمرك (733-793), واسمه أبو عبدالله يوسف.

          والغريب في الأمر أن لسان الدين بن الخطيب, هذا الوزير الأديب كان يومًا أستاذًا جليلاً, وصديقًا حميمًا لأبي عبدالله بن زمرك. وابن زمرك هذا بالإضافة إلى أنه أديب شاعر, سياسي بارز ووزير خطير. غير أنه كان لئيم النفس, سيئ الطوية. ولكن الدهر دوّار, وذلك حين سخط صاحب غرناطة آخر الأمر على ابن زمرك, وأمر بقتله, وهكذا شرب من الكأس التي سقاها لأستاذه, وارتد كيده إلى نحره.

 

عمر الدقاق   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات