لقد وجدت في الجزائر جنتها الأرضية, ووطنها المفقود, فاعتنقت دينه
الإسلامي الحنيف وساندته في جهاده, وساهمت في ثقافته, وكل هذا بنشاطها وبقلمها
الجريء وأسلوبها الرومانسي الدافئ تارة والساخر تارة أخرى, وهذا ما نستشفه من
كتاباتها ومراسلاتها الصحفية بجريدتي (الأخبار) و(لاديباش ألجريان), فنرى مثلا كيف
تستنكر الاحتلال, الذي يناقض شعارات الثقافة الغربية, التي ينتمي إليها الاحتلال,
فتكتب (لماذا أتوا بحضارتهم الفاسدة, وأدخلوها لهذا البلد? أين هي حضارة الذوق
والفن, والفكر, التي لدى النخبة الأوربية?!).
وُلدت إيزابيل ويلهيمين ماري إبراهاردت يوم 17 فبراير 1877 بـ (ميران)
جنيف (سويسرا) من أم أرستقراطية روسية تدعى (نطالي دوروتي شرلوط إبراهاردت) أرملة
الجنرال (بفال كرلوفتش دوموردر) المتوفى في موسكو يوم 23 أبريل 1873 ومن أب هويته
مختلفة, والتي لا أحد يقدر أن ينكرها, ففي رسالة إلى صديقها التونسي (علي
عبدالوهاب) المؤرخة يوم 1 يناير 1898 أي بعد بضعة أسابيع من وفاة الأم (إيزابيل)
ذكرت أن أمها صرحت لها وهي على سرير الموت بأنها ابنة طبيب مسلم, ولهذا فإننا لا
نشك في تصريح امرأة على فراش الموت. وفي سن 18 سنة, وفي جنيف كان لها ارتباطات مع
أوساط المهاجرين, فكانت تستقبل المطرودين والثوريين الهاربين من سيبيريا, والشباب
الأتراك المعارضين للحكم الجبروتي للسلطان عبدالحميد. وكذلك المربي والأب الروحي
لإيزابيل الروسي ألكسندر تروفمسكي الذي كان راهبًا في الكنيسة الأرثوذكسية والذي
كان له دور فعال في روسيا كمعارض.
إيزابيل إبراهاردت ترعرعت في هذا السياق, وتأثرت به, ولكن صقلت فكرها
من خلال رحلتها الثرية, واحتكاكها بالثقافة الإسلامية والعربية, اتصلت بالمواطن
المصري المعروف (أبو نظارة) جيمس سنوى (المتعدد اللغات), مدير جريدة مؤيدة للشرق في
باريس, أصبح صديقًا وفيًا لإيزابيل, ونصحها بالمساهمة لمعرفة الحياة والعادات
والأخلاق الخاصة بالمسلمين في الجنوب الجزائري, وكان من المستحيل عند اتصالها
بالشيخ (أبو نظارة), وهو صديق جمال الدين الأفغاني (1838-1897) أحد رواد النهضة
الإسلامية والدعوة إلى إصلاح أحوال المسلمين, وتحرير شعوبهم من ربق الاحتلال
والاستبداد, كان من المستحيل ألا يتناول هذا الاتصال, الحديث عن الإسلام وحركة
النهضة والاحتلال الغربي لشمال إفريقيا....إلخ.
وهذا الاحتكاك بالمسلمين والثقافة الإسلامية أعطى لإيزابيل نظرة
موضوعية, فكانت من القلائل, إن لم أقل الوحيدة في بداية هذا القرن التي حاولت وعملت
على إظهار إنسانية المسلمين, وأخلاقهم كالأمانة وحسن الضيافة والشجاعة.
وشاركت في الواقع الجماعي للمسلمين, بل وبقناعة راسخة بشرت بإخفاق
الاحتلال, في الوقت الذي كان فيه مفكرون وصحفيون كصاحب الأيديولوجية الاستعمارية
العنصري والأكاديمي (لويس برطون) وتلامذته من أمثاله يسيرون في الاتجاه المعاكس
لفرض القيم اللاتينية والمسيحية, وضرب القيم العربية والأمازيغية في الشمال
الإفريقي التي عملت إيزابيل على استمرارها.
مدينة الوادي
وصلت إلى مدينة الوادي لأول مرة يوم: 4 أغسطس 1899 بتكليف بمهمة من
طرف (المركيز دوموراس - رطزي) للتحقيق في قتل زوجها في سنة 1895 على الحدود
الجزائرية - التونسية - الليبية.
وبعد المضايقات التي حاصرتها من طرف الإدارة العسكرية التي كانت تصفها
بالعين الشريرة, وعلقت عليها قائلة (إن هذه المرأة الروسية بالاسم الألماني وبالزي
الرجالي (زي الفرسان) والتي تعاشر القبائل, وترسم وتكتب لاشك أنها ميتودية أو
جاسوسة)!
فغادرت إيزابيل إبراهاردت الوادي بعد خمسة عشر يومًا من قدومها, ثم
رجعت إليه يوم 2 أغسطس 1900 باسم مستعار هو (محمود السعدي) برغبة الإقامة الدائمة,
لانبهارها بطبيعة المنطقة وجمال عمرانها, وحسن أخلاق أهلها, وأقامت بمسكن شعبي
وكتبت تقول: (إنني بعيدة عن العالم, والحضارة! ومهازلها المنافقة, إنني وحدي في دار
الإسلام في الصحراء حرة, وفي أحوال صحية جيدة...الوادي, البلد الذي لا تعد قبابه,
هي البلدة الوحيدة التي أقبل العيش فيها للأبد, دائمًا. أريد شراء أرض صالحة
للزراعة, وأجعل فيها جنانا وبئرًا ونخلاً), ثم بعد هذا اشترت إيزابيل (حصانًا)
وأطلقت عليه اسم (سوف) وبدأت في رحلاتها الطويلة في المنطقة, وقد اعتنقت الطريقة
القادرية, وذلك عن طريق السي الطبيب و(سي محمد الحسين) ورجال دين آخرين مشهورين في
المنطقة كأولياء صالحين مثل (سي الهاشمي) و(سي محمد الليمام), وتعرفت فيما بعد على
الرقيب (السباحي سليمان اهني) والذي أصبح رفيقها في الحياة, حيث تزوجا طبقًا
للشريعة الإسلامية, في الزاوية القادرية بالوادي, وتم العقد لإيزابيل باسم عربي هو
(مريم) وهو الاسم الذي كانت توقع به بعض رسائلها, وكتبت عن زوجها سليمان (الله قد
أشفق علي, لأنه استجاب لدعائي, وأعطاني الرفيق الأمثل الذي كنت دائمًا أرغب فيه,
والذي دونه كانت حياتي ستكون مفككة وحزينة...).
وفي 29 يناير 1901 تعرضت لحادث أليم, وعنيف في منطقة, (البهيمة) قرب
الوادي, من طرف شاب يدعى (عبدالله بن محمد) من الطريقة التيجانة, الذي وجه لها ضربة
سيف أصابتها في الذراع, إصابة خطيرة, بدعوى إهانتها للإسلام, عند تشبهها بالرجال,
وفي تقمصها لزي الفرسان العرب, وعدم احترامها للشريعة التي تحرّم ذلك, وهذا دون
النظر إلى دوافعها في ذلك وأحوال البلد الغارقة في الخوف والرعب, هذه الضربة
أقعدتها في مستشفى الوادي أربعين يومًا, ومع ذلك فأثناء المحاكمة أشفقت على الشاب
عبدالله لأنها علمت أن مدبري الجريمة, هم من عملاء الإدارة (بيرو عراب), ودافعت عنه
أمام محكمة قسنطينة في 18 يونيو 1901, ومع كل ذلك, فقد حكمت المحكمة على عبدالله
بالأشغال الشاقة, وعلى إيزابيل بالنفي كشخص أجنبي, وكان حكمًا قاسيًا وعنصريًا
لكليهما من قبل القضاء الفرنسي العسكري, وتأسفت إيزابيل عن قسوة الحكم علانية,
وكتبت خواطرها نحو الرجل (إنني بحثت في عمق قلبي عن الحقد نحو هذا الرجل, فلم أجده
ولا الكره كذلك), وفي رسالة بتاريخ 7 يونيو 1901 إلى جريدة (لاديباش ألجريان) قالت
فيها: (لا يا سيدي المدير, إنني لست سياسية ولا عميلة لأي حزب ما, لأنني لا أراهم
إلا مغرورين في نضالهم, إنني أريد العيش بعيدًا عن العالم المتحضر!! أريد حياة حرة
وبدوية وهذا حلمي, لأجل أن أنقل كل ما أراه, وأنقل قشعريرة الحزن والسحر الذي أحسّ
به أمام العظائم المحزنة للصحراء, هذا كل ما في الأمر).
وأثناء إقامتها في الوادي, التي دامت سبعة أشهر, قامت بأعال خيرية
وإنسانية, حيث كتبت في الرسالة ذاتها: (...بعد حادث الاعتداء من قبل المسمى عبدالله
بن محمد, لقد قلت في رسالتي الأولى إن أهل (سوف), ومريدي الطريقة القادرية, وكذلك
الطرق التيجانية قد أظهروا بالغ حزنهم العميق, وكامل تأثرهم بعد ما علموا بالحادث
المؤلم الذي تعرضت له خلال محاولة الاغتيال النكراء, لذا فأنا مدينة لهؤلاء من أهل
وادي سوف الطيبين, وما يتصفون به من حنان ومودة وإخاء غمروني به خلال استطاعتي في
معالجة السكان, بما لي من معرفة في الطب, من أمراض العيون المختلفة, كالرمد, وأمراض
أخرى منتشرة في الناحية, لقد وهبت نفسي لعمل الخير, وخير الإنسانية في كل مكان أوجد
فيه...).
على خطى الشيخ بوعمامة
وفي سبتمبر سنة 1903, شقت هذه الشخصية طريقًا نحو عاصمة الجنوب
الوهراني, (العين الصفراء), كمراسلة لجريدة (الأخبار) مرتدية بذلة الفارس العربي,
وباسم مستعار (سي محمود), وهذا لتغطية أحداث (المنقار وتاغيت) بولاية بشار, وأحداث
قمع سكان قصر صفيصيفة, فكل الجرائد الصادرة آنذاك بالجزائر وفرنسا نشرت مقالات
وتحقيقات وشهادات حول هزيمة الاحتلال في منطقة (المنقار) أمام مقاومة الشيخ بوعمامة
الذي كان يقوم بهجمات مركزة على الجيش الفرنسي.
وكانت مقاومة الشيخ بوعمامة تشمل الجنوب الوهراني بعد ثلاثة أشهر من
قيام قبائل الشعانبة والتوراق وسوافي وغيرهم من القبائل الموجودة في المنطقة
بمقاومة عنيفة ضد الاحتلال في منطقة (بئر الغرامة) ((المنيعة - عين صالح) التي
استهدفت البعثة العسكرية التوسعية والتنصيرية بقيادة الكولونيل (بول فلاترس) مما
أعطى دفعة قوية للشيخ بوعمامة الذي أعلن الجهاد في أبريل 1881, هذه المقاومة التي
تعتبر من أطول المقاومات في الشمال الإفريقي والتي دامت أكثر من ربع قرن
(1881-1906) , وفيها تكبدت المدرسة الاستعمارية بجنرالاتها المتوالين من (طومسون
إلى ليوتي) هزائم مريرة ودروسا تاريخية, بدءا بمعركة تازنة الشهيرة في يوم 19 مايو
1881 والتي دامت أكثر من أسبوع, مما دفع بالصحافة الاستعمارية إلى القلق باعتبار أن
مناخ التمرّد أصبح دائمًا, فاستعجلت الضربة القاسية والسريعة كرد فعل, إثر ورطة
التوسع الاستعماري في الصحراء, وقد حاولت السلطات الاستعمارية التهوين من هذه
المقاومة التي صدّت مسيرتهم في غزو الصحراء, وتوهيمًا للرأي العام. وحسب شهادات
الضباط الفرنسيين التي يجب الاعتماد عليها بحذر, وشهادات أخرى كشهادة (شاهد القرن
الماضي) سلام فرجي أحد مجاهدي مقاومة الشيخ بوعمامة, والسكان بقرية فندي قرب (بني
ونيف) (ولاية بشار), وكان عمره 114 سنة في 1981 (الذكرى المئوية لمقاومة الشيخ
بوعمامة) والتي تشير إلى حدوث 12 معركة و22 اشتباكًا وذلك طوال هذه المقاومة.
هذه المقاومة التي ظل فيها الشيخ بوعمامة حتى في لحظاتها الأخيرة
صامدًا, حيث رفض طلبات القادة العسكريين للأمان, وظل على نية الجهاد, حيث قال (إذا
سمعتم الرصاص في قبري, فاعلموا أنني أقاتل فرنسا). في هذه الأثناء كانت إيزابيل
إبراهاردت تراسل وتكتب, وتصف المنطقة والأحداث حيث كتبت عن عاصمة الجنوب الغربي
(العين الصفراء): (إنها بلد الخوف.... لا يمر مدني في الطريق, صمت ثقيل, نشعر أن
البلد في خطر). وكانت إرادتها كبيرة في متابعة العمليات العسكرية, وسير الأحداث
أمام قلق واندهاش الضباط الفرنسيين إذ كتبت: (فأسلوب الرقابة وطريقة المقص أصبحت
سارية التنفيذ ضد البرقيات الخبرية, وهذا تجنبا لتسرّب هاجس الاسم الذي ملأ منذ 25
سنة صدى الجنوب الوهراني الاسم القديم الذي أصبح أسطورة, والذي طرق بغرابة مقلقة
الواقع هنا إنه بوعمامة).
وقال جون رودس المبعوث الخاص لجريدة الفيجارو الفرنسية عند لقائه
إيزابيل بالعين الصفراء (قالت لي إيزابيل إن البندقية والبارود هما الشيئان
الثمينان في هذا البلد).
وأثناء اتخاذ موقف حول الاستعمار كتب (جي دومباس) وهو صحفي بجريدة
باريسية (لجولوا) بتاريخ 26 أغسطس 1881, (نحن بقينا غزاة, قساة, غير لبقين, معجبين
بأفكارنا, نحن هم الذين كنا هيئة بربرية, لضمان استعمار قام على تخريب العرب, ونزع
ملكيته, ونحن هنا نتكيّف مع الظلم مادمنا نعيش في الظلم!!).
وقد أدت إيزابيل إبراهاردت دورها بوعي وحنكة كمبعوثة خاصة, حيث أجرت
استجوابًا مع جرحى معركة المنقار, والذين كانوا بمستشفى العين الصفراء, وكتبت عن
ذلك: (هؤلاء الجرحى هم أجانب من أصحاب القبعات البيض, من جنسيات مختلفة جاءوا من
فرنسا, وكادوا أن يموتوا لأجل قضية ليست لهم ولا تعنيهم ولا تعني مواطنيهم!). وكتبت
مثلا عن بعض تفاصيل المعركة, وأسهبت في شرح الحالة المضطربة للفصائل العسكرية
ومعنوياتهم المنحطة, لقد لزم هذا الأمر فرنسا أكثر من نصف قرن, أي منذ دخول الجنرال
(كافينياك) للمنطقة سنة 1845, ومنذ ذلك التاريخ وهي محاصرة بفعل المقاومة حتى سنة
1903 عند دخول واحة بشار, هذه الواحة التي عمدها الجنرال ليوتي بـ(كولومب بشار)
تقديرًا للضابط السامي كولومب الذي قُتل بالمنطقة سنة 1855, وهذا الاختراق للمنطقة
سمح بعد ذلك باحتلال الصحراء والمغرب الأقصى وإفريقيا السوداء.
وكانت إيزابيل قد تعرفت على الجنرال ليوتي الذي عين في الفاتح من
أكتوبر 1903 قائدًا لإقليم العين الصفراء, وهو صاحب سياسة إحلال السلام حيث قال:
(إن أجمل الانتصارات هي إقرار السلم للحد من الخسائر, ويجب ألا ننسى أبدا أن علينا
بناء غد قريب في بلد يناصبنا العداء, سنجعله صديقًا بالعرفان, فمن الأجدر لنا أن
نتصرف على طريقة ثقابة عوض طريقة المطرقة), وهي سياسة ماكرة! فطلب من إيزابيل
التعاون لإنجاح هذه السياسة, لكنها رفضت (لقد اعترضت! ونددت! ودون خوف, حتى من
العقاب المعمرين الذين تعبوا من الحلول التفاوضية المتحفّظة, وطالبوا بضجة معارك
حقيقية, وانتصار إبلاغ الرأي العام).
ضد الاحتلال الغاشم
وفي بداية 1904 دعت إيزابيل الحركة الفرنسية المناهضة لسياسة الحكم
الفرنسي الاستعماري للتحقق من العنف الغاشم المسلط على سكان الجنوب الوهراني من لدن
الجيش, تحت قيادة الجنرال (ليوتي) نتيجة هزائم المعارك التي قادها البطل الشيخ
بوعمامة, وبالفعل جاء رئيس الحركة المناهضة في الوقت الذي ماتت فيه إيزابيل
إبراهاردت عن عمر يناهز 27 سنة.
وكانت إيزابيل كذلك قد نزلت ضيفة على زاوية الشيخ بوعمامة بقصر
(فيقيق) (المغرب الأقصى), و(الزاوية) الزيانية) بالقنادسة, علما بأن قصر فيقيق
الموجود على الحدود الجزائرية ـ المغربية, يبعد حوالي 5 كلم عن مدينة بني ونيف,
ويوجد فيها منذ القدم زاوية جد الشيخ بوعمامة (زاوية سيد عبدالقادر بن محمد),
وأثناء المقاومة شكلت القاعدة الخلفية لمواجهة العدو, وتعتبر كذلك مركز قيادة جيشه.
ورفقة (سي بن الشيخ) مقدم زاوية (سيدي سليمان بوسماحة) ببني ونيف, التقت إيزابيل
الشيخ بوعمامة, مع عدم الإشارة إلى ذلك في كتاباتها حتى لا تتعرض للنفي أو الضغوط,
ولكنها أوحت أنها كانت قريبة من محيط بوعمامة, فكتبت مثلا في كتابها (مذكرات
الطريق): (التقيت مع السي محمد بن لمنور المدعو سيدي أحمد ابن عم وصهر بوعمامة,
وأرى هذين الرجلين (أي سي بن الشيخ, وسيدي أحمد) في عمق وجهيهما اللطيفين, غوامض
هذين الرجلين ذوي الروح المغلقة والإرادة العنيدة والمتوجهة نحو هدف واحد خدمة
بوعمامة).
وكصحفية حصلت على التصريح من القيادة العسكرية للسماح لها بالذهاب
والإقامة (بالزاوية الزيانية) بالقنادسة قرب بشار وتحت اسم مستعار (سي محمود ولد
علي) الشاب الأديب التونسي, والتقت بمقدم الطريقة الزيانية (سي إبراهيم بن الشيخ)
وقد أقامت في هذه الزاوية مدة شهرين (يونيو, يوليو 1904) لأجل التأمل والذكر, حيث
كتبت (إنني نزلت ضيفة عند أهل هذه الزاوية, وتمتعت بصمت منازلهم ووفروا لي كل
الهدوء, ظل من السلم دخل عمق روحي).
وإقامتها بالقنادسة سمحت لها باكتشاف نساء (ذوي منيع) وذكرت فيهن (...
نساء لهن جمال, يظهر من ثقوب أقمصتهن ذات اللون البني, والفقر بالنسبة لهن شيء
طبيعي وليس انحطاطًا, إنهن يعتقدن أن كل الكماليات موجودة في جمال حصان أو مقبض
خنجر) وفي شهر أغسطس 1904 أفلتت إيزابيل إبراهاردت من المراقبة العسكرية. والكتاب
المدون عن سيرتها, لم يثبت أين كانت أثناء هذا الشهر, إنها نقطة استفهام في حياتها
ولكن علينا قراءة ما بين السطور في (مذكرات الطريق) كتبت تقول: (الخادم الوفي
لبوعمامة, (أي مقدم زاوية سيدي سليمان بوسماحة) وللمرة المائة منذ معرفتي به قال
لي: سي محمود يجب عليك الذهاب لرؤية الشيخ بوعمامة في الزاوية البدوية قرب جبل
الثلج). وكما نعلم أن أماكن الزوايا معروفة ولا يوجد زوايا متنقلة, وحسب شهادة
(سلام فرجي) يقول إنه رافقها أثناء الصيف على حصان من زاوية سيدي سليمان بوسماحة
(بني ونيف) إلى فندي على بعد 40كلم وبقيت مع الشيخ بوعمامة نهارًا كله.
وزعم كتّاب سيرتها أن اللقاء بين إيزابيل والشيخ بوعمامة لم يتم, لأنه
في تلك الأثناء ومنذ 1903 كان العجوز بوعمامة مريضًا وقد اتجه نحو الشمال بالمغرب
الأقصى ولكن (ل.برقون) يحدد زمن الذهاب نحو الشمال للشيخ بوعمامة في يونيو سنة
1904, وأثناء سنة 1903 استقبل في قصر فيقيق (المغرب الأقصى) مركز الأركان العامة
للشيخ بوعمامة الأمير عبدالمالك الجزائري ابن الأمير عبدالقادر وأثناء هذه الفترة
الساخنة, في مواجهة جيش الجنرال ليوتي والمخزن المغربي, كان الشيخ بوعمامة قد تحالف
مع الشيخ الجيلالي بن عبدالسلام الزرهوني الملقب بـ (الروقي بوحمارة) قائد المقاومة
المغربية ضد السلطان عبدالعزيز, وأدى هذا التحالف إلى عدة انتصارات حتى حاصروا
مدينة وجدة عاصمة الشرق المغربي يوم 17 يناير 1905 وقد عيّن الأمير عبدالمالك
الجزائري قائدًا على جيش الروقي.
وأثناء هذه المعركة الأخيرة ضد جيش ليوتي استعمل الشيخ بوعمامة مدافع
صغيرة وأسلحة أوتوماتيكية من صنع إسباني وألماني, وذلك عن طريق ممول التجار السوفي
بن عبدالقادر المقيم بمدينة (مليلية المغربية) التي هي تحت الاحتلال الإسباني,
والقريبة من مدينة وجدة.
وعند رجوع إيزابيل من الزاوية الزيانية بالقنادسة, ومرورًا بمدينة بني
ونيف التي وصفتها: (في وسط كل هذا الظلام للأشياء, البلد دون شجر ودون اخضرار كانت
بشعة ومشئومة كمكان اعتقال), وقد أحست بالطابع الأجنبي الذي احتل المكان, وفي هذه
الأثناء غشيتها الآلام والحمى فوصلت العين الصفراء ودخلت إلى المستشفى مدة 15 يومًا
وفي 21 أكتوبر 1904 ويوم خروجها من المستشفى وفي الساعة التاسعة والنصف التقت
بزوجها سليمان أهني في منزلهما ذي الطابق المستأجر في وسط المدينة لكن الفيضانات
التي أغرقت جانبًا من المدينة, جعلت النهاية للمرأة مأساوية, بالنظر إلى سرعتها
الخارقة التي أطاحت بمنزل الفقيدة التي عثر على جثتها بعد يومين من البحث تحت
الأنقاض. وسجلت في هذه الحادثة ست وعشرون ضحية وعثر على مخطوطاتها التي سلمت من طرف
الجنرال ليوتي إلى مؤلفها (فيكتور بريكند) وقد بعث ليوتي إلى وكالة هافاز ببرقية
سريعة نقلتها الصحافة في الجزائر وفرنسا: (جثة إيزابيل عثر عليها تحت الأنقاض).
وهذا مقتطف من البرقية كما وردت بجريدة (لاديباش ألجريان). بخصوص وفاتها: (عثر في
العين الصفراء صباح 27 أكتوبر 1904 في الساعة التاسعة والربع على جثة إيزابيل
إبراهاردت تحت الأنقاض). وسيبقى اسمها مسجلا في تاريخ الأدب الجزائري الحديث, ففي
جو جنائزي وبحضور الجنرال ليوتي دفنت إيزابيل بمقبرة المسلمين (سيدي بوجمعة بالعين
الصفراء) فقد كانت محبوبة بالجنوب الوهراني بشجاعتها وأعمالها وحبها لعين الصفراء,
واطلاعها على الثقافة الإسلامية. وعلى قبرها الذي يتوافد عليه السياح في المنطقة
نقرأ باللغتين ((سي محمود/إيزابيل إبراهاردت) زوجة أهني سليمان توفيت في سنة 27).
وقال عنها الجنرال ليوتي: كانت الشخص الوحيد الذي يلفت كثير الانتباه إنها المرأة
العاصية ...والتي هي خارجة عن كل حكم سابق وعن كل تشيع وعن كل عبارة مبتذلة, والتي
تمر عبر الحياة بقدر ما هي حرة من كل شيء كالطائر في الفضاء يا لها من متعة!!).وقال
عنها المفكر الجزائري المشهور مالك بن نبي في كتابه (مذكرات شاهد القرن), (... كما
وعيت في ذلك الوقت الدسم, اللذيذ, (الصحراء) الذي صبته في روح إيزابيل إبراهاردت
وقد تولى فيكتور بريكند تعريف العالم بكتابها الرائع الجذاب, لقد قرأت مرارًا
كتابها, تلك المرأة المغامرة التي أنهت حياتها بالعين الصفراء, وفي ظروف مشئومة كنت
أبكي وأنا أقرأ ذلك الكتاب المسمى (في ظلال الإسلام الدافئة). والذي عرفت فيه
شاعرية الإسلام, وحنين الصحراء..).
حضارة النور
ربما إيزابيل هي السبب في إفهام الجنرال ليوتي بأن هؤلاء المتوحشين هم
أناس مختلفون وأصحاب حضارة كانت بالأمس حضارة النور لأنه صرح في كتابه (وكما هو
معلوم يوجد من يجب التعامل معه بطريقة ما, ولكن دون التغاضي عنه ألا يعتد به إنهم
(الأنديجان) (أي المسلمون) إخواننا, وليسوا أقل منّا ولكن يختلفون عنا).
وكانت هذه الكاتبة تقدم أعمالاً أدبية تستمد مواضيعها من واقع الجزائر
وتقدم القيمة التاريخية والأدبية التي اعتبرها الأخصائيون أنها فوق كل الإنتاجات
الأدبية والمتعددة في تاريخ الجزائر أثناء الاحتلال فيما قبل الثورة (1954), فمن
خلال كتاباتها الأدبية ويومياتها خاصة (ظلال الإسلام الدافئة) أو (القصاص)... وحتى
لو ظهر عليها التحريف, أو كما يقول بعضهم إنها ملوثة, فإنها وبلا شك تبرز خصائص
ومميزات إيزابيل, والتي تخفي روحا متعطشة للعدل, وروحية الإسلام, كما توضح مواقفها
المؤازرة للمظلومين, وكشفها لأساليب الاحتلال في إخضاع الشعب بالقهر والرعب, حيث
كتبت وعمرها 20 سنة في جريدة (لانفال روفي مودرن) بعنوان (رؤية المغرب عن المجزرة
التي قامت بها فصائل الجيش الفرنسي من القبعات البيض, والترايور ضد أهالي قرية
أولاد نايل).
وكذلك القصص المتعددة التي كتبتها ما بين 1900 و1904 والتي نشرت وأدت
إلى إحراج الأوساط الاستعمارية. فقصة (الفلاح) تصور وضعية الفلاحين الذين تنتزع
ملكياتهم بالقوة كما في قصة (مجرم), هذه القصة التي جاءت مرافعة لصالح عصاة نزع
الملكية بتاريخ 26 أبريل 1901 بمدينة مليانة, هذا الحدث الدموي المعروف باسم (تمرد
مارقريت) الذي انتهى بحكم قضائي في فبراير 1903 بمدينة مانبولييه بفرنسا.
هذه بعض المحطات المنجزة والإشارات المفيدة حول حياة هذه الشخصية
الفكرية والتاريخية, وفي 21 أكتوبر من العام الماضي احتفلت مدينة العين الصفراء
بالذكرى المئوية لوفاتها.
من أعمال الأديبة إيزابيل
إبراهاردت
1 - (في ظلال الإسلام الدافئة): تقديم فيكتور بريكند/ باريس - فسكل
1906.
2 - (مذكرات الطريق): تقديم فيكتور بريكند/ باريس - فسكل 1908.
3 - (صفحات الإسلام): تقديم فيكتور بريكند/ باريس فسكل 1922.
4 - (يوميات): تقديم ر.ل - دوايون: باريس - المعرفة 1923.
5 - (في بلاد الرمال): تقديم/ ر.ل - دوايون: باريس. سورلو 1944.
6 - (يسمينة): م. أ - دلكور/ ج.ر - هيل ليناليفي 1986.
7 - (مخطوطات على الرمال): م. أ - دلكور و.ج.ر - هيل/ باريس - غراسي
1988.