حكاية فاطمة

حكاية فاطمة
        

          أرادت الباحثة الأكاديمية بجامعة أوبسالا السويدية جيل رامساي, حين أهدتني مجموعة أشعار جونار إيكيلوف (1907 ـ 1968) المترجمة, أن تضيف قارئا عربيا جديدًا لواحد من منارات الشعر العالمي المعاصر. ولأنني وقعت أسير هذا الصوفي الذي تتأجج كلماته من تحت دثار الصقيع الإسكندنافي, وجدت أن رد الدين تجاه الأكاديمية البارزة المتخصصة بالأدب العربي, والشاعر الفذ المهموم بالمخيال الإسلامي, والمترجم النابه موسى صرداوي, الذي جعل لغته جسرًا يعبر عليه أدب إيكيلوف, لا يكون إلا بتقديم هذا الشاعر إلى قراء (العربي). 

          على أعتاب الثانية عشرة, اكتشف جونار إيكيلوف في المكتبة الملكية أثرين أدبيين مهمين, كان لهما بالغ الأثر في مسيرته الأدبية, الأول ( ترجمان الأشواق ) لمحيي الدين بن عربي, والثاني (الموسيقى الهندية) لمؤلفه فوكس ـ سترانجويس. وقد بلغ عشقه للكتاب الأول أنه صحبه رفيقا منذ الصبا إلى الشيخوخة, أضف إلى ذلك الأثر قراءات أخرى حول الإسلام والصوفية, مما جعله بعد تخرجه في المرحلة الثانوية يقرر دراسة العربية واللغات الشرقية, كالفارسية, والسنسكريتية, والهندوستانية, والبنجالية, فينتظم طالبا في معهد اللغات الشرقية, ليدخل عالم جلال الدين الرومي, وفريد الدين العطار, ومحيي الدين بن عربي, وسعدي الشيرازي, حتى أنه دون أشعارهم بخط يده في دفتر, أسماه: الشعراء الصوفيون الأوائل.

          كان الطريق ينفتح أمامه, كلما غاصت قدماه في لجة التصوف, وصعدت روحه لسماء الحكمة, فجعل من روحه عصفورا يتنقل بين أشجار البوذية والزرادشتية والماورائية والطاوية, حتى أنه اهتم بقراءة الأشعار الملحمية التجريدية الأبنيشادية (أكثر من ثلاثة آلاف بيت من الشعر), وهي التي تبحث ـ مثله ـ عن تجسيد الإبداع, ومنطق الحرية, ورغبة التحديث, والإيمان بالخلاص الروحي.

          كانت دراسة اللغات الشرقية تحتاج إلى طاقة وصبر لم يقو عليهما, وكانت لندن حيث يدرس, مدينة موحشة, كئيبة, تشبه في ذلك الوقت بالنسبة إليه, كوما من الحجارة, فعاد منها مقطوعا عن مد الأحلام والشوق والحنين للحياة في الشرق, لكنه عاد بجمرة الشعر, ووحي القصيدة, التي فاجأته موسيقاها ذات ليلة وهو عائد إلى مسكنه, وكتب قصيدته الأولى, أو كتبته هي.

          مع الشعر عرف باريس وتكررت زياراته لها, وبجانب ما أمدته من روح معاصرة مبهجة, فإنه كان يبحث فيها عن السطور الزائلة من كراسات التاريخ, في المعابد المتهدمة, والهياكل البائدة, والمعابد القديمة.

          في 1931 أصدر جونار إيكيلوف ديوانه الأول (متأخر على الأرض), تحت سماء تأثره بالسريالية, وقد مر الديوان مرور الكرام, إلا أن ديوانه الثاني بعد ثلاث سنوات (التكريس) لفت انتباه النقاد لموهبته, حيث انغمست كلماته في رؤى شعرية جديدة وغير مطروقة, نأت به عن ذاتية ديوانه الأول, التي كان سببها تعاسته وطلاقه القسري من زوجته الأولى وإفلاسه.

          الصوت النبوئي حل على كلمات جونار إيكيلوف في ديوانه الثالث (الحزن والنجم) الذي صدر في 1938, وهو الديوان الذي غير نمط حياته, وكشف عن رؤى شفافة, وبصيرة نفاذة للوهم والحقيقة, والحياة والموت, والأرض والكون, لينتقل في ديوانه الرابع (اشتر أغنية الأعمى), إلى فضاء جديد تام نبذ فيه السريالية إلى الأبد, وعادت أيام وليالي وصله بمحيي الدين بن عربي, سعيا لاكتشاف كنه الحقيقة الإنسانية, وجوهرها الخالد.

          في (حكاية فاطمة) الذي صدر قبل 40 عامًا جزءا ثانيا من ثلاثية شعرية سماها جونار إيكيلوف (الديوان) كلمات نبتت من البساطة الشعرية, التي سبقها 35 سنة من التجريب, ليصل إلى إحكام لغوي, واستقلال مصطلحي, وسيطرة على أدوات التعبير, ليعبر ذلك الناسك الصوفي ـ الوحيد ربما من نوعه في السويد, إبان العقد الثالث من القرن العشرين ـ عن توحده بابن عربي وابن الرومي.

          الحب الإلهي, العشق, التتيم, الوله, الشوق, القدر, الكمال, مشاعر مكتملة في قصيدة حب, ذات قدر كبير من الإيمان بجوهر المرأة عبر التغلغل في مواضعها, الاجتماعية, والنفسية, إنها تمثل شجرة الزيتون المقدسة التي تحترق لتدفئ المحلقين حول الهشيم في ذروة البرد.

          ينقسم (حكاية فاطمة) إلى جزأين رئيسيين, الأول (نظم), وعنوانه الفرعي: عقد اللؤلؤ, والثاني (تسبيح), وفرعه: المسبحة. ويقول جونار إيكيلوف إنه استلهم الاسم من مصدره العربي (فَطْم), ونعرف أن الكلمة تلفظ بلهجات مختلفة, تناقلها الأوربيون, على هيئات صوتية متباينة: فطومة, فطيمة, فطمة, فاطمة, وقد ذكرها في الديوان بهيئته الفرنسية فطومة, التي وصلت فرنسا ـ كما يعتقد صرداوي ـ عن طريق المغاربة في الشمال الإفريقي.

          يقول جونار إيكيلوف:

التَقيتُ بائعَ أربطةِ الأحذيةِ,
هُناكَ في زُقاقِ السُّوقِ
وَقَدْ رَغِبَ في بَيعي رباطًا
وَلا حِذاء لي.
أربِطَةٌ حمرَاء,
أربطَةٌ سَوداء,
أرْبطةٌ كِتّانية,
أرْبطةٌ حَريريَّة
لابُدَّ أَن يكونَ مَجْنونًا
أَو أَعْمَى
لمْ يَلْحَظْ عُريَ قَدميّ,
لَرُبَّما كانَ حَكيمًا
وسَديدَ الرَّأي
تَبادَلنا التَّحياتِ,
بإشارةٍ معناهَا:
- (إنَّكَ تَعْرِفُني).
وَضَحِكنا.

          لماذا تذكرت أمثلتنا الشعبية, في الشرق, حين قرأت هذه القصيدة? هل (يعطي الحلق لمن لا أذن له)?, هل (عشمتني بالحلق فثقبت أنا أذني)? هل (من لا يرى من الغربال أعمى)? أم أن مزيجا منها وسواها كان يخلط الخفة بالحكمة الخافية وراء ذلك كله?, وكما يقول جونار إيكيلوف: لَرُبَّما كانَ حَكيمًا/ وسَديدَ الرَّأي.

          في مفردات جونار إيكيلوف الكثير من الإحالات الشرقية, تاجر الرقيق/العيون السود/ التلاعب برقم الألف كدلالة/ المصباح/ الشيخ/ القدر/ أصفهان/ وكلها إحالات للذهنية القارئة لألف ليلة وليلة, مثلما هي استباقات من عاشق:

يا هذِهِ العُيونْ!
مُسْنَدَةٌ إليَّ في السَّوادِ,
سَوادِ ألْفِ عَيْنْ.
بِأَلْفِ فُسْحَةٍ مِنَ الفَضاء,
ناسَتْ, تَرَنَّحَتْ
وَهيَ أشَدُّ سوادًا
مِنْ حاجِبَيَّ
أَوْ مِنَ غُضُونِ وجْنَتَيّ,
تكادُ تُلْمَحُ
بِمِثْلِ ضَوءٍ شاحِبٍ يُرْسِلُهُ مِصْباحٌ
قدِ اخْتَفَى.
في وَمْضَةٍ خافِتةٍ
على الجَبين والخَدَّيْن.
فَلِمَ إذَنْ تَقْسو العُيون?
وَهذا وجْهُ مَحْبوبِك
ساكِنٌ بِلا حَراكْ,
يَتَمَلَّى مَصيرَكَ
ويَحْنو على قَدَرِكْ.
وإنّي لأَدْرِي أَنَّ المِرآةَ هُناكَ.
وَمِنْها تُطِلُّ
صُورَةُ مَنْ يَخْتَلِفُ عَنكَ تَمامًا
وَستَنْعَطِفُ نَحْوهَا
في ذاتِ يومٍ
وَحَيْثُ عنها تَنأى وَتَخْتَفي
كَذَلِكَ سَأَخْتَفي مِنها أَيضًا.
رَأْسُكِ مٌثْقَلُ الأَنفاسِ, بَطيئُها.
يَتَوَرَّمُ, يَتضاءَل
كأَنّي على الفِراشِ
أُحِسُّ بِثِقَلِه.
بِتِلكَ الخُطوطِ مُتَشابِكةِ الأفكار,
بِتَعقيدِ الفِكر
رَبيعُك كانَ أزرق
بِمَشائجَ حَمراءْ.
وَخَريفُكِ دامٍ
وَصَيْفُكِ كانَ أَحْمر
كأنّكِ (قِنْديلُ البَحْر)
تُزْهِرينَ أَمامَ خاتِمَتَك,
بِخُيوطٍ مُتَشابِكةٍ مُمْتَدَّة.
وَبِرَأْسِكِ تُحاوِلينَ التَّنَفُّسَ كالمُسْتَلقي
على مَوْجةٍ مُنْكَسِرَة
عِندَ المدّ..
وَفي صُعودٍ وَهُبوطِ تَتَحرَّكين.
إنَّكِ لا تَتَمكَّنين من شيءٍ ما,
لا عُمقَ, لا أَمَلْ.
نَعَمْ, وَعِندَ الجَزرِ
لِقرارِكَ لا بُدَّ تَهْبِطين
وَتَحتَ الرَّملِ, يبقى الإنْسان.
يَتَضاءلُ,
يَتَكَلَّسْ.
أَتَجَوَّلُ في الأَسْوَاقْ
فَما الذي تَفْعَلُه عَجُوزٌ,
هَرِمَةٌ مِثلي
أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَصْبغَ خَدَّيها
بِطِلاءٍ أَبيَض.
ذاتَ ليلة
كانوا خَمْسَةَ بِتْشينِيين,
قَذِرينْ.
لا بُدَّ أَيُّها العَرَبيُّ,
أَنَّكَ قَدْ لاحَظْتْ.
ولو فَعَلْتْ
لاسْتَلَلْتَ خِنْجَرَكْ
وَمُتْ...
فَأَنْتَ دَومًا فائِقَ العِنايةِ
بالنّظافَةِ التَامَّةِ والوضوءْ
لكِنَّ مَوتَكَ خيرٌ مِنْ حَياتِي
لَمْ أَكُنْ أَوَدُّ أَنْ أَرى نَفسي
في المرايا السَّاكِنَةِ لِعَيْنَيْك.
سَعيدٌ أَنتَ بِالمَوت,
وبِطَعْنَةِ خِنْجَرْ
أو بإلقاءِ نَفْسِكَ,
في الهاوِية.
وإني لأَراكَ عَنْ بُعدْ,
لا حَظَّ لي أَنْ أَموت
لَنْ نَلْتقي,
فَأَنْتَ في السَّماءِ,
بِنَعيمٍ وافِرٍ,
وَحُوريَّاتٍ عَديدةَ,
وأَنا في الأَرضِ
لَدَيَّ وَفْرةٌ مِنَ الرِّجالِ
وأَجدُ ما يَكفيني
مِنَ الخُبْزِ واللّبَنِ الرَّائِبْ.

          على بوابات المدن العربية, دائما ما يقف الناسك حين يسأل عن مفتاح السر للدخول. هذا العالم العجائبي الغرائبي, هو تهيئة للروح, فالسؤال يكشف عن السائل, مثلما هو يحيل للجواب. ولا يعرف الجواب إلا من لديه كل الإجابات:

إنَّما الاسمُ
اسْمَ مولودَةِ اللِقاءِ.
إنْ شِئْتَ مَعْرِفَته.
سَلْ حاضِنَ الجرَّةِ
ذاكَ الفتى الأمير
فاطِمَة!
قَدَري في أَمَلي
وَبِموْتِكِ, لَنْ أحيا...

          تتناسخ الصور في ديوان حكايات فاطمة للشاعر جونار إيكيلوف, ومثلما يمتح من كتب الصوفية, وينهج نهجهم, فهو لا ينسى صورة تقليدية, عن الشرق في المخيلة الأوربية:

بِميدانٍ في أَصْفَهان
احْتَشَدَ في سُوقِ النَّخاسَةِ
أَلْفُ جَسَدٍ وَجَسَدْ.
وأَلفُ روحٍ وَروحْ
كلُّها كَانَتْ للبَيع
بِالمَزَادْ العَلَنِيّ.
واحْتَشَدَ ألفُ تاجِرِ رَقيقٍ وتاجِرْ.
قدَّموا أَشعارَهُم المُخْتَلِفة.
لِكُلِّ جَسَدٍ وَرُوحُ,
فَالأَرْواحُ شَبيهَةُ النِّساء,
والأَجْسَادُ شَبِيهةُ الرِّجالْ
وكانَ أَحَدُ التُّجارِ مَحْظوظًا
إذ تَمَكَّنَ مِنْ جَمْعِ جَسَدٍ إلى رُوح
بِصَهْرِهِما مَعًا
فَنُقِدَ ثمنًا عاليًا
لِقُدْرَتِهِ الخَارِقَة.

          ترى ما الثمن الخارق الذي يستطيع أن يوائم بين الروح والجسد معا? من يستطيع أن يمنح الجسد سموه, والروح تطهره في عالم يضمهما معا. لا أعتقد أن ذلك ممكن إلا في عالمين, عالم الشعر, أو عالم النساك, وبعض من هؤلاء جونار إيكيلوف الذي كان الناسك والشاعر معا, في ديوانه: حكاية فاطمة, تلك الحكاية التي يحملها الاسم إلى فضاء لجي, كلما غصنا فيه اقتربنا من السماء.

 

جونار إيكيلوف   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات