الفقراء ليسوا عبئا.. الثروة عند قاعدة الهرم

الفقراء ليسوا عبئا.. الثروة عند قاعدة الهرم
        

يطرح كتاب (الثروة عند قاعدة الهرم) رؤية تكاد تمثل عقدًا اجتماعيًا جديدًا, يهدف لرفع الفقر عن كاهل الفقراء. وحيث تقوم المؤسسات التجارية الكبرى بالدور الفاعل والرئيس كطرف في ذلك العقد, ليس من خلال المساهمات الخيرية بالتصدق على الفقراء, وإنما بتقديم منتجات لهم تجعلهم أكثر إنتاجية واستقلالاً. 

          بالرغم من مبادرات ما عرف بالتنمية الاقتصادية الكثيرة التي انطلقت خلال الأعوام الخمسين المنصرمة, فإن الواقع يقول إن هذه المبادرات - باستثناءات محدودة - قد أخفقت. فلايزال ما يربو على 65 في المائة من سكان الأرض (أكثر من 4 مليارات نسمة) يرزحون تحت وطأة الفقر.

          يقول المؤلف إن إخفاق المبادرات السابقة, والتي كانت تقودها بصورة رئيسة الحكومات, يجب أن يوجه أنظارنا إلى نقطة مهمة وهي أن الحكومات ربما لا تكون مؤهلة للقيام بهذا الدور. ولا يعني ذلك أن تتخلى الحكومات عن إيمانها بأهمية رفع الفقر عن كاهل الفقراء, أو أن تكف عن مواصلتها أداء دورها في ذلك السبيل, وإنما أن نبحث عن بديل من العناصر السابقة المشاركة في عملية التنمية, ليقوم بالدور الرئيس بالتعاون مع العناصر الأخرى.

          البديل في نظر المؤلف هو المؤسسات التجارية, متمثلة في الشركات الكبرى سواء المحلية أو متعددة الجنسيات.

          يذكر المؤلف, د.سي كيه أبراهالاد, الهندي الأصل وأستاذ إدارة الأعمال بجامعة ميتشيجان الأمريكية, والذي اختارته مجلة (إيكونوميك تايمز) الهندية كأهم شخصية هندية عالمية لعام 2004, يذكر أن فكرة هذا الكتاب قد بزغت في عقله عام 1995 عندما كان يقضي مبتهجًا عطلة أعياد الميلاد (الكريسماس), حينها نظر - كما يقول - إلى شريط حياته كلها, وأدرك أنه ليس معقولاً أن تقتصر مساعيه ومساعي الشركات التي يعمل مستشارًا لها - بكل ما أوتيت من رصيد هائل من الموارد البشرية والمادية - على مجرد طرح تنويعات وتحسينات على منتجات قائمة, ومحاولة تسويقها لشريحة من المستهلكين الأغنياء, الذين تتسابق كل الشركات لتدليلهم بالمزيد من المنتجات المحسنة, مع تجاهل الأهمية المُلحّة لابتداع حلول لأحد أهم مشاكل البشرية الحالية وهو انتشار الفقر المُدقع الذي يحرم جلّ سكان الأرض - فقراءها - من التمتع بإنسانيتهم.

          وقدّر المؤلف أن أفضل طريق لرفع الفقر عن كاهل الفقراء هو أن تبادر الشركات بطرح المنتجات, التي تساعد الفقراء على أن يكونوا أكثر إنتاجية, أكثر استقلالاً, وأكثر صحة. ولكنه أدرك أنه من ناحية أخرى أن الكيانات التجارية التي تهدف بالأساس للربح لن تستثيرها الأفكار السامية أو المثالية لدحض الفقر ما لم يصب ذلك في تيار اهتمامها الأول, وهو تحقيق المزيد من الربح.

          وهكذا اتضح للمؤلف أن ثمة معادلة إذا ثبتت صحتها فسيصبح بالإمكان حل معضلة الفقر عبر إشراك المؤسسات التجارية الكبرى كعامل رئيس. تلك المعادلة هي: ستُقْدم الشركات على تطوير منتجات تعمل على تمكين الفقراء ورفع إنتاجيتهم, ليزيحوا الفقر عن كاهلهم, بشرط أن تتمكن تلك الشركات من جني الأرباح من وراء ذلك.

          خلال السنوات التسع التي تلت, عكف المؤلف - وباحثوه الذين انتشروا في أرجاء المعمورة - على التحقق من إمكان تحقيق هذه المعادلة. وعندما تأكد من وجود الكثير من الشركات الكبرى, المحلية ومتعددة الجنسيات, في بيرو وفنزويلا وبوليفيا والمكسيك والهند وبنجلاديش والصين وكينيا وأوغندا, التي تعمل على أن ترفع عن الفقراء فقرهم - وترد لهم شيئًا من إنسانيتهم - وتحقق في أثناء ذلك أرباحًا معقولة, طرح الرجل كتابه الذي وجّهه في الأساس لكل الأطراف المشاركة في عملية التنمية, مقدمًا (سيناريوهات) جديدة للتفاعل بين هذه الأطراف, بحثًا عن حل لمعضلة الفقر.

اعتقادات خاطئة

          يرسي المؤلف منذ البداية قاعدة مهمة لانطلاق حجته عبر صفحات كتابه, وهي أنه لا يمكن رفع الفقر عن كواهل أصحابه إلا عن طريق دمجهم في حركة التجارة العالمية, وذلك بأن نجعل هذه الفئات الفقيرة (يسميها المؤلف (قاعدة الهرم)) تعيش كعناصر منتجة في أسواق تفيض بالحركة والرواج, بدلاً من أن تعاني من العوز في إطار من الاعتمادية والكساد. ولن يتحقق ذلك - كما يرى المؤلف - إلا بإقدام المؤسسات التجارية العالمية متعددة الجنسيات, ليس على مزيد من المنح والصدقات, أو طرح المزيد من المنتجات الاستهلاكية التي تزيد من فقر وانعزال (قاعدة الهرم) وإنما على تشجيع روح المبادرة الفردية والاستقلال المادي.

          بيد أن الشركات الكبرى كانت تتحاشى الدخول في أسواق (قاعدة الهرم) لاعتقادها في عدة أفكار شائعة, كالاعتقاد بأن هذه البلاد الفقيرة تعج بالفساد المؤسسي والأمية ونقص البنى التحتية, وعدم استقرار العملات وتغلغل الروتين والبيروقراطية, مما يجعل دخول هذه الأسواق أمرًا يقارب الاستحالة. ولكن هذه الاعتقادات - حسب المؤلف - تعكس رؤى عتيقة ومعظمها غير دقيق عن العالم النامي اليوم. فقد أثبتت الكثير من الشركات متعددة الجنسيات - أولاً - أنها تستطيع أن تجري أعمالها بنجاح في هذه الدول (بالرغم من أن معظم هذه الشركات كانت تركز على الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة, وهذه ليست الشريحة الفقيرة المقصودة). وثانيًا, أن هذه الآراء تتجاهل الكثير من الاتجاهات الإيجابية في الكثير من دول العالم النامي من إصلاحات سياسية وانفتاح على الاستثمارات الأجنبية, إضافة إلى تطوير بنى تحتية جيدة, خاصة في شبكات الاتصال اللاسلكية, مما يزيح الكثير من الحواجز التقليدية, التي كانت تحول دون تمكن الشركات الكبرى من دخول هذه الأسواق.

          ولا يفوت المؤلف أن يدعو مبكرًا إلى إعادة النظر في نقطة كثيرًا ما تكون مثار جدل, وذلك أن الشركات متعددة الجنسيات ليست إلا ماكينات لاستغلال الفقراء. فهو يعتقد أن الظروف الحالية لاقتصادات الخدمات في أسواق (قاعدة الهرم) سيئة للغاية, وغير فاعلة, وتفيض بالوسطاء المحليين المستغلين. يقول المؤلف (عندما تقدّم الشركات متعددة الجنسيات الخدمات والمنتجات الرئيسة التي تقلل التكلفة على الفقراء وتحسن مستوى معيشتهم - وفي الوقت ذاته تحقق عوائد مقبولة على استثماراتها - فإن النتائج لاشك ستكون إيجابية على الجميع).

          يلخص المؤلف الاعتقادات الخاطئة الرئيسة التي تمنع الشركات متعددة الجنسيات من دخول أسواق قاعدة الهرم في ثلاثة, أولاً: أن الفقراء لا يمتلكون نقودًا. يقول إبراهالاد إن ذلك ربما يكون صحيحًا إذا تناولنا الأمر بصورة سطحية, أو إذا أخذنا كل فرد على حدة كمثال للقياس. ولكن ذلك يصبح غير صحيح إذا ما تناولنا إجمالي القوة الشرائية للمجتمعات الفقيرة. فحوالي 60% من الناتج القومي الهندي يأتي من الريف, وليس من الحضر. وفي قرى بنجلاديش, وبالرغم من أن دخل الفرد يقل عن 200 دولار أمريكي سنويًا, فإن تجارة الاتصالات رائجة بصورة جليّة.

          فعدم توافر خدمات الهواتف, الأرضية أو النقّالة, في القرى جعل بعض أفرادها يقيمون مشروعات صغيرة  عبارة عن محال للاتصالات, يحقق الواحد منها ما متوسطه 90 دولارًا, وبعضها يحقق 1000 دولار شهريًا في القرى الكبيرة. وهكذا نجد أنه بالرغم من ضعف القوة الشرائية لكل فرد من سكان القرى, فإن مجموع هذه القوة الشرائية قد أنفق على بند واحد من بنود الحياة ذلك القدر غير الضئيل من دخولهم.

          وثانيًا: الاعتقاد بأن المنتجات في أسواق قاعدة الهرم زهيدة الأسعار بدرجة قصوى, ومن ثمّ ليس هناك مجال لمنافس جديد ليدخل هذه الأسواق. ويرد المؤلف على ذلك - ووفقًا للنتائج التي أتى بها باحثوه - بأنه في أغلب الأحيان يدفع الفقراء مقابلاً أعلى للحصول على المنتجات نفسها.

          وثالثًا: الاعتقاد بأن الفقراء يستطيعون بالكاد سد حاجياتهم الأساسية, ومن ثم فإنه لا مجال للـ (كماليات) أو المنتجات التكنولوجية. ويرد المؤلف بأن ذلك أيضًا غير صحيح. فالفقراء يقبلون على استخدام التكنولوجيا الحديثة بصورة أكبر كثيرًا مما تتوقع الشركات الكبري, ولكن إذا تحقق في هذه التكنولوجيا شرطان:

          أ- أن تعمل على زيادة إنتاجيتهم أو تحسين فرصهم الاقتصادية كما هو الأمر في حال السيدات الهنديات اللائي يقطنّ في قرى ساحلية حيث تعلمن في أقل من أسبوع كيفية استعمال الحواسيب في ترجمة صور الأقمار الصناعية لمناطق التجمعات السمكية في (بحر العرب) ليرشدن أزواجهن إليها!

          ب- أن تعمل التكنولوجيا على تحسين معيشتهم عبر بعض (الرفاهية) المحدودة بعد فقدان الأمل في الحصول على بعض الخدمات الأساسية, مثل مياه الشرب النقية أو الصرف الصحي. ففي مدينة (دارافي) الهندية الفقيرة قرب مومباي يمتلك 85% من السكان جهاز تلفزيون, و57% منهم موقد غاز.

عبقرية الفقر

          خلال السنوات الخمس المنصرمة, وثمرة للتعاون بين مؤسسات أهلية نشطة, وأشخاص مبادرين يرغبون في تحقيق استقلال مادي, وشركات محلية ومتعددة الجنسيات متفتحة الأفق, بزغت عدة تجارب في أسواق قاعدة الهرم تثبت بصورة يقينية أن بإمكان هذه الجهات الثلاث أن تساهم مساهمة غير مسبوقة في دحض الفقر, وفي أثناء ذلك, تحقق كل من تلك الجهات أهدافها, سواء رفع مستوى معيشة الفقراء (كهدف للجمعيات الأهلية) أو تحقيق الاستقلال المادي (للأشخاص المبادرين) أو الربح والنمو (الشركات متعددة الجنسيات). ومن نماذج الحالات التي استطاعت فيها مؤسسات تجارية أن ترد للفقراء شيئًا من إنسانيتهم, عبر تحسين مستوى معيشتهم أو صحتهم أو فرصهم الاقتصادية, دون أن يتعارض ذلك مع جني الأرباح والتطور المؤسسي, نموذج  شبكة أو منظومة (أرافيند) لرعاية العيون في الهند - التي يديرها د. فنكاتا سوامي (أو كما يطلق عليه تلاميذه د. (في)). وكان د. (في) يدرك قسوة مشكلة فقدان البصر في بلده الهند, حيث بها خُمس مكفوفي البصر في العالم (9 ملايين من أصل 45 مليونًا). ومن ناحية أخرى كان د.(في) يدرك أكثر من غيره أن الأسلوب التنظيمي لإجراء العمليات الجراحية للعيون (كعمليات المياه البيضاء مثلا) في الغرب ليس الأفضل أو الوحيد, خاصة مع تكلفته الباهظة والتي تصل إلى 3 آلاف دولار.

          بدأت منظومة (أرافيند) بعيادة صغيرة بها 11 سريرًا فحسب. وكانت رؤية د. (في) جلية من البداية في اعتمادها على 3 محاور. أولاً, تدريب عدد كبير من الأطباء على أعلى مستوى أدائي وتقني عالمي في إجراء جراحات العيون, بحيث يستطيع كل منهم أن ينجز 50 عملية جراحية يوميًا. ثانيًا, تدريب الكوادر الطبية المساعدة, بحيث يعاونون الأطباء على إنجاز ذلك العدد الكبير من العمليات دون معوقات. وثالثًا, ترشيد النفقات عبر كل مرحلة, مع محاولة إنشاء مركز لتصنيع كل الاحتياجات الطبية وعدم استيرادها من الخارج.

          وبحلول عام 2003, كانت رؤية د. (في) متحققة بما يقارب الكمال. فقد تمكن الرجل من أن يصل بسعر العملية الجراحية لإزالة المياه البيضاء من ثلاثة آلاف دولار أمريكي إلى ثلاثين دولارًا فحسب. والأهم من ذلك أن الدفع بعد إجراء العمليات. ومن لا يستطيع فليدفع في وقت لاحق, أو فليدفع على أقساط, أو فليذهب بغير اعتذار. وصارت (منظومة أرافيند) لرعاية العيون أكبر شبكة مستشفيات للعيون في العالم, وتحقق أرباحًا - بالرغم من توجهها الإنساني النبيل في إجراء العمليات للقادر وغير القادر بلا استثناء - تحسدها عليها كبرى مستشفيات الغرب. وقد تحقق ذلك من خلال فريق الأطباء المكون من 113 فردًا, كل منهم يجري 50 عملية يوميًا, وبمساعدة حوالي 800 مساعد طبي. وبلغ عدد عمليات جراحة العيون التي تجريها منظومة (أرافيند) سنويا 190 ألف عملية. ووصل صافي ربح المنظومة عام 2002 إلى 210 ملايين دولار أمريكي! كما صار للمنظومة الآن مركز لتصنيع العدسات (يصدَّر جزء من إنتاجه) والخيوط الجراحية وآخر لتصنيع المستحضرات الصيدلانية المستخدمة في جراحات العيون, إضافة إلى مركز للتدريب ومركز للبحث, وبنك عالمي للعيون ومركز لرعاية عيون الأمهات والأطفال, ومركز للدراسات الأكاديمية لمنح درجة الماجستير في جراحة العيون.

          وهكذا تتزن المعادلة فيرتد للمرضى الفقراء بصرهم من خلال رؤية إنسانية نبيلة ومؤسسة رابحة.

          خلاصة القول هي أن الفقراء ليسوا عبئًا, وأنه بإقبال المؤسسات التجارية على دخول أسواق قاعدة الهرم بتوجهات جديدة بهدف تقديم منتجات وخدمات تعزز من الفرص الاقتصادية للفقراء وترفع استقلاليتهم المادية وتحسن صحتهم فإن المعادلة تتزن بتحقق الفائدة لكل الأطراف, ويكون بالإمكان حل معضلة الفقر.

 

سي كيه إبراهالاد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





د. في رائد علاج صعف البصر في دنيا الفقراء