القلب ينام

القلب ينام
        

نعم... ينام القلب والمخ وكل شيء حيّ ينام. ولكن ليس بالمعنى المفهوم للنوم.

          اتفقت مريضتي العجوز المحبة للفكاهة, مع ممرضتي الحسناء المحبة للعلم, والتي كانت ترعاها يومًا في مركز موناكو للقلب, على مداعبتي بالسؤال التالي: دكتور هل القلب ينام?!

          فأجبتهما على الفور ودون تردد بالسطور السابقة.

          فانقلب السؤال إلى حيرة التوضيح, مع رجاء المعرفة المستفيضة, وتركت لهما الوقت الكافي للتفكير والتدبير, حتى نهاية رؤيتي لكل المرضى الموجودين في المركز, وأخيرًا كانت إجابتي:

          إن القلب السليم يهدأ أثناء نوم صاحبه, أي أن عمله المعتاد يقل بنسبة عشرة بالمائة, وبذلك تقل نبضاته وتهدأ خلجاته, وفي الحقيقة يرتاح القلب عند كل انبساط, أي بعد جهد كل انقباض, هذه هي طريقة نوم القلب المبسطة, أما بالنسبة للمخ, فإن موجات تردداته العالية تتغير إلى الموجات الأقل ترددًا أثناء النوم, وكلما دخلنا في النوم وزاد عمقه, ظهرت موجات وسادت, وانخفضت أخرى وخفتت, ومع ذلك, فلكل منطقة في المخ موجاتها التي لا يشاركها في طبيعتها منطقة سواها, بل وهنالك علاقة دائمة ومشتركة بين المخ والقلب, ويسودها القلب, ولاشك أنني على اقتناع تام بأن القلب هو ملك الجسم, والمخ وزيره وباقي الأعضاء البشرية جنوده, فإذا طاب الملك طابت جنوده, وإذا مرض الملك مرضت جنوده...!

          ولاشك فإن كهربائية كيمياء النوم المؤثرة على القلب والمخ تختلف من تلك التي تنبعث وتنشط أثناء اليقظة.

نوم خفيف...وعميق

          هنالك مواد كيميائية, بعضها معروف وأغلبها مازال مجهول الطابع, تتحكم بالنوم لدى الإنسان وأهمها:

          السيروتونين وهو مكلف بالنوم الخفيف, والآخر هو النورأدرينالين, وهو المسئول عن النوم العميق مع مشاركة الميلاتونين, وتختلف فترات النوم التي نحتاج إليها في يوم كامل من إنسان لآخر, أو من وقت لآخر في الإنسان نفسه, ومع ذلك فإن متوسط فترات النوم لعدد من الناس, ومن أعمار مختلفة يختلف اختلافًا واضحًا بين كبارهم وصغارهم, فالطفل الحديث الولادة ينام في المتوسط 18 ساعة متقطعة في اليوم, ثم تنقص هذه الفترة بالتدريج كلما تقدم الطفل في العمر, حتى إذا وصل سنه إلى خمس سنوات بلغت فترات نومه حوالي 12 ساعة, وفي سن المراهقة تنقص إلى تسع ساعات, وهي أكثر قليلاً من فترات النوم التي يحتاج إليها الإنسان البالغ في اليوم الواحد, إذ تتراوح بين 7 و8 ساعات يوميًا, أي أننا نقضي أكثر من ثلث عمرنا في النوم, أي أن الإنسان الذي عاش ستين عامًا, ينام منها حوالي عشرين عامًا, ورحم الله أهل الكهف!

          ولقد أثبتت الدراسات العلمية المقارنة بين الشعوب المختلفة, والتي قام بها فريق من الباحثين اليابانيين على نوم الأطفال عندهم, أن الطفل الياباني ينام أقل من الطفل الأمريكي إذا تساوت أعمارهما, وقد يرجع ذلك إلى عادات الشعوب في تربية أطفالها, وفي تهيئة الجو الملائم لنموها الجسمي والعقلي والاجتماعي, لأن النوم من العوامل المهمة لذلك.

          أما عند الشعوب العربية الحالية, فلقد اختلط الحابل بالنابل في حرية النوم, وخاصة بعد انتشار الفضائيات التلفزيونية بصورة عشوائية بما فيها الإنترنت, إذ غالبًا ما يترك الطفل على حريته ينام كما يحب, ويستيقظ كما يحب, ويلهو ما شاء له مزاجه أن يلهو, ولهذا نرى أطفالنا يسهرون في الشوارع وفي البيت, ربما لما بعد منتصف الليل, وخاصة في فصل الصيف, وربما نجاريهم, بل فعلا سبقناهم في ذلك!. في حين أن الطفل الأوربي أو الياباني أو الأمريكي يذهب إلى سريره في فترة محددة ومعروفة وهي الثامنة مساء, هذا وقد تمتد الطفولة عندهم حتى سن البلوغ.

          ومع الأسف, فإن الطفل العربي أصبح عجوزًا منذ صغره, فهو لا ينام إلا بعد منتصف الليل, وفي الصباح الباكر يذهب إلى المدرسة بين النائم والحالم والمستيقظ, وغالبًا ما يكمل نومه وأحلامه على مقاعد الدراسة!

تعطلت الساعة

          وبصراحة فإننا نعيش اليوم في دوامة أضواء المدينة الحديثة الزائفة, حيث تعطلت الساعة البيولوجية المنظمة للنوم, فقديمًا كان أجدادنا القدامى يقبعون في كهوفهم, أو في خيمهم أو حتى في بيوتهم عندما تغرب الشمس, ويقبل الليل, ونرى الآن أحفادهم المعاصرين, أي نحن والأجيال القادمة, قد كسرت هذه القيود, وكثيرًا ما يكون نهارهم ليلاً وليلهم نهارًا, تلبية لكثير من البرامج التلفزيونية المتدنية, أو تلبية لبعض الأفلام الإباحية الهابطة, أو لبعض الأغاني التافهة, والتي غالبًا لا تسر النظر ولا تطرب الأذن, بل وقد فهم الأحفاد خطأ أغنية أم كلثوم (ولا قصر في الأعمار طول السهر)?!!

          ومع الأسف, فإن الخلل المعاصر في الدورة الطبيعية للنوم واليقظة, جعل الإنسان الحضاري المعاصر كثير التوتر والقلق, بل وأصبح هذان العاملان القاسم المشترك الأعظم في أمراض المدنية المتهورة!

          ...في عصر نام فيه بعضهم على حقوق الإنسان لأخيه الإنسان, في عصر قد ذهب فيه بعضهم الآخر إلى تدمير مركب الأرض الزرقاء (مركب الحب والتسامح) ثم جاء الزلزال الأخير المدمر العاصف قبيل العام الجديد 2005, وكأنه يريد أن يقول للبشرية محذرًا من النوم على الحقوق والواجبات?! وتنبيهًا من غفلة القلوب المعاصرة, بل وكان على ما أعتقد دعوة صريحة لإعادة التفكير والتأمل في تحسين الأخلاق وتصفية النفوس البشرية, وكأنني كنت أسمع أثناء رؤيتي أثار هذه  العاصفة المدمّرة, صوتًا خفيًا من القلب يقول:

          إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

 

مصطفى ماهر عطري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات