مساحة ود

مساحة ود
        

أحلام شاردة

          في غمرة الحياة ينسى الإنسان أشياء كثيرة, ويتحرك وكأنه مخلد فيها, معيدًا الجزء الأكبر من وجوده لنجاحه ولنمط العلاقات الاجتماعية الذي يدخل فيها باختياره أو مرغمًا. لكن مع تجارب الألم, نكتشف أن هناك أبعادًا أخرى غير منظورة, يمكن إدراكها, تختزل فينا المعنى العميق للحياة.

          لا يمكن بأي حال من الأحوال, اختزال أي أزمة صحية في غرفة العمليات والجراحة, على الرغم من أنني وفي زمن ضوئي شعرت بأنني مثل طائر ضعيف, جذبه وحش في فمه وتدلى بقية جسمه خارج فم الوحش, ويقف بشر قليلون ليجذبوه بقوة, هن صديقاتي سهام وهالة وشوقية ووفاء... ربما هذا وحده الذي جعلني أستشعر أن ثمة وهجًا للتجربة, وإيجابيات خاصة للألم, لابد من الوقوف لحظة أمامها قبل انطفائها.

          فجرت التجربة سيلاً من الأسئلة عما ينفق على الحروب... ألا يجب أن توجه كل تلك الطاقات والأموال إلى البحث العلمي لاكتشافات جديدة لعلاج مثل هذه الأمراض لتقليل معاناة الإنسان في العالم مع المرض والفقروالتخلف?!

          باستثناء تجليات الألم وتداعياته بعد إجراء الجراحة, وانتظار محنة الكيماوي والإشعاعي والهرموني, أعيش حقًا وهج التجربة وحولي من الصديقات والأصدقاء ما يجذبني حقًا من فم الوحش, لأخرج بدلالات من شأنها أن تؤسس في تصوري نهجًا حياتيًا آخر, يستدعي ضرورة إعادة النظر في كثير من الأفكار والعلاقات, حتى نمط المعرفة, وما هو ثابت, وما هو متغير في المعاني والأفكار, وأنماط العلاقات الإنسانية, بدءًا من البسيط وانتهاءً بالمركب.

          الأزمات لا تدحرني تمامًا, قد تخذلني بعض الوقت, لكنها تصهرني طول الوقت, فتقودني بوصلة شديدة الحساسية والرهافة إلى تجاوزها عن طريق الهروب إلى الأمام وليس إلى الخلف, مستنفرة سلاحي الوحيد (الإبداع) الفاتك بكل أعدائي وهم الظلم والقهر والإحباط واليأس والتخاذل والخنوع والاستسلام, ليمارس العقل حيلة من حيله النبيلة, يدفعني بها دفعًا إلى خلق حالة من التوازن لكي أتقبل عن سعة صدر وأفق, خبرة الألم المضافة إلى كم الخبرات الإنسانية التي عشتها, حتى قبل أن أعرف الكتابة.

          في محاولة مني لتجاوز المحنة, كان يجب أن أقف في منطقة أقل تورطًا مع المرض ولو معنويًا. أن أتعامل مع ما يحدث لي وما أراه داخل طرقات المستشفى الذي بدا لي بممراته وطرقه مثل بيت جحا, لكن بشروط العصر. أن تقف خارج المشهد وتتأمل جيدًا. يعنى أنك لا تنظر بعيون سائح, ولكن بعيون إنسان, وأحيانًا بعيون فيلسوف. جسد هذا الخروج من حالة الذعر والكدر والحزن الشديد إلى درجة لا بأس بها من الحياد والبساطة وليس التبسيط, كانت أحيانًا تصل لبث النكتة ومشاعر المرح والطمأنينة في الآخرين, ربما لأنني تسمعت جيدًا لكلمات الصديق الجميل الناقد المعروف محمود عبدالوهاب, وهو يؤكد لي أن 60% من العلاج يعتمد على الحالة المعنوية, والتي من شأنها أن تقوي الجهاز المناعي وتمنحه قدرة هائلة على المقاومة. وما الحزن والغم والانهيار إلا حلفاء موضوعيون للمرض, الذي هو في حقيقته مجرد خلايا (شاردة) ويقال أحيانا خلايا (مجنونة).. تفقد وظيفتها فتوجه كل طاقتها إلى إفشال وظائف الخلايا الأخرى, التي مازالت تحتفظ بوظائفها الحيوية كاملة فتهاجمها وتحطم الجهاز المناعي وتفتك بالجسد شيئًا فشيئًا. والمعنى واضح الدلالة, لو طبقنا مبدأ اعتماد التماثل بين الخلايا الشاردة والخلايا الإنسانية في أي مجتمع, حين تفقد وظيفتها, ليس على المستوى المهني فقط من الجراحة ذاتها بتحليل الدم بكل أنواعه, وأشعات على الصدر والبطن والحوض والعظام, خشية أن يكون المرض قد أرسل بعض رسائله الحميمة هنا أو هناك. بدوت لنفسي وكأنني في حالة تأهيل جسدي ونفسي لامتطاء مركبة فضائية حقًا.. تذكرت أن رحلة الحياة لم تختلف كثيرًا عن الرحلة نفسها, والبشر مثل أمراض, مثل فيروسات أو بكتيريا, أو أمراض واضحة أو كامنة, حميدة وخبيثة, رحلة شقاء يسلمك إلى شقاء.

          حاملة على ظهري صخرة سيزيف, التي تكد لترفعها إلى أعلى وتثقل كاهلك, وما إن تدرك أنك حقًا عند حافة الجبل تسقط الصخرة لتنزل وتعاني من جديد, أو تصارع طواحين الهواء وأنت تصارعها كما في دون كيشوت لسير فانتيس.

          أحداث العمر وتجلياته أشبه بالحركة داخل مستشفى كبير تحكمه سطوة الأطباء, الذين كان يقول عنهم برنارد شو (جزارون مهذبون) وتليها سطوة الممرضات اللائي رضعن التمريض مجرد تقنيات آلية في (سرنجة) بلاستيك بلا إنسانية وبلا روح.. وأننا نحن البشر مجرد حالات.. حالات مرضية.

          بعض الأشعات أشبه بآلات التعذيب في معسكرات النازية, كنت أدرك بعدها حقيقة أن هناك من يرغب في تدمير جهازي السمعي والعصبي وربما المناعي.

          بدت الرحلة مثل مسيرة متهم أخذوه (كعب دائر).. يلفون به على جهات أمنية عديدة للتأكد من أنه ليس مطلوبًا على ذمة قضايا أخرى. كان لابد من التأكد من براءة بقية أعضاء جسمي من المرض نفسه أو أمراض أخرى.

          في غمرة الرحلة تنبهت إلى وجه جميل, يشبه على نحو ما وجه أمي, التي أخفيت عنها المسألة برمتها, خوفًا عليها من فزغ لا تستطيع إزاءه إلا الانهيار, يدعمه ما ترسب في الوعي الشعبي عن هذا المرض. مازال هناك من يدعوه بالخبيث وهناك من يقول (اللي ما يتسماش) وكأن مجرد ذكر اسمه يستعدي شراسته على الإنسان. المرأة فلاحة مصرية تشم في ثيابها رائحة طين الأرض, وبقايا ماجور العجين ورائحة العيش الرحالي. لا أدري ما الذي جعلني أتشبث بكلمات ونظرات المرأة. كنت أتجاهل أنني أنا (نعمات البحيري) بلحمها ودمها, زاعمة لنفسي أنني شخص آخر محايد تمامًا. يرى الأطفال المرضى بأجسادهم الهزيلة ووجوههم المحمرة ورءوسهم الخالية من الشعر نتيجة علاج الكيماوي والإشعاعي, الذي يقتلون به المرض.. بدوا مثل شخصيات قادمة من عالم آخر, حتى الممرضات نحيلات الأجساد, قصيرات صغيرات, جامدات الوجوه بنظرات مصمتة.. أورام صغيرة تسير على الأرض.

          أرغم نفسي على تصديق كلمات صديقاتي ومساندتهن لي, زاعمة لنفسي أن الحب والتسامح والأمل يقويان فعلاً جهاز المناعة, وما أحوجني لذلك أمام وحش كهذا المرض.

          ركنت سيارتي الصغيرة.. البيضاء بياضًا مغايرًا, والتي أسميتها (فلة بنت خوجة اللي جت بعد دوخة) وأنا أنحت في صخر عنيد لتحسين شروط الحياة والحركة داخل هذا الواقع الخبيث بخبث المرض نفسه.

          حضنت عجلة القيادة وقبلت التابلوه وقلت لها:

          - خلي بالك مني يا فلة.

          كان لسان حالها الصامت ببلاغة شديدة.. يقول:

          - ولا يهمك.. حتة منك تروح ولا كلك.

          وكان لسان حالي يهمس بأنني حقًا خرجت من فم الوحش لكنه قضم قطعة.. لست حزينة فلا أرى نفسي مجرد (قطعة لحم), كل دورها في الحياة أن يلتهمها رجل, حتى أعيد إنتاج الغضب على أنوثة منقوصة.

 

نعمات البحيري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات