جمال العربية

جمال العربية
        

مع (متنبي الغرب الأندلسي) ابن درّاج

          ضمن احتفالية الشاعر الأندلسي ابن زيدون, التي أقامتها مؤسسة البابطين في قرطبة - عاصمة الأندلس - بين الرابع والثامن من أكتوبر الماضي, أعادت المؤسسة نشر ديوان الشاعر الأندلسي ابن دراج القسطلّي, بعد أن نفدت طبعته الأولى منذ أربعين عامًا. وقد حققه وعلّق عليه الأستاذ د.محمود علي مكي أستاذ الدراسات الأندلسية والإسبانية. وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة.

          والذين يعرفون قدر ابن دراج يقولون إنه أستاذ ابن زيدون ومتنبي الأندلس, وإن حياته كانت حافلة بالإثارة في محيطه الاجتماعي والثقافي والسياسي, الأمر الذي حرّك وجدانه وكان له تأثيره الكبير في إبداعه الشعري. وهو صاحب البيتين الشهيرين في أحوال الأندلس - على زمانه -:

لله من وطنٍ قلبي له وطنٌ يبلى, وأَبلى, وما تبلى فجائعهُ
لا يسأمُ الدهر من شوقٍ يطالعني منه, ومن زفرةٍ مني تُطالعهُ


          عاش ابن دراج - كما يقول لنا محقق ديوانه - بين عامي ثلاثمائة وسبعة وأربعين وأربعمائة وواحد وعشرين من الهجرة, أي تسعمائة وثمانية وخمسين وألف وثلاثين من الميلاد. ويرجع نسبه إلى أصل صنهاجي بربري, لكنه ولد ونشأ أندلسيًا خالصًا, لا يشعر بعصبية لهذا النسب, في السنوات الأخيرة من خلافة عبدالرحمن الناصر - أول خلفاء بني أميّة - وقضى فترة تعليمه في السنوات التي وافقت خلافة الحكم المستنصر, وجانبًا من خلافة ابنه هشام المؤيد, وهذه الفترة من حياة الأندلسي - كما يقول د.مكي - كانت أزهر عصور التاريخ الإسلامي في هذه البلاد على الإطلاق. وفي ظل المنصور العامري, وابنيه عبدالملك وعبدالرحمن, قضى ابن دراج نحوًا من ستة عشر عامًا (وشعره في الدولة العامرية يعتبر من أروع ما نظم وأحقه بالتقدير), الأمر الذي يذكرْ بقصائد المتنبي في سيف الدولة الحمداني, وجهاده وكفاحه للدفاع عن الثغور الشمالية للدولة العربية ضد مملكة البيزنطيين, (مما بث في نفس شاعره المتنبي شعورًا قويًا مضطرمًا بالفتوة العربية), الأمر الذي تكرر مع المنصور بن أبي عامر وشاعره ابن دراج, (فابن أبي عامر هو الذي جعل من هذه الدولة العربية القاصية المنحصرة بين البحر وممالك أوربا المسيحية أقوى دول الغرب الإسلامي كله, وكان المنصور رمزًا لمجد الإسلام في تلك البلاد).

          ومن بين قصائد ابن دراج, تستوقفنا قصيدته التي (طارت شهرتها في المشرق والمغرب), كما يقول ديوانه, وهي النونية التي مطلعها:

لك الخيرُ قد أَوْفى بعهدك (خيرانُ) وبُشراك قد آواك عزّ وسلطانُ


          وفيها تصوير شعري بديع لما جرّته الفتنة على الأندلس من ويلات وكوارث, أما (خيران) الذي يتوجه إليه ابن دراج بالخطاب والمديح, فهو أحد الموالي الصقالبة الذين خدموا في دولة بني عامر, حتى إذا ما ضعفت وتمزق شملها قفز على حكم (ألمريه) وظل يحكمها قرابة أربعة عشر عامًا. وأروع ما في قصيدة ابن دراج هذه اللغة القوية الرصينة, التي تذكّر بصياغات المتنبي وفحولة تعبيره, وهذه القدرة الفذة على التصوير والتجسيد لمشهد الرحيل والاغتراب, ولجج البحر تتخطف القلوب رعبًا وفزعًا, فالبحر المائج في نظر هؤلاء الراحلين المذعورين قبر, والماء من تحتهم أكفان, وليس لهم من الأرض مأوى, ولا من الإنس عرفان. فلا مؤنس لهؤلاء الذين يركبون المخاطر ويتعرضون للحتوف إلا الشهيق والزفرات, ولا مُسعد لهم إلا الدموع والأشجان.

          ويقول د. مكي في تقديمه للديوان إن (خيران) لم يكافئ ابن دراج على مدحه إياه إلا بقدر ما سمحت به جلافة الصقلبي وبعده عن تذوق الأدب, فبخس ابن دراج حظه في الجائزة. فبلغ الخبر أبا جعفر بن جواد الطبيب, فقصد الشاعر بخمسة عشر مثقالاً دفعها إليه وقال له: اعذر أخاك فإنه في دار غربة, وقد سارت فعلة خيران هذه حتى ضرب بها المثل, وبقي صداها يتردد في الأندلس ويتندر بها أدباؤها حتى آخر عهد الإسلام بهذه البلاد, حتى إننا نرى الشاعر الغرناطي الفقيه عمر الزجال يقول لأحد ممدوحيه:

ولا خير إن تجعل كِفاءَ قصيدتي كِفاءَ ابن دراج على مدح خيرانِ!


          ويستشهد د.مكي - لذيوع صيت ابن دراج وانتقال شعره في حياته إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي - باختيار معاصره أبي منصور الثعالبي في كتاب (يتيمة الدهر) لجملة كبيرة من شعره وهو بعدُ على قيد الحياة, مما يدل على أن مجموعة من شعر ابن دراج كانت مدوّنة ومتداولة في ذلك الوقت, وأن الأدباء الأندلسيين الراحلين إلى المشرق في ذلك الوقت كانوا يتزوّدون بها لتعريف المشارقة بمكانة شاعرهم الأندلسي (متنبي الغرب) كما كانوا يطلقون عليه.

          يقول ابن دراج في قصيدته ذائعة الصيت:

لك الخير, قد أوْفى بعهدك (خيرانُ) وبشراك, قد آواك عز وسلطانُ
هو النّجْحُ, لا يُدعى إلى الصبح شاهد هو الفوزُ, لا يُبغى على الشمسِ بُرهانُ
إليك شَحنّا الفُلَك تهوى, كأنها قد ذُعرت عن مغرب الشمسِ - غربانُ
على لُججٍ خُضْرٍ إذا هبْت الصَّبا(1) ترامى بها فينا (ثبيرٌ) و(ثهلان)(2)
موائل نرْعى في ذراها مواثلاً كما عُبدت في الجاهلية أوثانُ
وفي طيّ أسمال الغريب غرائبٌ سكنَ شغاف القلبِ شيب وولدانُ
يُردّدون في الأحشاء حزّ مصائبٍ تزيد ظلامًا ليلها وهي نيرانُ
إذا غيض ماء البحر منها مَددْنهُ بدمع عيونٍ يمتريهنّ أشجانُ(3)
وإن سكنت عنّا الرياح جرى بنا زفيرٌ إلى ذكْر الأحبة حنّانُ
يقلن - وموجُ البحر والهمّ والدجى تموج بنا فيها عيونٌ وآذان - :
ألا هلْ إلى الدنيا مَعادٌ وهل لنا سوى البحر قبرٌ أو سوى الماء أكفانُ
وهبْنا رأينا مَعْلَم الأرضِ, هل لنا من الأرض مأوى, أو من الإنسِ عرْفانُ(4)?
وصرف الرّوي من دون أدنى منازلٍ تباهى إلينا بالسرور وتزدانُ
تقسمهن السيفُ والحيْفُ والبلى(5) وشطّت بنا عنها عصور وأزمان(6)
كما اقتسمت أخدانهنّ يدُ النّوى فهم للردى والبرّ والبحر أخْدانُ(7)
ظعائنُ عُمران  المعاهد مُقفرٌ(8) بهنَّ, وقفرُ الأرضِ منهن عمرانُ
هوت أُمَّهم, ماذا هوت بِرحالهم إلى نازح الآفاقِ سُفْنٌ وأظعانُ?(9)
كواكبُ, إلا أنّ أفلاكَ سيْرها زمام ورحْلٌ أو شراعٌ وسكّانُ
فإن غرّبت أرض المغاربِ موئلي(10) وأنكرني فيها خليط وخِلاّنُ
فكم رحُبتْ أرضُ العراق بمقدمي وأجزلت البُشرى عليَّ (خُراسانُ)
وإنّ بلادًا أخرجتني لعُطّلٌ(11) وإن زمانا خان عهدي لَخوَّانُ


          ثم يقول ابن دراج القسطلي في موقف التأمل واستخلاص العبرة, وإطلاق الحكم على الزمان وأهله, متأثرًا بما آل إليه مصير الدولة العربية في الأندلس, وهوان شأنها وتمزّق دُويلاتها وتصارعها:

سلام على الإخوان تسليم آيسٍ(12) وسقْيًا لدهرٍ كان لي فيه إخوانُ
ولا عرَّفت بي خلّةً دارُ خُلّةٍ(13) عفا رسْمَها منها جفاء ونسيانُ
وغرّت ببرقِ المُزْنِ من ذكر صُعْقِه ومن ذكر ربٍّ كلّ يومٍ له شانُ
ويا رُبّ يومٍ بان صدْعُ سلامِه بصدْع النّوى أفلاذَ قلبي إذ بانوا(14)
نُودّعهم شجْوًا بشجْوٍ كمثلما أجابت حفيفَ السّهم عوجاءُ مِرْنانُ(15)
ويصدع - ما ضمَّ الوداعُ - تفرّقٌ كما انشعبت تحت العواصفِ أغصانُ(16)
إذا شرّق الحادي بهم غرّبت بنا نويً يومُها يومانِ والحينُ أحيانُ
فلا مؤنسٌ إلا شهيق وزفرةٌ ولا مُسعدٌ إلا دموع وأجفانُ
وما كان ذاك البيّنُ بين أحبةٍ ولكنْ قلوبٌ فارقتْهنّ أَبدانُ
فيا عَجبًا للصبر منا كأنّنا لهم غيرُ مَنْ كنا, وهم غيرُ من كانوا
مضى عيشُهم بَعْدي وعيشي بعدهم كأنّي قد خُنتُ الوفاءَ وقد خانوا
وأَفْجِعْ بمنْ آوى صفيحٌ وجلمدٌ ووارت رمال بالفلاةِ وكُثبانُ(17)
وجوهٌ تناءت في البلاد قبورُها وإنهمو في القلب مني لسُكّانُ
وما بليِتْ في التُربِ إلا تجدّدتْ عليها من القلب المفجَعِ أحزانُ
همو استخلفوا الأحبابَ أمواج لُجّةٍ هي الموتُ, أو في الموت عنهنّ سلوانُ
بقايا نفوسٍ من بقية أنفسٍ يُميتونَ أحزاني, فَدِينوا بما دانوا
أقول لهم صبْرًا لكم أو عليكمو عسى العيشُ محمودٌ أو الموتُ عجلانُ
ولا قَنْطٌ واليُسْرُ للعُسرِ غالبٌ وفي العرش رَبٌّ بالخلائقِ رحمانُ(18)
ولا بأْسَ من روْحٍ وفي الله مطمعٌ(19) ولا بْعُدَ من خيْر وفي الأرض خيرانٌ
ستنسوْنَ أهوالَ العذابِ ومالكًا إذا ضمّكمْ في جنّة الفوزِ رضوانُ
متى تلحظوا قصر (ألمريّةِ) تظفروا ببحرِ حصًى يمْناه درٌّ ومرجانُ(20)
وتستبدلوا من موج بحرٍ شجاكمو ببحرٍ لكم منه لُجيْنٌ وعقيانُ(21)
فتيً سيفُه للدين أمنٌ وإيمانُ ويُمناهُ للآمال روْحٌ وريحانُ
تقلّد سيْفَ الله فينا بحقِّه فبرّت عهودٌ بالوفاءِ وأيْمانُ
وحلّى بتاج العزّ مَفْرِق مُخْبتٍ(22) يُقلّبه داعٍ إلى اللهِ ديّانُ
وبالخير فتّاحٌ, وبالخير عائدٌ وبالخيل ظعّانٌ, وللخيلِ طعّانُ
فقُضّت سيوفٌ حاربته وأَيْمُنٌ(23) وشاهت وجوهٌ فاخرته وتيجانُ
لك الكَرّةُ الغرّاءُ عن كلّ شاردٍ(24) أضاءت لهم منها ديارٌ وأوطانُ


          وبعد أبيات كثيرة في مدح (خيران) وتمجيد شجاعته وبطولته, وفتكه بأعدائه - حتى لكأنّه يذكّر قومه بأفعال المنصور بن أبي عامر وبطولاته في زمانه - يقول ابن دراج:

فلو شهد الأملاكُ يوْمَك فيهمو لألقى إليكَ التاج كسْرى وخاقانُ
ولو رُدّ في (المنصور) روحُ حياته غداةَ لقيتَ الموْتَ والموتُ عُريانُ
وناديْت للهيجاء أبناء مُلْكهِ(25) فلبّاك آسادٌ عبيدٌ وفتيانُ
جبالٌ إذا أرسيْتَها حوْمَة الوغى وإن تدْعُهم يومًا إليك فعِقْبانُ(26)
يقودهمو داعٍ إلى الحق مُجلبٌ على البغي, يُرضى ربّهُ وهو غضبانُ
كتائبُ بل كُْتْبٌ بنصرك سُطّرتْ ووجهُك (بِاسْمِ الله) والسيف عنوانُ
هو السيف لا يرتاب أنك سيفُه إذا نازل الأقرانَ في الحربِ أَقرانُ(27)
كأنَّ العِدى لمّا اصطلوْا حرّ نارِه أصاب هواديهم من الجوّ حُسْبانُ
وأسْمرَ يسرى في بحارٍ من النّدى بيُمْناكَ, لكن يغتدى وهو ظمآنُ
تلألأ نورا من سَناك سِنانُه وقد دعت الفرسانَ للحربِ فُرسانُ
لَحيّاكَ من أحييْتَ منه شمائلاً يموت بها في الأرض ظلم وعُدْوانُ
وناجاكَ إسرارًا وناداكَ مُعلنًا وحسْبُ العُلا منه سِرارٌ وإعلانُ
ألا هكذا فليحفظِ العهْدَ حافظٌ ألا هكذا فليخْلُفِ المُلْكَ سلطانُ
فلله ماذا أَنْجَبتْ منك عامرٌ ولله ماذا ناسبتْ منْكَ (قحطانُ)(28)
ولله منّا أهْلَ بيْتٍ رمتهمو إلى يدكَ العُليا بحورٌ وبُلدانُ
وكلُّهمو يُزْهَى على الشمسِ في الضحى وبدر الدياجي أنهم لك جيرانُ
وقد زاد أبناءُ السبيل وسيلةً وحلّوا فزادوا أنهم لك ضيفانُ
فما قَصّرتْ بي عن هواكَ شفاعةْ ولا بك عن مثلى جزاءٌ وإحسانُ


----------------------------------------
(1) لُجج: جمع لجة, وهي معظم البحر حيث لا يُدرك قعْره.
(2) ثبير وشهلان: جَبلان ورد ذكرهما كثيرًا في الشعر القديم, قريبان من مكة.
(3) يمتري: يستدرّ ويستخرج, ومن معانيها أيضًا: يشكُّ.
(4) عرفان: معرفة أو تعرّف.
(5) الحيْف: الظلم. البلى: القِدم والفناء.
(6) شطت: بعُدت.
(7) أخدان: جمع خِدن: الصديق الحميم.
(8) الظعائن: جمع ظعينة: الهودج أو الزوجة أو المرأة في الهودج.
(9) أظعان: جمع ظاعن: راحل أو مسافر.
(10) موئلي: مكان الإقامة واللجوء.
(11) عُطَّل: جمع عاطل: المرأة التي لا حُلي عليها ولا زينة لها.
(12) آيس: يائس, منقطع الرجاء.
(13) الخَلّة (بفتح الخاء): الصفة والخَصلة, وبضم الخاء: المحبة والمودة.
(14) النوى: الرحيل والفراق والبعد. بانوا: رحلوا وفارقوا.
(15) العوجاء: المائلة والمنحرفة والملتوية. المرْنان: التي تحدث بصوتها القويّ رنينا.
(16) انشعبت: تفرّقت.
(17) جلمد: صخر. والمقصود بالصفيح والجلمد: القبر.
(18) قنط: يأس.
(19) روْح: نسيم, روْح الله: رحمة الله.
(20) ألمرية: الإمارة التي ولّى (خيران) نفسه عليها.
(21) لُجيْن وعقيان: فضة وذهب خالص.
(22) المخبت: الخاشع, المتواضع.
(23) قُضّت: تحطّمت وتكسّرت.
(24) الكرّة الغرّاء: الحملة الظافرة في الحرب. والكرّة: الرجعة إلى معاودة الهجوم.
(25) الهيْجاء: الحرب.
(26) عقبان: جمع عُقاب: طائر من رُتبة الكواسر شديد البأس, حادّ البصر, قويّ المخالب, شبيه بالصقر.
(27) أقران: جمع قِرن: النظير في الشجاعة أو العلم أو غيرهما. والمراد هنا: الأبطال والشجعان.
(28) قحطان: القحطانيون هم أهل اليمن (جنوب شبه الجزيرة العربية) أما العدنانيون فأهل الشمال. ولغة الجنوب: القحْطانية. ولغة الشمال: العدنانية.

 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات