الجزائر في كتابات «جي دي موباسان» الأرض والعرق والدين

الجزائر في كتابات «جي دي موباسان» الأرض والعرق والدين

يقول «بترارك» Petrarque شاعر ومفكر إيطاليا خلال عصر النهضة عن العرب: «ليس بإمكان أي كان أن يجعلني أصدق أن شيئا طيبا يمكن أن يأتي من العرب». هل عرف بترارك بلاد العرب وزارها ليحكم على أهلها بهذا الشكل الحاسم؟ وهل يمكن أن تتشكّل صورة لشعب ويتأسّس رأي حول أمة أو عرق انطلاقا من خلفية موروثة وتصور سابق؟ أم أنّ الرحلة بما هي «تشكيل لنص ذاتي شخصي بخصوص الأنا والآخر، تبدو في شكل معينّ للتعبير عن رؤية معينة انطلاقا من خطاب مفصح عنه في البداية، أو مضمر في تضاعيف السرد والوصف والتعليقات». تمنح القدرة على استكناه خصوصيات الشعوب، وارتياد مغاور ثقافاتها، واستجلاء مكامن تميزّها؟

وإلّا فبم يمكن أن نفسر ما ورد في كتابات الرحالة والأدباء والفنانين والمفكرين الذين زاروا الجزائر، وساروا في أرضها، ونقلوا صورة عنها؟ كثيرون هم الأدباء الفرنسيون الذين زاروا الجزائر بعد فترة غير طويلة من الاحتلال، وقد تعددت دوافع هؤلاء وتشعبت أهدافهم خاصة إذا علمنا أنّ من بينهم من جاء ضمن بعثة ثقافية قي مهمة دعائية للحكومة الفرنسية قصد التعريف بالجزائر التي لم يكن الفرنسيون يعرفون عنها إلا القليل، وتحفيزهم على المجيء إليها (تعميرها).

ومن أبرز من يمثل هذا التوجه ألكسندر دوماس Alexandre Dumas، الذي أرسل إلى الجزائر سنة 1845 بطلب من وزارة التعليم، وقد أثمرت سفرته التي استغرقت شهرا ونصف الشهر عملا أدبيا يمكن تنزيله ضمن أدب الرحلة وهو بعنوان Le Veloce، ومثله تيوفيل غوتييه Theophile Gautier، الذي قدم إلى الجزائر في الفترة نفسها1845، ثم عاد إليها مرة أخرى 1862 بعد أن أصدر كتابته الرحلية الموسومة بـ: «رحلة رائعة إلى الجزائر»، Voyage pittoresque en Algérie، ثم أتبعها بروايته «يهودية من قسنطينة» La juive de Constantine، ومنهم من وفد إليها بغرض التداوي والنقاهة

مثل ألفونس دوديه Alphonse Daudet الذي زارها ما بين سنتي 1861-1862 ليمضي فيها شهرين لتترك تلك الرحلة فيه أثرا تبدّى في أعماله القصصية الشهيرة مثل Tartarin de tarascon أو «رسائل من طاحونتي» Lettres de mon moulin، و«حكايات الاثنين» Les Contes du Lundi وغيرها، ومنهم من لاذ بها ينشد الكمال الفني لاستكمال تحرير عمل أدبي يروم إشباعه بسحر هذه الأرض وعراقة تاريخها، كما هو حال غوستاف فلوبير Gustave Flaubert الذي قدم إلى الجزائر سنة 1855ضمن رحلة قادته إلى شمال أفريقيا، حين كان بصدد كتابة رواية «صالمبو» Salambo ملكة قرطاج، فلم يستطع مقاومة إغراء الكتابة، فسجل مشاهداته، ووقع انطباعاته عن المكان والإنسان والطبيعة في عمله الأدبي التوثيقي «مراسلات» ِCorrespondances..

وقد اكتفينا في هذا المقام بذكر هذه الأسماء لأنها من القامات الأدبية السامقة في فرنسا وأثرها في فتح الأعين على الجزائر في تلك الآونة لا يمكن تجاهله، ودورها في تشكيل صورة عن هذه المستعمرة الفرنسية لا يستهان به، ولأنها تنتظم ضمن رؤية تكاد تكون عامة، وهي ترسيخ رؤية كولونيالية كرستها فكرة نابليون الثالث الذي صرح: «إن الجزائر لا تحتاج إلى غزاة بل تحتاج إلى معلمين». Ce qu il faut à l Algérie, ce ne sont pas des conquérants,mais des initiateurs».

ولهذا انتصب السؤال أمامي: ما الإضافة التي يمكن أن تحملها نصوص الأديب الفرنسي «جي دي موباسان» Guy de Maupassantإذا ما أدرجنا جانبا ذا صلة فيما نحن إليه بسبيل، يتمثل في طبيعة الآصرة التي ربطت مابين «موباسان» وأستاذه وصديقه الكبير «فلوبير» الذي احتضن موهبته، وصوّب أخطاءه؟ وما عسى أن يكون الدافع خاصة إذا ما جعلنا في وكدنا البحث عن المضمر الثاوي في أعطاف النصوص بما يصيّرها متمنّعة جموحا؟ وما الذي يتغياه من وراء عمله الأدبي الذي ينوس بين الرحلة والقصة القصيرة أو الطويلة، والذي وسمه بـ: «إلى الشمس» Au soleil؟ وما الرؤية التي تحكم قصته القصيرة «حلومة» Allouma الواردة في مجموعته القصصية: «المزلاج وحكايات أخرى سفيهة»Le verrou et autres contes grivois؟

رحلة إلى الشمس

في السادس من شهر يوليو 1881، يصل «موباسان» إلى الجزائر، وهو في أوج عطائه الأدبي،وهو الذي تنسب إليه ريادة القصة القصيرة في العالم، وإليه يرجع الكثير من المبدعين والنقاد العرب الفضل في ظهور القصة القصيرة العربية، وكما ورد في مقدمة رحلته «إلى الشمس» كانت ثمة دوافع جعلته يفكر في السفر على إطلاقه، وفي اختيار الجزائر تحديدا.

فأما ما هو موصول بالعام فـ «رتابة الحياة وتكرار الأيام فيها على وتيرة واحدة تصير الإنسان غبيا ساذجا، وتحول كل مكان نسكنه سجنا... والسفر باب من تلك الأبواب التي نطل منها على الحقيقة المعروفة لنخترق حقيقة غير مكتشفة، حقيقة تبدو حلما».

وما كان يريد أن يكتشفه هو رؤية بلاد الشمس والرمال في حر الصيف.

أما ما له علاقة باختياره الجزائر، وأعطى هذا السفر جاذبية خاصة فهو اهتمامه بأمر «بوعمامة» الذي استعصى على الجيش الفرنسي الإمساك به،Insaisissable، والذي قاد حملة عجيبة أدّت إلى قول الكثير من الحماقات،وكتابتها، بل واقترافها أيضا، يضاف إليه وجود معلومات مؤكدة عن قيام انتفاضة شعبية بعد شهر رمضان، كآخر محاولة، ستندلع على إثرها ثورة في الجزائر كلها. إنه من المثير جدا رؤية العربي في هذا الوقت تحديد، ومحاولة فهم روحه، وهو أمر لا يكترث إليه المعمرون إطلاقا.

وهو الأمر ذاته الذي أقر صديقه «فلوبير» بعجزه إزاءه حين قال إنّ : « بوسعه أن يتخيل الصحراء والأهرامات وأبو الهول دون أن يراها، لكنه عاجز عن معرفة ما يدور في رأس حلاق تركي قابع أمام بابه».

فهل يفلح هو في معرفة ما يدور في رأس العربي علما أن صفة التركي في تلك المرحلة كانت تطلق على سكان شمال أفريقيا كما على مناطق أخرى من المشرق العربي، أو كما يفضل «غوتييه» و«دوديه» تسميته بـ Le teur؟

ليس ثمة مضمرات فيما يبدو، فقد بسط الكاتب جملة الدوافع التي حملته على السفر، إلا ما كان من سكوته عن اشتغاله، في ذلك الوقت، مراسلا صحفيا لجريدة Le Gaulois .

وبإجالة النظر في نص الرحلة القصة، يمكن استصفاء طائفة من التيمات العامة التي تشكل في مجموعها المنظور الذي اصطنعه « موباسان» لإدراك العالم، إذ رام اقتحام مجاهل التاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر بعد أن صار الوضع إلى استتباب نسبي، وكذا التسلل إلى الزوايا المعتمة في التركيبة الاجتماعية والثقافية والحضارية للشعب الذي وجد على هذه الأرض، ولذلك كان التركيز على:

- الجزائر: أرض الشمس، المستعمرة الفرنسية،...

- السكان: المعمرون الأوربيون، العرب، البربر، اليهود، ...

- الإنسان : القيم ...

- الدين: العبادات، الطقوس...

وتحسن بنا الإشارة في هذا الموضع إلى جنوح الكاتب، في الأعم الأغلب فيما عرض له من قضايا، أو فيما تناوله بالوصف، أو التقرير إلى المقارنة بين المحلي الشعبي العربي ساكن الصحراء، وبين الفرنسي الأوربي المسيحي الشمالي، بين الهنا والهناك، بين النحن والهؤلاء، حتى إننا لنكاد نلفيه يتقصد ذلك، وإن لم يوجد ما يدعو إليه.

وهكذا حضرت الجزائر في الكتاب في عنوانين أحدهما «الجزائر» Alger والثاني «إقليم الجزائر» La province d Alger، كما حضرت في مظهرين: أرضا ومستعمرة، فالأرض «بلدا» وطبيعة «ساحرة» «تجاوزت الجزائر العاصمة أفق انتظاري، كم هي جميلة!، مدينة الثلج تحت الضوء الباهر»

هذا هو المكان، الأرض، وهي عدا الأوربيين والفرنسيين تؤوي «شعبا يبعث على الذهول: عدد لا يحصى من الصعاليك الذين يرتدون إما قميصا بسيطا أو خرقتين مخيطتين... أو كيسا مثقوبا من جهة الرأس والذراعين، بركب عارية وأقدام حافية».

ويتواصل وصف هؤلاء العرب غير المتحضرين، القذرين، العديمي اللطف،العديمي...ثم يروي قصصا غريبة عن الفوضى العارمة التي تصم حياتهم.

وفي المقابل يتقدم أمامنا وصف الحي الأوربي كما يسميه، وهو حي راق جميل ومنظم وجديد «ونحن نخطو فيه لأول مرة، استولى علينا إحساس بالامتعاض، إننا أسأنا نقل تقدمنا إلى هذا البلد، بدت حضارتنا فيه فظة خرقاء، لم تتكيف إلا في القليل مع الأخلاق والسماء والناس...نحن الذين ظهرنا بمظهر البرابرة وسط هؤلاء البرابرة الغلاظ، وفي الحقيقة إنهم في أرضهم، وقد اكتسبوا خلال قرون عادات يبدو أننا لم نستطع فهم كنهها».

إن البيّن في خطاب «موباسان» حرصه على إظهار الجانب المشرق من الحضارة الأوربية التي يجب أن تعلّم وتربي هذه الشعوب المتوحشة أكثر من فرض سيطرتها عليها، وهنا يستحضر كلمة نابليون الثالث.

مقارنات غير عادلة

في هذه المرحلة كانت قد تحصلت لـ «موباسان» معرفة بالأرض وبالبلد وأهلها أهّلته لأن يأخذ موقعا له بعد أن أجرى مقارنات، وإن لم تكن عادلة، فقد تحرّى فيها قدرا من الموضوعية.

في فصل «بوعمامة»، وهو الفصل الوحيد الذي يحمل اسم شخصية، يشكل الأديب الفرنسي لـ «بوعمامة» صورة تلقى تفاصيلها من ضباط وشخصيات فرنسية تظهره:

- «هذا المهرج الذي استعصى الإمساك به، وأفزع جيشنا في أفريقيا، اختفى نهائيا حتى بدأنا نعتقد أنه لم يوجد أصلا».

- «لم يكن هذا الجوّال إلّا زعيم عصابة قليلة العدد، دفعه الجوع إلى الثورة، هؤلاء القوم لم يقاتلوا إلا لنهب مخازن القمح أو سرقة القوافل، يبدو أنهم يتصرفون لا بدافع الحقد، ولا بدافع التعصب الديني، إنهم جوعى». ويعود «موباسان» ليبرّر ويفسّر أنّ هذه الانتفاضات لم تكن لتظهر لولا كما يقول «نظامنا الاستعماري الذي يقوم على تدمير العربي وسلبه باستمرار، وعلى ملاحقته دون رحمة، وعلى تركه يهلك في بؤس». وبحس الصحفي الذي يتقصى الخبر ومورده، وما يحفّ به، وما يشف عنه، فقد عمد «موباسان» إلى تتبع أخبار «بوعمامة» واصفا إياه تارة بـ:«Marabout، وهو وصف يدل عند هؤلاء على الولي الصالح، كما يدل على المشعوذ، وتارة أخرى بالمتمرد Insurgé متهما قادة الجيش بقلة الذكاء والتقاعس، والصحافة المحلية بعدم الدقة، وأخبارها بالتضارب إلى الحد الذي يبعث على السخرية منها، بل إنه هو نفسه لا يدّعي صحة الوقائع التي يرويها: «سيقال: من أين لك بهذه الأخبار الدقيقة؟ من جميع الناس، لعل بعضها محل شك، لا أستطيع تأكيد معلومات جمعتها بدت لي أقرب إلى الواقع، وعلى كل حال، فإنه من المستحيل في الجزائر الحصول على خبر مؤكد من مكان يبعد ثلاثة كيلومترات عن النقطة التي نوجد فيها».

والحاصل، من وجهة نظر «موباسان» أنّ «بوعمامة» وحفنة الثائرين معه لم يكونوا ليلحقوا تلك الهزائم بالجيش الفرنسي، ولا ليرتكبوا تلك الفظائع في حق المعمّرين لو كانت السلطة العسكرية أكثر يقظة واحتياطا، وهنا يطرح سؤالا يشف عن رغبة ملحة في معرفة سر العجز، وهنا أيضا يأتي صوت الأوربي المركزي حين يقول: «ما سبب قلة حيلة أسلحتنا المتطورة في مواجهة عصي العرب وبنادقهم العتيقة التي عفا عليها الزمن، في كل الأحوال، يتفوق هؤلاء العرب علينا، ونحن نبذل قصارى جهدنا لمقاومتهم، إنهم أبناء البلد».

إنه التبرير الذي يجر وراءه جملة من الأوصاف التي وإن بررت فإنها لا تقنع:العرب يعيشون على حبات من التين وحبات من الطحين، لا يتعبون في هذا المناخ الذي أجهد رجال الشمال،يمتطون خيلاً هزيلة مثلهم،ومقاومة للحرارة مثلهم أيضا،يسيرون لمسافات طويلة في اليوم الواحد دون أمتعة ودون قوافل، ودون مؤن، يتنقلون بسرعة مدهشة حين يهاجمون أو ينهبون ثم يختفون دون أن يتركوا أثرا ثم يعودون فجأة في الوقت الذي نعتقد فيه أنهم بعيدون».

ولعل ما خوّل له المقارنة بين الحرب هنا والحرب هناك في أوربا حيث تثقل الأمتعة كاهل الجيش، وتسهل عملية اقتفاء أثره.

خطاب متعال

وتزداد حدة الخطاب المقارن المتعالي عند «موباسان» في الفصول التالية، ففي الفصل الموسوم بـ «الزرعيز» الذي خصصه لمنطقتي الجلفة وبوسعادة، يقارن الكاتب الطبيعة في أرض العرب والطبيعة في الشمال، ففي هذا البلد كما يقول: «لا يوجد أصيل لا في الصباح ولا في المساء، ولا نكاد نرى تلك الغيمات الجميلة التي تسير متثاقلة وقد شابتها حمرة، فبدت غريبة، وهي تزين الأفق عندنا في الشمال، وكأنها قطع دامية أو ملتهبة».

إنه الحنين إلى ربوع الشمال حيث كل شيء موجود في الطبيعة، وكل شيء جميل فيها، أما في هذا البلد فلا يوجد فجر أيضا، وإن وجد فهو الصمت المطبق، أمّا هناك « فمن لا يعرف عندنا بداية صباح العصفور قبل طلوع النهار، منذ الاصفرار الأول للسماء...مع صياح الديكة المتواصل الآتي من بعيد، كل تلك الجلبة المعلنة عن استيقاظ الحيوانات، كل تلك الفرحة التي نجدها في الأوراق، لا شيء منها هنا».

لقد كان من الطبيعي أن يصف الكاتب الطبيعة، فكتابة الرحلة تتشكل من «التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والأساطير والخرافات، ومن الثقافة والرسم، ولهذا يكون هذا النوع من المحكيات متعدد الأصوات». ولكن الذي لا يمكن أن ينسجم مع المهمة التي أوكلت إليه بطابعها التقريري هو هذا التخييل الذي يعانق الوقائعي، فتتداعى كتابة الرحلة التقرير إلى نوع آخر من الكتابة الذي يقع على التخوم فلا يكتسب الانتماء، وإلا فأين ننزل هذا النص وكيف؟

ويحسن بنا في هذا المقام، أن نقر بقدرة الكاتب العجيبة على المخاتلة في تجاوز الحدود ما بين الأجناس، ثم التظاهر بالامتثال، وأن نقف في حيرة من استمرائه لعبة شد القارئ وجذبه حتى يوقعه في شرك الإعجاب بالأرض، وما أن يحس أن هذا القارئ قد اطمأن إليه حتى يمطره بوابل من السخط على كل شيء، ففي الفصل ذاته «الزرعيز» يقول: «هذه السهول الأفريقية مدهشة» ثم ما يلبث أن يقول: «لو تدرون كم نحن بعيدون، بعيدون عن العالم، بعيدون عن الحياة، بعيدون عن كل شيء، تحت هذه الخيمة الوطيئة الصغيرة، التي تسمح ثقوبها برؤية النجوم، ومن خلال أطرافها المرفوعة، شساعة بلد الرمل المجدب، هذه الأرض مملة، على وتيرة واحدة دائما إنها ميتة ومتكلسة.

وأهم ما ننتهي إليه، هو أن لا شيء في الطبيعة هنا يشبه الطبيعة هناك، ولا أثر لأصيل جميل، ولا لفجر مشرق، ولا لغيوم محمرّة، مزينة، لا شيء سوى الشمس الحارقة. أما الإنسان الذي لقيه «موباسان»، وتعامل معه، وحاول رصد حركاته، والتقاط سكناته، فمختلف تمام الاختلاف: فهناك العربي الذي خصه بنعوت كثيرة، وخصص له الجزء الأكبر من كتابه، وهناك الأوربيون والمعمّرون، واليهود، والقبائل، وبني ميزاب...,وهو في كل هذا يصدر الأحكام ويقارن الحالات ويسوق الأدلة، فمن قوله عن أخلاق العربي «من يقول عربي بقول لص دون استثناء».

.Qui dit Arabe dit voleur sans exception

وقوله أيضا: «لا يوجد شعب يكثر الجدال في الأمور التافهة، ويحب الشجار والخصام والانتقام كالعرب.

والأمر ذاته نصادفه، لكن هذه المرة في خطاب أدبي تخييلي حين يسرد قصة الفتاة «حلومة»Allouma في القصة القصيرة التي تحمل اسمها ضمن مجموعته القصصية «المزلاج وقصص سفيهة أخرى»Le verrou et autres contes grivois.

نسق كولونيالي

إن حضور «موباسان» في الخطابات التقريرية التي يتبناها ويفصح عنها يؤكد انخراطه في النسق الكولونيالي المتعالي ذي الرؤية الشمولية الجائرة التي سوّغت له أن يجرد العربي من كل ما له بالحضارة نسب صريح أو خفيّ، فلنستمع إليه يقول: «شعب غريب، طفولي، بقى بدائيا كما كان عليه الإنسان في بدايات نشأته، يمر على الأرض دون أن يتعلق بها، دون أن يستقر بها. ليس لهذا الشعب بيوت إلا ما كان من ذلك القماش الذي يبسط على العصيّ، لا يملك من الأغراض شيئا مما يجعل العيش دونها مستحيلا، لا أسرّة، لا أردية، لا طاولات، لا كراسي، لا شيء من هذه الأشياء الصغيرة التي تغدو حياتنا مريحة بها، لا أثاث حتى لا يضيق عليهم، لا صناعة، لا فن، لا معرفة بأي شيء، إنه بالكاد يحسن خياطة جلد الماعز ليصنع منه وعاء يحمل فيه الماء».

ليس لمجوّد النظر في هذا الخطاب الصادم أن يذهب مذاهب شتى في تأويله، فهو وإن لم يشف عن عدائية، فإنه يكشف أمامنا ذاتا أوربية متمركزة ظلت من بداية النص تزايد على الإنسان وقيمته، وعلى الحضارة ورقيّ مقاصدها، فما أن يواتيها السياق حتى تطلق العنان لتلك الأحكام الشمولية التي تجرّ إلى المطابقة، فالحكم المذكور ينسحب على العرب والمسلمين والبدو وسكان الصحراء وأصحاب الأرض والأهالي، إنّهم «عرب» الذين يصنفون حضاريا وإنسانيا وفكريا ضمن أطر تسوّغ سلبهم أرضهم وتلقينهم مبادئ الإنسانية، فهاهو يقول: «للزنوج أكواخهم، وللأرانب جحورها، وللإسكيمو بيوتهم الثلجية Les huttes ،أكثر المتوحشين توحشا يملكون بيوتا يحفرونها في باطن الأرض أو يقيمونها على سطحها، كل هؤلاء يتعلقون بالأرض الأم، أما العرب فيمرون دوما، هائمين على وجوههم،دون تعلق بهذه الأرض ودون رأفة بها، هذه الأرض التي نملكها، لقد صارت خصبة بأيدينا، إننا نحبها بمجامع قلوبنا الإنسانية، يمر العرب من هنا، وهم يمتطون صهوات جيادهم، إنهم لايحذقون شيئا مما نعمل، لا يكترثون لما نشتغل به».

وهاهنا، لا يخفى على كل ذي تبصّر أن مهمة تحفيز الفرنسيين وغيرهم من الأوربيين على المجيء إلى الجزائر، والتي اضطلع بها من سبق «موباسان» إلى هذه الأرض قد تحولت عنده مطية لشرعنة الاستيلاء على الأرض، وتسويغا لبسط السلطة على العباد إن كانوا كذلك، فمساواته بين البشر «الزنوج والإسكيمو» وبمن هم دونهم مرتبة من المخلوقات «الأرانب والكائنات المتوحّشة» لا يمكن إلّا أن يقرأ من زاوية تضخم الذات المركزية الأوربية التي جعلت فلاسفة الأنوار يوما يتساءلون : هل بإمكانه عدّ سكان بشرا؟ أما العرب فهم دون تلك المرتبة ماداموا لم يطاولوا منزلة الكائنات المذكورة.

ولئن كان العرب على هذا النحو من الجحود والإهمال لهذه الأرض فإنّ الجزائريين، وهم مالكو الأرض الفعليون، الذين يقطنون بالجزائر العاصمة، ولا يعرفون من بلادهم إلّا سهل متيجة، ويعيشون هانئين في إحدى أجمل مدن العالم، يصرّحون بأن العرب شعب غير قابل لأن يساس، ولا يصلح إلّا للقتل أو أن يرمى في الصحراء.

وحتى اليهود الذين يسكنون هذه الأرض ويجاورون العرب فيها، فهم أدنى منزلة ممن سواهم من اليهود «يهود أوربا، ويهود الجزائر العاصمة، واليهود الذين نعرفهم، ونعايشهم، جيراننا وأصدقاؤنا أناس متحضرون، مثقفون، أذكياء، وعادة ما يكونون في غاية اللطف، إننا نستنكر بشدة إذا علمنا أن سكان مدينة لهم صغيرة بعيدة مجهولة قد ذبحوا، وأغرق المئات من أبناء إسرائيل. أما الآن فلا أستغرب ذلك، لأن يهودنا لا يشبهون قط اليهود هناك».

وأمّا عن علاقة اليهودي بالعربي، فمن الغريب أن نجد «دوموباسان» يتعاطف مع العربي ضد اليهودي، لأنّ فيها احتيالا على العربي واستغلالا، فهم يحاصرون العربي بالقروض الربوية ثم يسلبونه أرضه وماشيته ودوابه، وممارساتهم الجشعة تجعلهم يستغفلون العربي دون غيره لأنه صاحب هوى ينفق على ملذاته دون تفكير في العواقب «اليهودي سيد الجنوب كله، إذ لا يوجد عربي غير مدين له، لأن العربي لا يحب تسديد ديونه، ويفضل تجديد سند بفائدة..».

صلاة المسلمين

وانبهر «موباسان» بمظهر المسلمين وهم يؤدون الصلاة في المسجد، إنها العبادة التي وقف أمامها، وقارن بينها وبين صلاة المسيحيين في أكثر من مناسبة، وفضلها على ما عندهم لما تحققه من سكينة وتبعثه من راحة، يقول: «استطعت أن أحضر المراسم الدينية التي كانت في مفتتح شهر رمضان في المسجد الكبير بالجزائر العاصمة، كان البناء بسيطا جدا، جدرانه بيضاء مطلية بالجير، وأرضيته مغطاة بالسجاد السميك. يدخل العرب إلى المسجد نشطين، حافيي الأقدام يحملون أحذيتهم في أيديهم، يصطفون في صفوف طويلة منتظمة، متباعدة فيما بينها، ومستقيمة أكثر من استقامة صفوف الجنود في التدريب...ثم يظلون واقفين بلا حراك كالتماثيل، ووجوههم متوجهة صوب مصلى صغير يشير إلى جهة مكة.

يبدأ الإمام (المفتي) بالصلاة، كان صوته هادئا ومتأوها، ورتيبا، نوع من الغناء الحزين الذي لا يمكن أن تنساه ولو سمعته مرة واحدة، وكثيرا ما يتغير إيقاع الصوت، وهنا ينزل الحضور ساجدين بحركة إيقاعية واحدة صامتة وسريعة، فيضعون جباههم على الأرض ويظلون ساجدين لمدة ثوانٍ، ثم يقومون دون أن يسمع لهم صوت، ودون أن يحتجب ولو لثانية هذا الإنشاد المتهدج، وهكذا، ودون توقف، يظل الحاضرون يسجدون ويقومون في سرعة وانتظام وهدوء منقطعي النظير».

قاد جلال الموقف وهيبته الكاتب إلى المقارنة بين صلاة العرب كما يقول وصلاة المسيحيين: «لا نسمع هنا في الداخل، صخب الكراسي، وأصوات السعال والهمس الذي نسمعه في الكنائس الكاثوليكية، نحس أنّ إيمانا قويا يهيمن على هؤلاء الناس ويملؤهم، ويجعلهم ينحنون ويقومون كالدمى المتحركة، إنه إيمان طاغٍ يكتسح الأجساد ويقيد الوجوه، وينعش القلوب، ينتابك إحساس غامر بالاحترام المشوب بالشفقة على هؤلاء المتعصبين الهزيلين الذين لا يملكون بطنا يعيق سجودهم، والذين يقومون بواجباتهم الدينية بالآلية والاستقامة التي يكون عليها الجنود البروسيون في مناوراتهم ».

ولا يكتفي «دوموباسان» بوصف إحساسه المنبهر بهذه العبادة، بل إنه يتعدى إلى الإشادة بالمعاني السامية لوظيفة المسجد ومكانته على الرغم من بساطة المكان والبناء ومقارنته بحال الكنيسة عنده: «ليس المسجد للصلاة فحسب، بل مكان للراحة أيضا، حيث يقيمون وربما يمكثون أياما، كل شيء بسيط وعاديّ، كل شيء أبيض ومريح، كل شيء هادئ داخل هذه الملاجئ، ملاجئ الإيمان المختلفة تماما عن كنائسنا المزينة المثيرة التي عندما تكون مليئة، تصدح بأجيح القداس، وحركة الحاضرين وأبهة الاحتفالات والأغاني المقدسة، وتصبح حزينة مؤلمة، إلى درجة تصيب القلب بالكآبة عندما تكون خاوية كأنها غرفة شخص يحتضر، غرفة باردة من الحجر الذي مازال المصلوب يحتضر فوقه».

وغاية ما توصلنا إليه من خلال مواقف «دوموباسان» من الدين أنّ الخطاب التهكمي الساخر لم يشمل الصلاة، ولم ينسحب على الصيام بوصفه شعيرة أثبت العرب «المسلمون التزامهم بهما، ولاحظ عن قرب القوة النفسية والروحية التي يستلهمانها منهما (النظام، الهدوء، الصبر، البساطة، الثقة...)، بل إنّ مردّ تلك السخرية هو الفهم الخاطئ أحيانا لدى بعض العامة. وهكذا بدأ «موباسان»رحلته صحفيا مغامرا يحاول أن يتجرد من الأحكام السابقة، ويتزيا بأردية الموضوعية والحياد، وأديبا مسكونا برغبة ملحة في معرفة المجهول، وتجريب الحياة، ثم انتهى باحثا في الأعراق أوربيا صميما، وكولونياليا فرنسيا ذا نزعة توسعية ورؤية مركزية متعالية، وثيولوجيا مسيحيا حانقا على رتابة الطقوس الدينية المسيحية وخوائها مما يصيّرها حية،مقارنا بينها وبين بساطة روح هذا الإسلام ونقاء جوهره: «الدين أكبر ملهم في تصرفاتهم وأرواحهم ومحاسنهم ومساوئهم، فبالدين نجدهم طيبين، شجعانا، حنونين، ومخلصين، ولا يمثلون في حد ذاتهم شيئا لو لم يلهموا أو يؤمروا بإيمانهم... لم تتجسد ديانة بهذا الشكل في الناس كما فعل الإسلام». وبعد هذا كله، أليس من حقنا أن نسأل: إلى أي مدى يمكن أن يكون «موباسان» محقا فيما ذهب إليه سلبا وإيجابا؟.
---------------------------------
* جامعية وباحثة من الجزائر.

 

سليمة لوكام*