بعد أن فاتنا الكثير: العرب وأزمة البحث العلمي فاروق الباز

بعد أن فاتنا الكثير: العرب وأزمة البحث العلمي

يتطور العالم من خلال ازدياد العلم والمعرفة والإنتاج التكنولوجي, الذي يسهل حياة الإنسان ويدعم التعليم والصحة والحفاظ على البيئة, وحتى الآن لم يشارك العالم العربي مشاركة فعالة في مسيرة الحضارة الحديثة لأسباب كثيرة. لذلك يلزمنا أن ندرس الواقع ونتمعن في أسبابه لكي نخطط لأخذ ما يلزم من خطوات تؤهل المسيرة الصحيحة لخلق مستقبل أفضل.

يتفشى في العالم العربي التواكل أي الاعتماد على الغير في كل شيء, وخلق أسباب واهية لشرح الواقع المر في صورة وردية, وعدم الشعور بالمسئولية, لدرجة إلقاء اللوم على الآخرين في أمورنا.

لذلك يلزمنا أن نناقش الواقع للتعرف على أسباب التأخر والتعامل مع الحاضر, مع التفكير في وسائل تصحيح المسار ثم القيام بالمبادرات التي تؤهل للوصول إلى الغرض المنشود.

ويستلزم هذا أن يكون حديثنا صريحا وأهدافنا محددة واضحة. هذه في نظري هي إحدى المهام الرئيسية للعلماء والمفكرين العرب في هذا الوقت بالذات.

ويشهد التاريخ أننا أضعنا الكثير من الفرص للمشاركة في النشاط الحضاري المعاصر والأحداث المهمة التي توالت دون مشاركتنا, فمثلا:

  • فاتنا عصر الصناعة ولم نشارك في الثورة الصناعية التي غيرت معالم بلدان كثيرة وبقينا نستورد كل ما نحتاج إليه من دول بعضها أقل منا تعدادا ومكانة ومقدرة.
  • وفاتنا عصر الذرة الذي شاركت فيه أمم لا تزيد عنا علما أو خبرة وبقينا مبهورين بما يقوم بعمله الغير في هذا المجال العلمي المهم, مع أننا في مصر مثلا بدأنا العمل في هذا الميدان في العام نفسه مع الهند!
  • وفاتنا عصر الفضاء لأن أولي الأمر منا اعتقدوا أن العمل في هذا المجال ترف للدول الغنية وبقينا كالمتفرج الذي لا يعي قوانين اللعبة.
  • واليوم يقفز عصر المعلومات بخطى فائقة السرعة, ومعظمنا ينظر ولا يرى, وبقينا في مؤخرة العالم أجمع من ناحية الإنتاجية في هذا المجال الحيوي.

ليس هناك شك في أن الأوضاع السياسية في العالم عامة - وفي منطقة الشرق الأوسط خاصة - قد حالت دون الوصول إلى ما نبتغيه من تقدم وازدهار. كذلك فإن هذه الأوضاع قد عرقلت صرف الأموال العامة في الميادين التي تدعم النمو الاقتصادي والمشاركة في بناء الحضارة الحديثة بما في ذلك التعليم والبحث العلمي. في مثل هذا المناخ يقل الاجتهاد العلمي والتكنولوجي ويندر التميز في أي من فروع العلم والمعرفة. نتج عن هذا الوضع أن أحلام الوحدة العربية قد تبخرت, وآمال التكامل الاقتصادي تناثرت, وباتت الدول العربية تسعى إلى من يحميها من خطر مبهم.

الأدهى من ذلك هو أن الدول العربية ليس لها قوام بين التكتلات الدولية لا سياسيًا ولا تجاريًا وباتت دون أثر ملموس على مسار الحضارة المعاصرة. مع ذلك هناك أمثلة تدل على أن العرب في مقدورهم التميز في التخطيط والعمل المجدي كما تم في الأردن وإمارة دبي.

يوضح ذلك أن وضع الإنتاج التقني في العالم العربي مزرٍ للغاية. سكوت أهل الفكر على ذلك ليس بفضيلة, ولكنه رذيلة. لا يصح أن يدور ما يدور من حولنا ولا نأبه, إذا اتضح الأمر لنا كان لزاما علينا أن نحاول تصحيح المسار قدر ما أمكننا, وخاصة لوجود ما يثبت أن في استطاعتنا عمل المستحيل في وقت قياسي.

أقدمت بعض الدول العربية على الخوض في مشاريع تكنولوجيا المعلومات مثل الحكومة الإلكترونية و(التجارة الإلكترونية) وأثبتت قدرة فائقة عندما وجدت الرؤية والريادة والإدارة الحسنة والخبرات المطلوبة.

القيادة والريادة

ضعف القيادة وغياب الريادة هما من أسوأ صفات العالم العربي في الوقت الحالي. ولا بد من إصلاح ذلك حتى نتبوأ مكانا مرموقا بين التكتلات الدولية الأخرى وخاصة في هذا العصر الذي يعتمد على النفط والغاز في إنتاج الطاقة عالميا, وهذا شيء يمكن أن يتغير مستقبلا.

أخذ ما يلزم من خطوات في هذا المجال يتطلب ليس فقط الاهتمام بالأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى ولكن يلزمه أيضا عدم التلكؤ في الاستجابة لمتطلبات الوقت الحاضر.

قيادة المسيرة في هذا المجال تتطلب بعد الرؤية والفكر الثاقب, إضافة إلى الشجاعة الأدبية وتحمل المسئولية, وتكريس العمل في طريق مستقيم, غرضه أولا وأخيرا المصلحة العامة. معنى هذا العمل على خلق إدارة رشيدة لتقود المسيرة.

ويتطلب التقدم التكنولوجي الإيمان بالتغيير والمبادرة بالتجديد وخلق المناخ الذي يحث على الإبداع ومكافأة المبدعين. يكثر في العالم العربي اختيار (أهل الثقة) وتخطي (أهل الكفاءة) في المناصب الإدارية العليا. لذلك تكثر البلادة وسوء معاملة العاملين. كم منا يرى مديرًا لمصنع أو مؤسسة يقبع في مكتبه بعيدًا كل البعد عن العمل الحقيقي فلا يسمع آراء العاملين ولا يحاول تجديد أو تحسين أي شيء. هذا المدير يعتبر عالة تسيء إلى المؤسسة بدلا من زجها إلى الرقي والازدهار.

تقوم بعض الدول العربية حاليا بإصلاح بعض ما أفسده الدهر, وفتح الباب للقطاع الخاص لكي يترعرع, وبالتالي تعد إحدى الخطوات في الطريق الصحيح. ويسعدني كثيرًا أن المملكة الأردنية الهاشمية كانت سباقة في هذا المجال وقامت بإصلاحات تستحق التقدير والاحترام.

التعليم ودعم دور المرأة

اتسعت آفاق التعليم اتساعًا مرموقًا خلال العقود القليلة الماضية, لكن لازدياد أعداد الطلبة وقلة المعدات المطلوبة فإن مستوى التعليم قد تدهور كثيرًا. حتى في دول الخليج التي تتميز بأن مستوى التعليم العالي فيها أحسن منه في باقي الدول العربية, يفضل أصحاب العمل تعيين عمالة أجنبية من دول شرق آسيا عن خريجي الجامعات المحلية!

نتج عن فتح باب الجامعات الخاصة بعض التحسن وخاصة في الدراسات العليا أو التدريب المهني في أمور الإدارة وتكنولوجيا المعلومات. على سبيل المثال أنشئ في إمارة الشارقة الكثير من الكليات والجامعات في هذا المجال, وخاصة لتعليم البنات. من يتخرج في هذه المؤسسات يجد عملاً مناسبًا يساهم في حركة الاقتصاد الوطني وفتح آفاق جديدة للمستقبل.

نتج عن التأخر في تعليم المرأة في كثير من الدول العربية قلة مشاركتها في عملية الإنتاج, ولايمكن لأي مجموعة من الناس أن تزدهر بنشاط نصف عددها,

لذلك يجب تشجيع المرأة العربية على التعليم والدراسة في جميع فروع العلم والهندسة والطب والتكنولوجيا لكي تتمكن من إثبات ذاتها في المجال الإنتاجي.

استطاعت المرأة العربية إثبات ذاتها كلما سمحت لها الظروف, وبخاصة في مجالات الثقافة والفنون والتربية التي تمكنت من خوضها في الماضي. والمرأة العربية التي سمحت لها الظروف أن تتخصص في العلوم أو الهندسة أو الطب أثبتت أن قدراتها لا تقل عن نظيراتها في الخارج, بل على العكس فقد تميزت عن نظيراتها في الغرب والشرق.

لهذه الأسباب يجب العمل الدءوب على إعطاء المرأة العربية فرصة كاملة لإثبات ذاتها بالمشاركة في الإنتاج التقني في كل صوره, دون قيود أو عوائق. كما يجب أيضا تشجيع من تتميز منهن في الإبداع الإنتاجي وتكريمهن لإثراء النهضة في الوطن العربي.

آفاق البحث العلمي

يتساءل عامة الناس عن وضعنا بالنسبة للعالم من ناحية الإنتاج التقني. في حقيقة الأمر أحد الأسباب الأساسية لتخلفنا هذا هو عدم توافر دعم الأبحاث العلمية على جميع المستويات وفي كل الدول العربية. الدعم المطلوب تحتاج إليه البنية التحتية للبحث العلمي أي المعامل والمصانع, إضافة إلى المواد والأجهزة التي يحتاج إليها العلماء والمهندسون ومساعدوهم.

يجب هنا أن نذكر أن الحضارة الإسلامية العربية ترعرعت في مناخ يعم فيه احترام العلم وتشجيع العلماء, حيث ازدهرت المعرفة كلما وأينما اهتم أولو الأمر بالبحث في خصائص الأمور ونشر العلم على الملأ. بدأ أجدادنا بترجمة كل ما وجدوه من كتابات علمية, ثم أضافوا إلى هذا رويدا رويدا حتى بنوا صرحًا علميًا في العلوم البحتة والهندسة والإعمار والطب والأحياء والفلك وما إليها.

ينقسم الاجتهاد العلمي إلى أبحاث بحتة وأخرى تطبيقية. الأبحاث البحتة تنظر في المواد والمظاهر الطبيعية للتعرف على خصائصها. نتائج هذه الأبحاث بعيدة المدى حيث يستدعي بعضها عشرات السنوات. أما الأبحاث التطبيقية فتركز على تحسين خصائص المواد والثروات الطبيعية والمصنوعات والآلات التي يستخدمها الإنسان. تتم معظم الدراسات التطبيقية بناء على طلب من المستفيد من نتائجها, ولذلك فهي على وجه العموم قصيرة المدى, حيث تستدعي من عدة شهور إلى عدة سنوات.

تدعم الحكومات في معظم الدول المتقدمة الأبحاث البحتة, والتي تتطلب المدى الطويل. أما الأبحاث التطبيقية فيدعمها القطاع الخاص بقيمة تزيد على ضعف ما تخصصه الحكومات في بعض الحالات.

يختلف الوضع في العالم العربي, لأن القطاع الخاص لا يدعم الأبحاث العلمية محليا لأنه يعتمد أساسًا على نتائج الأبحاث خارج العالم العربي. في الوقت نفسه, الميزانيات التي تحددها الحكومات للبحث العلمي تقل عن نصف في المائة من الدخل العام. أما في الدول المتقدمة فتصرف الحكومات أكثر من 2% من ميزانياتها على الأبحاث.

هذا الفارق يشرح سبب تأخر العالم العربي في مجال البحث العلمي, وذلك لا يسمح بالمشاركة فيما يجري في العالم من اختراع وإنتاج ما يستخدمه الناس. يلزم لتغيير الوضع الحالي إيجاد وسيلة لدعم البحث العلمي, إلى أن يأتي اليوم الذي تضاعف فيه الحكومات ميزانيات الأبحاث, والتي يلعب فيها القطاع الخاص دورًا متميزًا في دعم البحوث التطبيقية مستقبلا.

لا بد إذن من خلق وسيلة لسد الفراغ ودعم البحوث التطبيقية, التي تساهم في ازدهار الاقتصاد الوطني وازدياد فرص العمل للجيل الصاعد وإنتاج ما فيه منفعة للناس.

في حقيقة الأمر, ليس هناك حدود للنفع العام من البحوث التطبيقية, فمنها ما يسعى إلى تحسين الإنتاج الزراعي للغذاء والملبس, ومنها ما يؤدي إلى تحسين إنتاج المصانع أو اختراع ما يسهل عمل الإنسان. منها كذلك ما يسهل نقل المنتجات أو تصديرها, ومنها ما يسهم في الحد من استخدام الطاقة في المزرعة والمصنع والبيت. منها أيضًا ما يسعى إلى تحسين مواد البناء أو إعداد البرامج الجديدة التي تتحكم في الكمبيوتر ومشتقات التكنولوجيا الأخرى, وكذلك ما يساهم في تحسين بيئة معيشة الإنسان.

لكل هذه الأسباب يجب التركيز على الأبحاث العلمية التطبيقية, حيث إن نتائجها ملموسة للمواطن العادي, وتصب مباشرة في طريق يؤدي إلى ازدهار الاقتصاد الوطني.

 

فاروق الباز