النهر يعود إلى المنبع شوقي بغدادي

النهر يعود إلى المنبع

إلى مدرستي القديمة وقد زرتُها متأخرًا على غير ميعاد....

أَلا حبَّذا عودةُ المكتبِ وعَوْدُ المِراح إلى الملعبِ
ويا حبّذا أن يغور الرمادُ وإنْ لم يَكُ الوهجُ بالملهبِ
ويا نِعم أن يتجمّع غَيْمٌ ونشهقَ في برقِهِ الخلبِ
ويجمعنا جَرَسٌ آفِلٌ فنُشرقَ في عتمةِ المغربِ
بلى قد يعود الشبابُ ولكنْ كرجع الصدى في المدى الأرحبِ
كقطرةِ ماءٍ على صخرةٍ تضيعُ على سطحِها المجدبِ
تذكّرْ...هُنا رجل من حديدٍ يهزّ عصاهُ, ولم يضربِ
وآخرُ غصنٌ ونحن البراعِـ ـمُ تنمو على عوده الطيّبِ
وآخَرُ ينفضُ عنها الغبارَ رجوعًا إلى عهدنا المُذْهَب
يصفّى البيان ويجلو اللسان وآخرُ مزمارُهُ أجنبي
فمِنْ لغةٍ في مسيلِ الدماءِ إلى لغةٍ في الفم الأرطبِ
ومِن مَنْهلين عَبَرْنا إلى ثا لثٍ عامرِ المحتوى أعذبِ
ومِنْ عُمُرٍ ساذجٍ طيّبٍ إلى عُمْرٍ نابهٍ أطيبِ
تَذَكّر خنادِقَ للاجئينَ من الحربِ في الملعبِ المُتْرب
وركض الرّفاق وراءك فيهِ وقفزِك من فوقها كالظّبي
تذكّر سقوطك والجرحَ حتى كأنّك حربٌ على محرب
وأشجارَ توتٍ تفيء إليها وترتاح في ظِلّها المعشبِ
تذكّر....تذكّرْ...وضُمَّ إليكَ فتائت عمرٍ خَليّ أبي
فما صرتَ أهنا ولابِتّ أقوى فجُلَّ حقولِك لم تُخْصِبِ
وبعضُ جناكَ فتات الكروم وخير أغانيك لم يُكتبِ
فكم همتَ وجدًا, ولم ترغبِ وكم نِلْت وصلاً ولم تطلبِ
وكم باركوك, ولم تُنجبِ وكم عاقبوك ولم تُذنبِ
وظلَّ البعيدُ بعيدًا تراهُ فلم يتبدّدْ ولم يَقْرُبِ
ومازلتَ تسعى وتوهم نفسَكَ أنّك حُرّ بما تجتبي
ألا حبّذا عودةُ النهر للنبـ ـع ظمآنَ للشُّرْبِ والمَشْربِ
يؤوبُ الرفاقُ على ضفّتيهِ خِفَافَ الأواني, ويمضون بي
سوى أنّ ذاك الصبيّ القديم يعودُ وليس بذاك الصبي
يُحاولُ ما لا يُنالُ, وما لا يُقالُ, وما ليس بالمُطربِ
فيشرَبُ مِن غير نبع ويسـ قي فإنْ غيّرَ النبعُ لم يشربِ
وكان كثيرًا, فصارَ قليلاً ولكّنّهُ ظلَّ في المركبِ
فأمعنَ في اليَمّ لا للوصولِ ولا للرسوّ على أصلبِ
ولكنْ ليخلو إلى نفسِهِ فيجلو عن النّور في الغَيْهب
عن الصّدقِ في دمعة تشتهي الظهورَ فتُؤْمَرُ أنْ تختبي
عن الطهر في لعبةٍ لم يُرَخَّص لها, فاستكانت, فلم تُلعبِ
وعن قطرة كالندى لم تنَلْ رضا الأولياء, فلم تُسْكَبِ
وعن صوتِهِ الداخليّ يصيرُ كلِصٍّ يُفَتّشُ عن مهربِ
فَإنْ عدتُ, هل عائدٌ ملعبي وإن سرتُ هل سائر موكبي?
وإنْ لم أعُدْ فإلى أين أمضي وجيش الطواحين يُحدقُّ بي?
وليس معي غيرُ رمحٍ عتيقٍ وقِربة ماءٍ, ودعوى نبي
وليس ورائي سوى تابعٍ يهوّمُ فوق حمارٍ غبي
وداعًا....فلن نلتقي بعدها سنغربُ نحن ولن تغربي
ستبقين كالأمّ درّتْ حنانًا وتبقين صارمةً كالأبِ
فإن تجدي جيلنا خائبا ونحن بنوكِ فلا تغضبي
تعبنا من الظلم حتى اكتوينا قرونًا ثقالاً, فلا تعتبي
وحين ورثنا, ورثنا الخرابَ وكلُّ المخافة أنْ تخربي
فإنْ عدتُ للنبع فالنهر مضنى يجفُّ, ويرقُدُ في الطحلبِ
فإن عكّروهُ فلا تقنطي وإن أرهقوه فلا تتعبي
وما الشّعر بعدُ إذا لم يكنْ وفاءً, وسَعيًا إلى الأصعبِ
حملتُ على مَنكبيِ ما حملتُ فهلاّ تخّففتَ يا منكبي
سأقطفُ تفّاحتي, وأمُدّ يديّ بها, فكلي, واشربي
فليس سواها لديَّ وليس سوى جَرسٍ واحِدٍ, فاضرِبي...!


 

شوقي بغدادي