الترجمة وجنايتها على الشعر محمد علي شمس الدين

الترجمة وجنايتها على الشعر

ماذا يبقى من الشيرازي?

الشيرازي أكثر من شاعر. إنه معلم وحكيم. يستحوذ على النفوس استحواذا محكمًا وجميلاً ويدخل إلى زاوية المهيمن عندهم.

خلال زيارتي لإيران, منذ خمس سنوات خلت, بدعوة من وزارة ثقافتها, لفت انتباهي ظاهرة ثقافية تتمثل بالهيمنة الكلية لشاعرهم العرفاني الأكبر حافظ الشيرازي (شمس الدين محمد) على المزاج الثقافي الرسمي والشعبي للإيرانيين, على الرغم من مرور ستة قرون ونيّف على وفاته, ودفنه في شيراز مسقط رأسه الذي نادرا ما غادره. هو الذي ولد في أواسط النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد/ النصف الأوّل من القرن السادس للهجرة, ومات في العام 1389 للميلاد/ 792 للهجرة.

لقد ترك الشيرازي, دمغته على أشعار جميع من جاءوا بعده من الشعراء الإيرانيين حتى اليوم... فضلاً عن تأثيره على شعراء عالميين معروفين, مثل الشاعر الألماني جوته الذي أهداه قصيدة في ديوانه (الشرقي الغربي) باسم (حافظ الشيرازي) والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو, وتأثر به شعراء الرومانسية الصوفية الألمان, من أمثال نوفاليس وهلدرلن وشيلر, الذين اشتعلت في أشعارهم روح الغيب بروح الطبيعة والمرأة, فتمّت في أشعارهم مواءمة بين المرأة والليل والغابة في إهاب ميتافيزيقي سُداه ولحمته الحبّ.

في الشعريّة العربية الحديثة, ثم بصمات من أشعار حافظ الشيرازي على بعض أشعار عبدالوهّاب البياتي. كما لا أخفي شخصيّا تغلغل هذا اللطف الشيرازي إلى نفسي, من خلال ما قمت به من تعريب لغزلياته. ممّا لاحظتُ أيضًا, خلال تجوالي في شوارع شيراز, برفقة مرافقي من الحرس الثوري أحمد درويشفند, وفاجأني, عرضُ كرّاس شعري صغير, بعشرين صفحة من القطع الوسط, ليُباع على أرصفة الشوارع وفي أكشاك الباعة, بعنوان (سبوي عشق)... وهو كرّاس شعري كتبه الإمام الراحل الخميني, ومطروح ليباع لعموم الناس.

لفتني بعد أن اشتريته وقرأته, شدّة تأثره, لحدّ المحاكاة, بأشعار حافظ الشيرازي.. هذا الذي سمّاهُ شاعرهم الرودكي: (لسان الغيب وحافظ الأسرار).

التفت إلي أحمد درويشفند, وهو شاب عالي الثقافة والمعرفة اللغوية والأدبية, باللغتين الفارسية والعربيّة معًا, لأسأله عن أسباب ما رأيت أنّ اسميه (الهيمنة) أو (الاستحواذ) لحافظ الشيرازي على الثقافة الفارسيّة الإسلاميّة, بكل مراحلها التاريخية, ومستوياتها الشعبيّة والرسميّة, فأجابني مبتسمًا (هو الذي كان يحفظ أشعار حافظ عن ظهر قلب), ببيت من شعر حافظ. قال:

(بوسعي رؤية قلبك داخل صدرك الشفّاف
مثل زمرّدة تنبض في الماء).

الوجه والصورة

كان أثمن ما حملته في حقائبي, حين عدتُ من تلك البلاد إلى بيروت, طبعات متنوّعة من ديوان حافظ الشيرازي. وعكفت عليه, لخمس سنوات تالية, قراءة وفهمًا وتأويلاً ومقارنة, فقد أضفت لأشعاره بالفارسية, ما قام به عدد من الشعراء والدارسين والمترجمين العرب لهذه الأشعار, بعضها أو جميعها.. لأرى صورته في الثقافة العربيّة, كيف هي وأين? وقد قمت شخصيّا بتعريب خمس وسبعين غزليّة من غزلياته, علمًا بأن جميع أشعاره هي غزل, بهذه التسمية دون سواها علمًا بأنّ فنّ (الغزل) في الفارسية, هو تقنية وعدد أبيات وموضوعة, لا كما هو عليه في العربية, أي هو نوع شعري خاص, يمتاز بعدد محدود من الأبيات لكل قطعة بين السبعة والاثنى عشر بيتًا, ويدور حول العشق ومجازاته, وتنتهي كل قطعة بما يُسمى (التخلص) أي بذكر الشاعر لاسمه في آخر بيت من القصيدة. ففي آخر كل غزل لحافظ ذكر اسمه.

وأخرجتُ هذه القصائد المعرّبة لحافظ, العام الفائت 2003, في الاحتفالية العالمية التي أقيمت له, وأشرفت عليها منظمة الأونسكو التابعة للأمم المتحدة, إذ اعتبرت العام المذكور, عامًا لحافظ الشيرازي.

لا تفوت أحدًا ملاحظتان حول أشعار حافظ, الأولى تتعلق بجوهر هذا الشعر, والثانية تتعلق بالتوقيت التاريخي (في هذه الأيام) لاستعادة أشعاره على امتداد اللغات الحية, حيث فكّ العولمة, يطحن عظام الإسلام والمسلمين بحجة (الإرهاب). هنا إذن, مباشرة وبلا مواربة, نجد أنفسنا مسلحين بأشعار حافظ الشيرازي, الشاعر الإسلامي العظيم, والتي لاتزال تفعل فعلها من حوالي ستمائة عام خلت, حتى اليوم. لقد كتب الرجل أشعاره الرقيقة في الحب والعرفانية, في زمن وحشيّة التتار والمغول وزحفهم الكاسح على العالم الإسلامي المعروف يومذاك. فكان ترجمان الضمير الإسلامي العميق اللطيف الشمولي الذي لا يميّز بين الشعوب والأعراق والألوان والقبائل, إلا بالتقوى, والتقوى حبّ وإيمان. وكما بالأمس, كذلك اليوم, فحافظ الشيرازي حاضر وواجب الحضور إسلاميًا, في مواجهة التتريّة المعاصرة المتمثلة بالوجه البشع للثقافة الأمريكية - الصهيونية, وما تمارسه على الإسلام والمسلمين في العالم بكامله, من قهر واحتلال وإرهاب فالإسلام اليوم متهم بالإرهاب, في حين أنه, ومن خلال أشعار حافظ, وجلال الدين الرومي, والعطار النيسابوري, وجبران خليل جبران هو الحب الإنساني الشامل والحريّة... هذه هي الملاحظة الأخرى.

أما الملاحظة الأولى والتي تدور حول جوهر غزل حافظ وينابيعه وآفاقه. ينبع الشعر, بالنسبة لحافظ من موطن الأسرار, القلب. وهو شعر عشق وحكمة ووحدة وحريّة. وللحكمة هنا معنى يتجاوز أحكام العقل وترتيباته.

هناك إذن ما يمكن تسميته بموطن الأسرار في العالم في القلب البشري.

في موضع الأسرار: الحب, العمق, الشمولية, كما هي التناقضات وانصهارها بالحب...والوحدة هنا, ليس فيها أبيض وأسود أو أصفر, عربي وأعجمي, غني وفقير, قوي وضعيف, مقدّس ومدنّس, فليس ثمة إلا وحدة الوجود والموجد والموجود, والألوهة الواحدة تتغلغل في الوجود الواحد على اختلاف مظاهره, تبعا للآية الكريمة {فأينما تولوّا فثمّ وجه الله} ولا ننس أيضًا بصمات المكان الخاص للهضبة الإيرانية وبصمات التاريخ الفارسي الساساني, على أشعار حافظ, فقد انعكست طبيعة الهضبة الإيرانية بجمالها واعتدالها ووردها وبلابلها وحسناواتها, وانعكست طبيعة شيراز الغناء بالذات, على أشعار حافظ. واشتباك الأماكن والتواريخ والرموز, سمة من سمات هذا الشعر: فهو شعر معان ومفردات إسلامية وقرآنية في الجوهر حيث ترد عبارات العبادة والتوحيد والصلاة والزكاة والصيام والطواف والزهد والإنابة والرسول والآل والصحابة, فضلاً عن الرموز المستلة من القصص القرآني كقصّة يوسف وسليمان وموسى وعيسى ومحمّد وحكايات الأنبياء والمرسلين, والطور وسيناء وما إلى ذلك. إلا أنّ هذا الشعر, في الوقت نفسه, هو شعر المكان الفارسي والتاريخ الفارسي واللغة الفارسية بامتياز. فقد داخلته رموز فارسية تاريخية من العهد الساساني , فوردت أسماء جمشيد وتخته الشهير كما يرد ذكر المجوس وشيخ المجوس ونارهم وأسماء العشّاق الفرس التاريخيين, مثل شيرين وفرهاد على غرار ليلى والمجنون, فضلا عن ضخامة هذا التاريخ السابق على الإسلام.

من هذه الجبلة, جبل شعر حافظ الشيرازي طينته المركّبة اللطيفة, التي تجللها الروح العرفانية في الإسلام, ولا تغيب عنها روح الأديان والمعتقدات المعروفة في التاريخ وعند جميع الشعوب على اختلافها وتباينها.

الترجمة والتعريب

قام كثيرون, في العربيّة القريبة والمعاصرة, بترجمة مقطعات من غزل حافظ الشيرازي إلى العربيّة, وهذه الترجمات كانت إما شاملة لجميع ديوان حافظ, على غرار ما فعله الدكتور إبراهيم أمين الشواربي, من خلال ترجمته المبكّرة لغزل حافظ, فهي تعود للعام 1944, حين كان الشواربي لايزال طالبًا جامعيًا, وصدرت في القاهرة, مع مقدّمة لطيفة للدكتور طه حسين مؤرّخة في 12 فبراير 1944.

وترجمة الشواربي شاملة, ومشغولة بدأب وذكاء, ومتنوعة لجهة الصياغة بحيث وردت تارة منثورة, وطورًا منظومة, وربما وردت المقطوعة نفسها منثورة ومنظومة بترجمتين متتاليتين, لتظهر الفروق في صنيع المترجم, وهو, بالإضافة إلى مقدمته الطويلة الموثقة حول الشاعر وغزلياته, ظهر شديد الأمانة للأصل باللغة الفارسيّة. وهي أفضل ترجمات حافظ العربيّة التي بين أيدينا على كل حال.

ثمة ترجمات أخرى لحافظ الشيرازي للعربية, مجزوءة, ظهرت بعد ترجمة الشواربي منها (ديوان العشق) الذي نقله إلى العربية صلاح الصاوي, وظهر في طبعته الأولى في شتاء 1989 عن مركز النشر الثقافي (رجاء) في طهران. إن أهم ما في هذه الترجمة مقدماتها, نخصّ بالذكر تقديم الدكتور محمد حسين مشايخ فريدني, سفير إيران السابق في كل من باكستان وبنجلاديش وسيريلانكا, وعمل مستشارا لها في الهند, فهو تقديم شامل ومقارنة يظهر صورة حافظ الشعريّة في مرآة اللغة الألمانية واللغة الفرنسية واللغة الهنديّة, فضلا عن العربية, فإذا وصلنا إلى مقدمة المترجم نفسه صلاح الصاوي المسبوقة بفصل سمّاه (هؤلاء قالوا) وهو فصل تقريظ من أدباء وشعراء لصنيعه, لوجدناها مقدّمة مسهبة وعميقة في التحليل والمقارنة, ومستقصية بذكاء ودربة ورهافة مميّزة, لمعاني حافظ وإشعاعها في النفوس, لكنّ الكارثة تأتي حين يقوم الصاوي نفسه بترجمة ثلاثين نصّا لحافظ الشيرازي إلى العربيّة يثبت, في صفحة النصّ الأصلي للشاعر بالفارسية, وفي الصفحة المقابلة ترجمته العربية المنظومة للنصّ. نقول كارثة الترجمة ولا نبالغ. فكل ما يمكن أن تكسبه النفس القارئة من حب لحافظ وشغف بمعانيه, من خلال التقديم والمقدمة التحليلية الطويلة, يضيع فجأة ويتبدّد عند قراءتنا للقصائد المترجمة, بل لعل القارئ الذي لا يعرف الفارسية, يصاب بالعدائية تجاه حافظ, والنفور من شعره, لا نبالغ, نقرأ على سبيل المثال, الترجمة التالية, ونلاحظ عليها التعنّت اللفظي, وفساد الذوق الشعري, والمعاظلة الوزنية, وهي القصيدة (30).

ومطلعها بالفارسيّة:

(زلفت هزار دل بيكي تارة موبست
راه هزار جاره كراز جار سو ببست
تا عاشقان ببوى نسيمش دهندجان
بكشود نافة ودر آرزو ببست)

ونقرأ ترجمة الصاوي لهذين البيتين, لنلاحظ ما سبقت الإشارة إليه من سقم:

(لفرعك ألف قلب عقد وتر منه قيّدها
وأربعها على ألف من الشطار أوصدها
ليفدى نشره العشاق بالأرواح فتّحَ...
نافة ضاعَتْ, وسدّ على مُنى الأرواح موردَها...)

ومثله ترجمته للغزل (4) ومطلعه بالفارسيّة:

(صبابه لطف بكو آن غزال رعنارا
كه سر به كوه وبيابان تو داده اى مارا
شكر فروش كه عمرش درازباد جرا
تفقدي نكنند طوطى شكر خارا....)

أما الترجمة فالآتي:

(يا صبا قولي بلطف للغزال ذي الجمالْ:
أنت قد هيّمتنا بين فياف وجبالْ
بائع السُكّر مَن بورك غمرا لم لَمْ
يتفقّدْ ببغاهُ ذا الرضا بَي المقالْ)

ومثله ترجمته للغزل (16) ومطلعه بالفارسيّة:

(حُمى كه أبروى شوخ تو در كمان انداخت
به قصد خون من زار ناتوان انداخت
نبود نقش دو عالم رنكَ الفت بود
زمانه طرح محبت نه اين زمان انداخت)

والترجمة:

(العطف في السيتين حاجبك انثنى ألقاهُ
مستهدفًا روحى أنا بادى الونا ألقاهُ
ما كان للكونين نقش كان طرح محبّة
والدهر بعد الكون في قلب الدُنا ألقاهُ)

فأي ترجمة هذه التي قدمها الصاوى?

فلو انتقلنا على سبيل المقارنة إلى الترجمة التي قام بها الدكتور إبراهيم أمين الشواربي للنصّ نفسه الذي يبدأ:

(زلفت هزار دل بيكي تاره مو ببست
راه هزار جاره كرز جار سو بست)

فنجد له ترجمة لطيفة بلّورية, يقول فيها:

(قيّدتْ طرّتُكَ آلافا من القلوب في خصلة واحدة من الشعر
وسدّت الطريق من كل نواحيه على آلاف من المجتهدين والناصحين
وكيما يبذل العُشّاق أرواحهم من أجل نفحة واحدة من نسماتها
فتَّحت لهم نوافج المسك, ولكنها أغلقت دونهم أبواب الأمل).

والفرق واضح بين الترجمتين. الأولى أتعبت النصّ وآذته, والثانية حافظت على بعض ألقه. وقد قمنا شخصيّا بتعريب هذا الغزل نفسه, فأعدنا إنشاءه كما أنشئ أوّل مرّة, بل قلْ كتبناهُ عربيًا من جديد. ذلك ما سنأتي على ذكره في مجال التفريق بين الترجمة والتعريب.

كأس جمشيد

وكنتُ قد سمعت, من الدكتور فيكتور الكك أستاذ الحضارة العربيّة الإسلامية في الجامعة اللبنانية في أمسية مشتركة ضمتنا في الأونسكو في بيروت حول حافظ الشيرازي, قصيدة قام بترجمتها لحافظ بعنوان (كأس جمشيد), وكنت قد قمت بتعريبها بعنوان (جام جَمْ) أي جام جمشيد, ثُمَّ نشرها الدكتور الكك في مجلة (العربي) العدد 543 فبراير 2004, في نهاية تعريف نقدي مختصر له بحافظ الشيرازي, وقد وجدت من المفيد إدراج القصيدة نفسها, هنا, في ثلاث صيغ عربية, هي صيغة الدكتور إبراهيم أمين الشواربي وترجمة الدكتور فيكتور الكك, والصيغة العربية التي كتبتها للنصّ عينه, وعليه أبني ملاحظاتي في الفرق بين الترجمة والتعريب, والسؤال حول إمكان ترجمة الشعر, المقاربة للخيانة والإستحالة, على ما يقول الفرنسيون traduir cest trahiri: أن تترجم هو أن تخون, وهو ما يلتقي فيه الفرنسيون مع الملاحظة التي كان أوردها أبو عثمان الجاحظ حول أن الشعر لا يمكن أن يترجم, مستدركًا هذه الفكرة بقوله: إلا بما يوازيه أو يماثله. فالاستحالة الجاحظية لترجمة الشعر ليست مطلقة, بل هي مقيّدة بشعر آخر يمثل ما يوازي (على الأقلّ) النصّ المترجَم, وهو على وجه الدقة ما يمكن أن يفهم من التناص textualite أي إنشاء وإبداع نصّ من نصّ أو نصّ على نصّ, وهو ما قمنا به في تعريبنا لحافظ, فقد أنشأنا قصائد عربيّة تأسيسًا على نصوص حافظ الفارسيّة, مع الحفاظ على روح الشعر.

وهنا نموذج مقارن نورد فيه الأصل الفارسي, لقصيدة (جام جَمْ) - والتسمية من عندنا فالأصل تسمية غزل - ومن ثمّ ترجمة الشواربي, من بعدها ترجمة الكك, ثم صيغتنا العربية المقترحة لها.

والمقطوعة بالفارسية تبدأ على الوجه التالي:

(صبحدم مرغ جمن باكل نوخسته كفت
نازكم كن كه درين باغ بسى جون تو شكفت...)

ترجمة الشواربي

(عندما تنفّسَ الصباح, تحدث طائر الخميلة مع الوردة الجميلة, فقال:
(ما أكثر ما انفتح مثلك في هذا البستان, فأقليّ ما أنت عليه من دلالَ.
فابتسمت الوردة وقالت: إننا لا نتألم لقول الحقّ, ولكنْ
لم يوجّه عاشق مثل هذا الكلام الشديد إلى معشوقه.
فإذا طعمت في الخمر الحمراء التي في تلك الكأس المرصعة
فما أكثر الدرر (الدموع) التي يجب عليك أن تثقبها بطرف أهدابك
ومن لم يكنس تراب باب الحانة بخدّه
فلن تصل إلى مسامَه رائحة المحبّة
وليلة أمس رقد الهواء ولطف في حديقة إرمّ
واضطربت نواسة السنبل حين داعبها نسيم السَحَر
قلت يا عرش جمشيد أين كأسك الذي يستعرض العالم?
قال: أسفًا لقد غفى حظي اليقظ وأغرق في النعاس
وحديث العشق لا يستطيع أن يعبّر عنه اللسان
فيا أيها الساقي أدر الخمر وأقصر الحديث فيما يقال وما تسمعه الأذان.
وقد ألقت دموع حافظ بعقله وصبره في سيل من الطوفان وما عساه يفعل الآن, وآلام العشق لا تخفى على العيان?)

ترجمة الكك

جام جمشيد كم منّى فؤادي كشفَ غيب وأنت فيه مَعادى
صَدَفُ الأيس جوهرًا ما احتواه كيف يمتاحه من البحر صادى?
زرتُ شيخ المجوس ليلا أرَجّى كشف ستر عن المُعَمّى المُعاد
جامُ راح بكفه, وطروب يقرأ الكون في حُبابها منذ عاد
مُذ متى كأسُكَ العجيبة فضل مَنْ أقامَ السما بغير عماد
شعوذ العقل, قبله سامريّ بالعصا بزّه يبيض الأيادي
ذلك الخلّ شرف العود صلبا كان جرمًا أن باح بالسر شادي
روح قدس لو عاد بالفيض مثنى فعلَ القوم كالمسيح الهادي
فيض ضفر الحسان لم كان? قالوا حافظ زفرُهُ مد يد التنادي


ويلاحظ حرص الدكتور الكك ما أمكن على معاني حافظ وعلى توقيعه في البيت الأخير أي ذكر اسمه (حافظ).

تعريب الكاتب

يا عرش جمشيد هل في جامكَ العالي ما يكشف الستر عن مكنون أحوالي?
إني نظرتُ إلى المرآة, مرتجفًا فلم أجدُ غير وسواسي وبلبالي
يا عرش جمشيد أنت الآن مندثر عاف كأعمى, دفين تحت صلصال
تناوبتني خراباتي ببهجتها... وتوّجتني دراويشي بأسمالي
ولي حدائقُ آرام وسندسها ولي هناك حاناتي وعمّالي
قالت لي الوردة الحمراء جملتها وسلّمتني بها مفتاح أغلالي
إذا أردت على كأس مرصّعة أن تنحني مثل قوس في المدى الخالي
فاكنسْ بخدّك باب الحان مبتدئًا ورد الصلاة على المبعوث والآل


وملاحظتنا الأخيرة, هي أنّ ترجمة الشعر من لغة لأخرى, مسألة حسّاسة وتكاد تكون مستحيلة. أما التعريب فيقدّم للقارئ قصيدة عربيّة جديدة مؤسسة على قصيدة بالفارسيّة...أي يقدّم إبداعًا على إبداع, وهو شرط جاحظي نأخذ به ونتبناه, ثم إنّ إنشاء نصّ جديد على أساس نصّ آخر, شبيه بعلاقة الوجه بعدد من الرسّامين الذين يرسمونه, ففي كل صورة مرسومة مبدعة لهذا الوجه الواحد (الأصل الواحد) نرى صورتين لا واحدة: صورة الأصل وصورة المصوّر أو الرسّام...وهذا هو على وجه التقريب, صنيع نقل شعر من لغة لأخرى, فتتعدّد الصُوَر للأصل الواحد, بتعدّد الرسّامين.

 

محمد علي شمس الدين