(ب.وردز ورث) قصة مترجمة ف.س.نايبول ترجمة: د. أحمد هلال يس

(ب.وردز ورث) قصة مترجمة

ثمة ثلاثة شحاذين كانوا يطرقون أبواب المنازل التي تتسم بالكرم وحسن الضيافة, في شارع ميجل في توقيت دقيق كل يوم. ففي حوالي العاشرة كان يأتي شحاذ هندي يرتدي وزرة قصيرة في خاصرته, وسترة بيضاء, وكنا ندلق ملء علبة صفيح من الأرز في الجوال الذي كان يحمله على ظهره.

وفي الثانية عشرة كانت تهل علينا امرأة عجوز وهي تأخذ أنفاسا عميقة من غليون من الفخار ثم تزفره سحابة من الدخان كثيفة, وكنا ننفحها بسنت.

وفي الثانية كان يجيء رجل أعمى يقوده صبي للمطالبة بنصيبه. وكان يطرق بابنا أحيانا أحد المتشردين. فذات يوم جاءنا رجل يشكو الجوع. قدمنا له الطعام. وبعد أن فرغ منه طلب سيجارة وأصر على عدم الذهاب ما لم نشعلها له, إلا أن هذا الرجل لم يكرر الزيارة قط.

أما أكثر هؤلاء الزائرين غرابة وشذوذا فكان رجلاً وفد علينا في أصيل أحد الأيام في حوالي الساعة الرابعة بعد عودتي من المدرسة وارتدائي ملابس البيت. قال بصوت رقيق, مفعمة نبراته بالرجاء: أتسمح لي يا بني بدخول فناء منزلك?

كان رجلا قصير القامة, رقيق الجسم, أنيق الملبس والهندام. كان يرتدي قبعة, وقميصا أبيض, وبنطالا أسود.

سألته: ماذا تريد?

فأجاب: أن أرقب النحل في الفناء.

ثمة أربع أشجار نخيل صغيرة من فصيلة جرو - جرو كانت مغروسة في الفناء, ويغص أعلاها بجحافل النحل المتطفل.

وثبت فوق الدرجات بلا حرص صائحا: ماما ثمة رجل بالخارج, يقول إنه يريد أن يشاهد النحل.

خرجت أمي من المنزل, وشخصت إلى الرجل ببصرها ثم سألته وقد التوت شفتها السفلى في امتعاض: ماذا تريد?

فرد الرجل: أرغب في مشاهدة النحل.

وقعت لغته الإنجليزية من مسمعي موقع الدهشة والغرابة, إذ كانت من الإتقان في غاية, ولاحت في عيني أمي نظرة ارتياب. قالت مجتاحة بدفقة غضب: امكث هنا جنبه وراقبه وهو يشاهد النحل.

فابتدرها الرجل قائلا: أشكر لك يا سيدتي حسن صنيعك فقد عملت خيرا اليوم.

كان يتحدث بأناة وتؤدة, متوخيا الدقة في كل ما يند عنه كما لو أن كل كلمة كانت تغرمه ثمنا باهظا.

جعلنا نرقب النحل لمدة ساعة تقريبا, وقد تكوّمنا متقرفصين على كثب من أشجار النخيل.

قال الرجل على سبيل الملاطفة والتودد: إنني أحب مراقبة النحل. هل تستهويك مشاهدتها?

فقلت: ليس لدي وقت لهذا.

هزّ رأسه في أسى ثم قال: إنني أقنع بالمشاهدة فحسب, فبوسعي مراقبة النحل لأيام دون انقطاع. هل حدث أن قمت بمراقبة النمل والعقارب وحشرات أم أربع وأربعين?

هززت رأسي بالنفي. ثم سألته: ماذا تعمل يا سيدي? نهض بغتة قائلا بفخار صبياني: إنني شاعر.

فسألته وقد جرفني حب الاستطلاع: شاعر مجيد?

فأجاب من فوره: أعظم شاعر في العالم.

- ما اسمك يا سيدي?

- ب.وردز ورث.

- هل ترمز الباء لاسم بيل?

- كلا...بلاك...اسمي بلاك وردز ورث. أما وايت وردز ورث فقد كان اسم أخي, إذ إن كلينا تقاسم المشاعر والأحاسيس نفسها, ولذا أجدني أغرق في نشيج حار عندما أرقب الزهر يتفتح من أكمامه.

فقلت بصوت لا يخلو من رنة الأسف: لماذا تنخرط في البكاء عندما ترى الزهر?

فأجابني: إن تساؤلك هذا يثير دهشتي يا بني, ولسوف تعرف الإجابة عندما تكبر. إنك تعرف أنك أيضا شاعر, وعندما تكون شاعرا مثلي فسوف تحزن لكل شيء حزنا بالغا وتبكيه مر البكاء.

تكتّمت ضحكة بالعض على باطن شفتي.

ثم واصل متسائلا: هل تحب أمك?

- عندما لا تضربني.

دسّ يده في جيب بنطاله الخلفي واستخرج ورقة ثم قال: هذه الورقة تحوي أعظم قصيدة نظمت في الأمهات وسوف أبيعها لك بسعر منخفض يعز على التصديق. أربعة سنتات فقط.

هرعت إلى الداخل صائحا: ماما هل تودين شراء أشعار بأربعة سنتات?

صرخت أمي في وجهي وقد أخرجها الغضب عن وعيها: قل لهذا الرجل: اذهب في داهية ولا ترنا وجهك مرة أخرى.

عدت إلى السيد وردز ورث وقلت له بصوت لا يخلو من رنة الأسف: تقول أمي إنها لا تملك أربعة سنتات.

فقال وهو يكابد خيبة أمل: ولذا فإن أي شاعر يبدو مثالا صادقا لليأس والضياع.

دس القصيدة في جيبه دون مبالاة.

قلت بعد تردد: أعجب بها من طريقة لبيع الأشعار! كأنك بائع جوّال هل يشتري كثير من الناس أشعارك?

فأجاب وهو يعاني سكرات الخيبة: إن أحدا لم يشتر نسخة واحدة حتى الآن.

فتساءلت وأنا من العجب في غاية: فلماذا تسرح بها متوقعا لها سوقا نافقة?

لأن ذلك يتيح لي فرصة نادرة لملاحظة أشياء عدة, كما أنني آمل دوما في مقابلة شعراء مثلي.

تساءلت بريق جاف: هل تعتقد حقا أنني شاعر?

إنك تنتظم مثلي في سلك عالم الشعر لؤلؤة منعدمة النظير.

بعد أن غادرني وردز ورث تضرعت إلى الله ألا يحرمني لقاءه ثانية.

بعد هذا اللقاء بأسبوع في طريق عودتي من المدرسة عصر ذات يوم, لمحته واقفا عند ناصية شارع ميجل.

قال بارتياح وهو يبتسم مشرقًا: إنني أنتظر مجيئك هنا منذ فترة طويلة, فسألته: هل بعت أي أشعار?

هز رأسه سلبا. ثم قال: بفناء منزلي توجد أفضل شجرة مانجو في بورت أوف سبين. وهي مثقلة بثمار دانية القطوف تسر الناظرين. وقد أتيت لأدعوك إلى تذوّق بعض الثمار.

كان يعيش في شارع ألبرتو في كوخ يتكون من حجرة واحدة يتوسط الفناء المترامي حوله, والمتلفع بخضرة يانعة, وينبثق من أديمه شجرة مانجو ضخمة وشجرة جوز هند وشجرة برقوق.

بدا المكان مهجورا مسربلا بعزلته الوحشية, كما لو كان منقطع الصلة بصخب المدينة من حوله. محاطا بأسوار عالية تحجب المنازل الضخمة في الشارع عن الأنظار.

كان الرجل محقا في إطرائه حلاوة ثماره التي التهمت منها ستا بنهم وانساب عصيرها الأصفر خطوطا على ذراعي حتى الكوعين, كما انساب من فمي منحدرا إلى ذقني, وانداحت البقع فوق قميصي.

عندما عدت إلى المنزل صاحت أمي مرعدة كالوحوش الضارية: أين كنت? هل تعتقد أنك بلغت مبلغ الرجولة وبمقدورك أن تخبط في الشوارع على غير هدى أو تتسكع في الطرقات. هيا أعد لي سوطا لتأديبك.

ألهبتني أمي بالسوط. مرقت خارج المنزل كالهارب وأنا أقسم بأغلظ الإيمان بأنني لن أعود أبدا.

ذهبت إلى منزل وردز ورث, وقد ثارت ثائرتي واستولى علي الحنق والغيظ. كان الدم يسيل من أنفي.

قال وردز ورث في نبرات حزينة: توقف عن البكاء وسوف نخرج للتريض بالسير. كتمت انتحابي ولكني ظللت ألهث وجعل صدري يعلو وينخفض. قطعنا شارع سانت كلير مشيا على الأقدام حتى سافانا, ثم واصلنا السير إلى حلبة السباق.

قال مستوهبا تأييدي: فلنفترش الحشائش ونشخص ببصرنا إلى صفحة السماء التي تنبسط متبرجة بما لا يحصى من نجومها متأملين بعدها السحيق عن الأرض.

استلقيت على ظهري فوق الحشائش أسرح الطرف في صفحة السماء, وسرعان ما تجلت لي الحكمة وراء قوله. انتابني إحساس بالضآلة حتى كدت أتلاشى, وإن طارت بي نشوة في الوقت نفسه لم أعهدها في حياتي من قبل, وداخلني شعور بالسعادة والتفوق عجيب تبددت معه جميع مشاعر السخط والغضب, وانمحت من ذهني ذكرى الدموع والضربات التي انهالت على جسدي.

وعندما أخبرته أنني أشعر بأن الهم قد انزاح عن قلبي جعل يخبرني بأسماء النجوم التي احتفظت ذاكرتي منها على وجه التخصيص بأسماء مجموعة الجوزاء رغم أنني أجهل السبب وراء ذلك, فبوسعي حتى الآن تحديد مواقع نجوم هذه المجموعة إلا أنني نسيت مواقع النجوم الأخرى.

سلّط على وجهينا بغتة ضوء كشاف كهربائي يقبض عليه رجل شرطة جعل يصلينا نظرات ملتهبة من عينين متقدتين, انتفضنا قائمين.

- ماذا تفعلان هنا?

فأجاب وردز ورث: هذا هو السؤال الذي ظل يلح على ذهني طوال الأربعين عاما الفائتة دون أن أجد له جوابا حتى الآن.

اتحدت علاقتنا في صداقة وطيدة. مال على أذني ذات يوم وهمس قائلا: حذار أن تفضي إلى امرءٍ بسر صداقتنا وتمتعنا بشجرة المانجو وشجرة جوز الهند أو شجرة البرقوق. فإذا بحت هذا السر فسوف أعلم لأنني شاعر.

قطعت على نفسي أمامه عهدا بالكتمان وحافظت عليه.

أحببت حجرته الصغيرة التي لم تكن تحوي قطعا من الأثاث تفوق تلك الموجودة بحجرة جورج الأمامية, وإن بدت أكثر نظافة, بيد أنها كانت تظلها أيضا سحابة من الوحشة.

سألته ذات يوم: لماذا تحتفظ بهذه الشجيرات الكثيفة في فناء دارك? ألا تجعل المكان رطبا?

فقال: سوف أقص عليك قصة: حدث ذات يوم أن تقابل فتى وفتاة ووقع كلاهما في هوى الآخر, عشق كلاهما الآخر لحد الوله فتزوجا. كان كلاهما يقرض الشعر. هام هو بالكلمات هياما, في حين أحبت هي الحشائش والأزهار والأشجار حبّا ملك عليها حواسها وعقلها. عاشا في حجرة يتيمة يرشفان من كئوس السعادة الصافية, إلا أن الفتاة الشاعرة قالت للفتى الشاعر ذات يوم: سوف نرزق بشاعر آخر, بيد أن هذا الشاعر الوليد لم يُقيض له أن يرى نور الحياة, إذ ماتت الفتاة ومات الشاعر الصغير في أحشائها. انعقدت سحب التعاسة فوق رأس الزوج وبدت له الدنيا صفراء كريهة لا تحتمل ولا تعاشر, وأقسم بكل مقدس ألا يلمس شيئا في حديقة الفتاة. ولذا امتدت يد الإهمال إلى الحديقة واكتسبت سحنة وحشية.

جعلت أرنو إليه وهو يقص علي هذه القصة الجميلة فلمحت النظرات في عينيه تشيخ وبدا وجهه أكبر من سنه, إلا أن مغزى قصته لم يغمض عليّ.

كنا نخرج نتريض بالسير فنظل نخبط في الشوارع على غير هدى لساعات طوال. كما ذهبنا إلى حدائق النباتات وحدائق الصخور, وتسلقنا تشانسللور هيل وكنا نلقي ناظرينا إلى الأفق, وقد جعل المغيب يرسل ألوانه الهادئة الرزينة المليئة بالشجن, وقرص الشمس يهبط وديعا أليفا في الشفق وقد استلت منه روح الشباب الفائر, وتراءى بورت أوف سبين والليل يهبط من ذروة الأفق, وسرعان ما كانت الأنوار تضيء أرجاء المدينة والسفن الراسية في الميناء.

كان كل ما يند عنه من أفعال يشي بنشوة الحماس التي كانت تنقدح في قلبه كما لو كان طفلا تتفتح عيناه على مسرات الحياة ومباهجها لأول مرة فيحس بموجة من الفرح تغمره وتطير به إلى شاطئ السعادة. كانت كل أفعاله تنضح بحماس الراهب الذي تشتعل جوارحه بنيران مقدسة.

وأحيانا كان يقول وهو يهز رأسه في طرب مفاجئ: ما رأيك في تناول الآيس كريم? وعندما كنت أحني رأسي إعرابا عن الموافقة كانت تلوح في عينيه أمارات الجد البالغ متسائلا: ما المحل الذي سوف نتعامل معه? كما لو كان أمرًا بالغ الأهمية. بيد أنه كان يتفكر هنيهة ثم يقول بغتة, وقد دبت في قلبه الحماسة: أظن أنه آن أوان ذهابي لهذا المحل للتفاوض على شراء الآيس كريم.

صفت الحياة من شوائب الكدر ومضت الأيام مترقرقة بالسعد والإقبال.

قال لي ذات يوم وأنا أجالسه في فناء منزله: سوف أبوح لك بسر هائل.

- هل هو سر حقا?

- هو سر حتى الآن

جعلنا نتبادل النظرات في صمت مجلل بالرهبة, ثم غمغم وكأنما يهامس نفسه: إني أنظم قصيدة الآن.

- أوه....ندت عني بصوت خامل محشرج بالخيبة.

واصل قائلا: بيد أنها قصيدة جد مختلفة. إنها أعظم قصيدة خطها يراع شاعر في العالم بأكمله.

صفرت بفمي بإعجاب قال مجتاحا بدفقة حماس: إنني أواظب على النظم بهمة لا يعتريها الكلل منذ خمس سنوات خلت, وسوف أنتهي من كتابتها بعد حوالي اثنين وعشرين عاما شريطة أن أواظب على الكتابة بالمعدل الحالي نفسه.

- لاشك أنك تنجز الآن الكثير.

- لم أعد أكتب الآن بالمعدل نفسه عند البداية. فإنني أكتب الآن بيتًا واحدًا كل شهر, إلا أنني أتوخى أن يولد متوهجًا بالتفرّد والعبقرية.

- ما البيت الذي نظمته الشهر الماضي?

شخص ببصره إلى السماء ثم قال: (إن الماضي موغل في العمق).

فقلت وقد تشعشع رأسي بالنشوة: إنه بيت جدير بانتزاع آهات الإعجاب من الأعماق.

فقال بارتياح ممزوج بزهو: آمل أن أقطر خبرة وحكمة شهر بأكمله في هذا البيت اليتيم. ولذا فإنه عندما تنقضي هذه الأعوام الاثنان والعشرون سأكون قد أبدعت قصيدة تغدق على البشرية جمعاء أعذب الألحان.

ثمل قلبي بالحماس والإعجاب.

واظبنا على الخروج في جولات استكشافية. بينما كنا نسير بحذاء الكورنيش عند دوكسايت في ذات يوم, تساءلت بعد تردد: هل تظن أن هذا الدبوس سوف يطفو عندما أسقطه في الماء? فأجاب بصوت لا يخلو من رنة الأسف: إن هذا العالم يتسم بالغرابة. فلتسقط دبوسك في الماء ونر ما سوف يحدث.

غاص الدبوس في الماء.

قلت ممهدا لمجرى جديد من الحديث: ما الذي أضفته إلى قصيدتك هذا الشهر? بيد أنه لم يتل عليّ أي بيت جديد, بل أكد لي فحسب: إن الأمور تسير على خير ما يرام, فلا تقلق, وأحيانا كنا نقتعد سور الكورنيش ونرقب السفن وهي تتهادى إلى داخل الميناء.

انقطع حديثنا عن قصيدته التي كان يعدها درة ليس لها نظير في عالم الشعر.

ساورني إحساس مبهم بأن سيما الهرم تغشاه وأن الشيخوخة الكريهة تنشب فيه الأنياب والأظفار.

سألته ذات يوم: كيف تعيش يا سيد وردز ورث?

- تعني الحرفة التي أتعيش منها?

وعندما أحنيت رأسي دلالة الإيجاب, انفجر صدره عن ضحكات بلهاء الرنين ثم قال: إنني أترنم بأشعار تنبعث في نفسي بوحي البديهة أثناء موسم الأغاني الشعبية.

- هل يكفيك ما تكسبه أثناء هذا الموسم طوال العام?

- نعم...يفي بحاجياتي.

- لكنك سوف تصبح أكثر رجال العالم ثراء عندما تنتهي من نظم أعظم قصيدة في العالم?!

بيد أنه لم يحر جوابا, وختم على شفتيه بخاتم الصمت. وعندما ذهبت إلى منزله الصغير في ذات يوم وجدته مستلقيا على فراشه الصغير, وقد حل به هزال وذبول فبدا كالطيف. راودتني نفسي على البكاء, وشعرت بقلبي ينتحب في أعماق صدري.

قال بصوت يكاد يطمسه رماد الأمل: إن مشروع القصيدة يتعثّر بالعراقيل والمشكلات. كان يتحدث كما لو كان يناجي نفسه, وهو يمد بصره إلى شجرة جوز الهند من خلال النافذة. غمغم وكأنما يهامس نفسه: عندما كنت في العشرين كان يفعم قلبي إلهام التفاؤل والإقدام. أغمض عينيه في إعياء استسلام ثم رفع إلي وجها بارز العظام مدبوغا بالتعاسة والكبر وواصل: بيد أن هذا كان منذ زمن طويل.

وإذ ذاك دهمني شعور قاس, كإحساسي بقبضة أمي تنهال على صدغي, بدنوه نحو الفناء بخطو دءوب, لاحت في نظرة عينيه الغائمة أطياف من العالم الآخر.

عندما لمح الدموع تترقرق في عيني اعتدل جالسا في الفراش ودعاني إلى الجلوس على ركبتيه. نظر في عيني وقال: إنك تقرأ في وجهي نذر الموت. لقد كنت أعلم دائما أنك تملك عيني شاعر.

بدا لي غير مبال بمصيره, فتقطع قلبي حزنا عليه, واستسلمت لموجة عاتية من النحيب. ضمني إلى صدره بحنان قائلا: هل ترغب في أن أقص عليك قصة مضحكة? ابتسم لي ابتسامة رقيقة على سبيل التشجيع.

لم أحر جوابا. ساد صمت كأنه بكاء أخرس.

استطرد قائلا: أريدك أن تعدني بعد سماع هذه القصة أن ترحل ولا تعود أبدا لرؤيتي. هل تعدني?

أومأت برأسي موافقا.

- هل تذكر هذه القصة التي قصصتها عليك التي تدور حول الصبي الشاعر والفتاة الشاعرة? إنها قصة ملفقة. كما أن حديثي عن الشعر ونظمي أعظم قصيدة في العالم حزمة من الأكاذيب. ألا تظن أن هذه القصة من أمتع ما سمعت في حياتك?

ثم أمسك لسانه بالصمت بعد أن تهدج صوته منذرا بالبكاء, غادرت المنزل بقلب كسير, ثم طفقت أعدو بسرعة الريح صوب بيتي مستسلما للنحيب مثل شاعر يبكي مر البكاء كل ما يراه.

تحاميت من السير في شارع ألبرتو لمدة عام كامل. بيد أنه ذات يوم مررت, بعد أن عاودت السير فيه, أمام موقع منزل الشاعر فلم أجد له أثرا. كما لو أن الأرض فغرت فاها وابتلعته, إذ طالعني بدلا منه مبنى ضخم يتكون من طابقين شيد على مساحة الأرض بأكملها, واختفت شجرة المانجو وشجرة البرقوق وشجرة جوز الهند.

بدا الأمر كما لو أن ب.وردز ورث لم يوجد على ظهر الأرض قط.

 

ف.س.نايبول