موسيقى الصامتين.. قصة x صفحة أحمد رضا خطاب

موسيقى الصامتين.. قصة x صفحة

حين اضطررت للمجيء إلى هذا المقهى أول مرة مع أحد أصدقائي - بالرغم من علمه برفضي ارتياد المقاهي - كنت قد استسلمت لرغبات التجربة داخلي خاصة عند وصفه لي مقهى يمتص منك الشجون ويمنحك من الخيال ما يعطشك للمزيد منه, وعلمه كم أعشق كل ما يذيبني مع مكنوناتي, فدخلنا ذلك المقهى.

كان يبدو مقهى عاديا, إلا أنني لاحظت وجود آلة (بيانو) أثرية في أحد الأركان, وسمعت صوت (كمان) ظننته أول ما سمعته شدوا بشريا حزينا, كان عازفا بارعا حقًا.

وعندما جذبت كرسيا لأجلس وجدت صديقي يجذبني لأجلس معه على الأرض, ثم همس لي هناك ثمن للجلوس على المقاعد. الارض أرخص.

أدرت وجهي عنه مبتسمًا, مندهشا من ذلك.

أتى النادل فطلبنا مشروبًا لكل منا, ولا أريد إغفال زي هذا النادل, لعله زي أحد دراويش الموالد, مليء بقصاصات القماش الحمراء والصفراء وما إلى ذلك من الألوان الباهرة, وطرز عليه كلمات لم ألتقط منها إلا بعض الحروف. وكان بدينًا فيميل بجسده إذا مشى مأرجحًا مبخرته يمينًا ويسارًا وأكواب الشاي والقهوة تتأرجح في يده.

قضيت الوقت أتأمل ما حولي, فلم أجد غيرنا وقلة من الناس معظمهم على الأرض جالسين مثلنا, ممسكين بأكوابهم, وعلى المقاعد يمسك الجالسون - ذوو الأزياء الأرقى ممن هم على الأرض - أكوابهم أيضًا فلم يكن هناك أي طاولات. الجميع صامتون, منصتون لصوت الكمان الذي يدور به العازف بين الجالسين.

أتأمل الجميع مستهزئًا بهم ومما هم فيه بما وصفته بالحماقة فلا شيء هنا يثير أي شيء غير الملل, فلا خيال ولا شجون ولا أي مما قاله لي صديقي, كان الملل شديدا جدًا على النفس, يدفع الدماء إلى وجهي بقوة, كدت أستسلم لإغماءة طويلة لولا محاولاتي للثبات, وكوب الشاي الساخن في يدي يوخزني وخزًا أتجنبه قليلاً بتبديله من يد إلى يد, أظن أنني لم أذقه أبدًا ولا أعرف لماذا?! فقط كنت أنظر, أنظر للجدران التي احتلتها صور قديمة غير واضحة المعالم واطرافها مشغولة بخشب الأرابسك الأسود.

هكذا قضيت وقتي كما قلت في التأمل لا أعير الموسيقى اهتمامًا واضحًا, حتى صديقي كنت أنظر إلى هيامه مع الموسيقى وكأن لا شيء وبعد لحظات من الملل لم أستطع احتمال المزيد منها, قمت وتركت صديقي جالسا, ركبت أول حافلة مرت أمامي, عدت إلى البيت وقد نسيت كل ما رأيت, لكن ثمة شيئا في صدري لم أفهم له معنى, حرارة فقط ما كنت أشعر.

كم يعشق أبي اقتناء الأشياء القديمة, أذكر يوم اشترى عودًا من بائع العاديات ووضعه كقطعة ديكور على الحائط, كان يمنعني من حمله, لكني كنت أسترق من ساعات غيابه عن البيت أوقاتًا أحمله فيها وأعزف, أو هكذا كنت أظن أني أعزف, بالرغم من الكسر في قصعته, وثلاثة أوتار فقط تمتد عليه, وحجمه الذي كان في مثل حجمي, كنت صغيرًا أيامها.

في اليوم التالي شعرت بأن علي أن أخرج قليلاً من البيت وآخذ جولة في المدينة فوجدت نفسي أمام المقهى, دخلته, جلست على الأرض, وفعلت ما فعلته بالأمس, التأمل في وجوه الجالسين والاستماع إلى عزف ذاك العازف الذي بدل كمانه بالناي.

لم أتوقف عن التردد على المقهى, لكني توقفت عن التأمل في وجوه الجالسين وصرت فقط أستمع إلى الموسيقى, اليوم البيانو, غدًا القانون, وبعده الناي, ثم,. وهكذا كل يوم آلة غير سابقتها, الموسيقى تتغير والناس كما هم, حتى صرت جزءًا من هذا المقهى لا أتغير مثل كل الجالسين, أشعر بموسيقى داخلي تهزني هزًا تنحدر أصداؤها من مقلتي على خدي. لماذا?! لا أعرف.

 

أحمد رضا خطاب