الملاريا.. سفّاح مجهري يهدد العالم سيد عاشور أحمد

الملاريا.. سفّاح مجهري يهدد العالم

ظنت البشرية أنها بتقدمها العلمي تخلّصت من أمراض وبائية قديمة كانت تجتاحها, لكن عودة بعثة رياضية عربية من نيجيريا وقد أصيب كثير من أفرادها بالملاريا المخية, ووفاة بعضهم, أثارت الفزع مجددا من هذا المرض الوبائي القديم.

يوجد من طفيل المرض أربعة أنواع تنتمي جميعها إلى جنس (بلازموديوم Plasmodium), ومعظمها قليل الخطورة: النوع (بلازموديوم فيفاكس P. vivax) ويوجد في جنوب آسيا وأمريكا الوسطى وشرق ووسط إفريقيا, والنوع (بلازموديوم أوفال P. ovale) يوجد بغرب وجنوب إفريقيا وغرب الباسفيكي, والنوع (بلازموديوم ملاريا P. malariae) وهو قليل الوجود على مستوى العالم. أما أخطر أنواع الطفيل فهو (بلازموديوم فالسيبارام P. falciparum) السائد بإفريقيا حيث يمثل 85 -90%, والموجود أيضا بجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية, والذي يتسبب في إحداث الملاريا المخية وهي أشرس أنواع الملاريا المنتشرة بوسط وجنوب القارة الإفريقية.

وتشمل أعراض الملاريا عامة في الكبار شعورا بالضعف والعرق والآلام في البطن والعضلات إضافة إلى غثيان وإسهال مائي, مع وجود حُمّى تبدأ بعد 7 - 20 يوما أو أكثر من العدوى. وفي الأطفال سعال وتنفس سريع ورعشة حُميّة. وقد تتفاوت الأعراض مصحوبة بمظاهر أخرى مثل احمرار لون البول ونزيف تلقائي وانخفاض مستوى سكر الدم. وقد يحدث إجهاض للحوامل وانخفاض لوزن المولود أو ولادته مصابا بالمرض. وفي النوع فالسيبارام قد تؤدي نوبات الرعشة الشديدة إلى فصل شرايين المخ وتلف خلاياه, كما قد تسبب الغثيان والصداع واضطراب التنفس وغيبوبة قد تنتهي بالوفاة.

ومن المعروف أن عدوى المرض تنتقل ببعوض الأنوفيليس, حيث يتطور الطفيل داخل البعوض ليستطيع إحداث العدوى للإنسان التي تتم خلال اللدغ, ثم يهاجر إلى الكبد حيث يتكاثر بشدة, ثم يدخل إلى الدورة الدموية ليهاجم كرات الدم الحمراء ويتكاثر فيها, وينطلق منها ليهاجم كرات دم حمراء أخرى وهكذا.

300 مليون إصابة ومليون وفاة!

طبقا لمنظمة الصحة العالمية, فإنه من أصل ثلاثمائة مليون على الأقل من الإصابات الخطيرة بالملاريا سنويا في العالم, هناك مليون وفاة 90% منها في إفريقيا وحدها معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة. وذكر تقرير صادر عن المنظمة أن الملاريا تهدد 40% من سكان العالم, وأنها تنتشر في الدول النامية حيث يعم الفقر, وأن أغلب الأطفال الذين يعانون هذا المرض يتركزون في مناطق بوسط وجنوب قارة إفريقيا, حيث يموت يوميا حوالي 3 آلاف طفل إفريقي بسبب المرض أي طفل كل 40 ثانية, كما يعد السبب الرئيسي في انتشار الأنيميا بين الأطفال خاصة في الدول النامية.

وينتشر المرض في القارة السوداء خاصة في الثلثين الجنوبيين منها (جنوب مناطق الصحارى), وذلك بدءا مما يحاذي منتصف السودان حتى جنوب القارة تقريبا, حيث تناسب أجواء تلك المناطق حياة البعوض الناقل وتوطن المرض. ويمتد موسم نقل المرض حتى معظم شهور العام بالاتجاه نحو قلب القارة. وتُعَدّ الملاريا المسبب الأول للموت في بعض الدول الإفريقية مثل موزمبيق, والمسبب الثاني للموت في كل إفريقيا (يسبقها الإيدز الذي احتل المرتبة الأولى منذ العام 2003).

ويعيش حاليا 1.6 مليار نسمة في مناطق يزداد فيها انتشار المرض, كما يعيش مليون نسمة في مناطق موبوءة بالمرض.

من الجنوب إلى الشمال

أعلن البرنامج الوطني اليمني لمكافحة الملاريا في أوائل يوليو العام 2003 عن تسجيل مليون ونصف المليون حالة إصابة بالملاريا سنويا في اليمن, وأن واحدا بالمائة من المصابين يموتون بسببه سنويا, وأن المرض ينتشر في جميع أرجاء البلاد مع اختلاف درجات التوطن, ويعتبر واحدة من أهم المشكلات الصحية. وقد هدف ذلك البرنامج في خطته الثانية 2001 إلى 2006 إلى خفض نسبة الإصابات بالمرض ونسبة الوفيات الناجمة عنه من خلال التشخيص الصحيح السريع المتبوع بالعلاج الفوري. وهناك خطة لاستئصال هذا المرض من جزيرة سُقطرى بحلول العام 2005 كأهم الأهداف العامة للبرنامج بخطته الخمسية الجارية.

وفي منتصف يوليو العام 2003 حصدت الفيضانات والأمطار الموسمية العنيفة أرواح المئات وشردت الملايين في الهند والصين وأفغانستان. كما أدت الفيضانات المدمرة بشرق الهند إلى تفشي الأوبئة والأمراض المعدية. ومثلت الأمراض التي تنقلها مياه الفيضانات خطرا هدد الآلاف, ممن اضطروا للعيش في العراء, خاصة في شرق الهند.

وفي موريتانيا, حيث يشهد موسم الخريف تفشيا للمرض, أُعلن في حلقة نقاشية - في سبتمبر العام 2002 - حول دور المنظمات غير الحكومية في مكافحة الملاريا, أن ذلك المرض يصيب نحو 250 ألف شخص سنويا في موريتانيا ويعد ثالث مسبب للاستطباب بالتشكيلات الصحية الوطنية, إلى جانب مسئوليته عن وفاة واحد من كل ثلاثة أشخاص,. ويصيب المرض النساء الحوامل والأطفال بصورة حادة لضعف مناعتهم. كما كان للتوسع في الإصلاحات الزراعية من خلال السدود على ضفة النهر وانتشار زراعة ما تحت النخيل أثره في انتشار المرض.

وأُعلن أيضا في تلك الحلقة, أن الملاريا تطرح مشكلة صحية كبيرة على مستوى 90 دولة في العالم, وأن 80 في المائة من الإصابات توجد بالمناطق الإفريقية. وقدرت الخسائر الاقتصادية المنسوبة إلى الملاريا بنحو ثلاثة مليارات دولار سنويا, وهو ما يساهم في توسيع دائرة الفقر. وقد أُعلن أن البعوض أخذ في اكتساب مقاومة ضد وسائل المكافحة الكيميائية من المبيدات, وأن الاتجاه قد انصَبّ حول علاج المرض بالوسائل الطبية والوقائية في إطار مبادرة دولية تعرف بمبادرة (دحر الملاريا) ستمكن من القضاء على المرض بحلول العام 2030.

وقد لفتت منظمة (أطباء بلا حدود) الإنسانية بمناسبة اليوم الإفريقي لمكافحة الملاريا إلى أن (أهداف مجموعة الثماني ورؤساء الدول الإفريقية الرامية إلى خفض الوفيات الناجمة عن الملاريا إلى النصف بحلول العام 2010 ستبقى حلما لا يمكن تحقيقه إلا إذا قرر المانحون بوضوح تمويل علاج ناجع).

الملاريا في أوربا أيضا

أشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية إلى أن عدد حالات الملاريا في دول الاتحاد الأوربي قفز من 2882 حالة في العام 1981 إلى 12328 حالة في العام 1997. وبالرغم من العناية الصحية الجيدة يموت 7% من هؤلاء المرضى, لأن الأطباء الأوربيين لا يتعرفون على المرض غير المألوف لهم إلا بعد فوات الأوان. وعاما بعد عام يزداد عدد الأوربيين الذين يجلبون الملاريا إلى بلادهم لدى عودتهم من بلدان يستوطن فيها هذا الوباء وتزداد المخاوف من أن البعوض الأوربي المحلي قد يكتسب طفيل الملاريا من مثل هؤلاء المسافرين, ويقوم بإعادة سلسلة نقل محلية.

ويقول تقرير المنظمة العالمية إن هجرة اللاجئين خلال الصراعات الإقليمية, والازدياد الهائل في أعداد قنوات الري والصرف التي تعتبر مرتعا مثاليا لتكاثر البعوض, وتوقف برامج الصحة العامة عقب انهيار النظام الشيوعي عوامل أدت إلى إعادة بعث هذا المرض بشكل دراماتيكي ينذر بعواقب وخيمة. ومن بين أكثر المناطق تأثرا دول الاتحاد السوفييتي السابق المحاذية لبعض مواطن الملاريا مثل أفغانستان. وأشار التقرير إلى أن أذربيجان وطاجيكستان تشهدان حاليا انتشارا واسع النطاق لوباء الملاريا الذي ظهر أيضا في كل من أرمينيا وتركمانستان, ولكن على نطاق أضيق.

أما في تركيا فقد استؤصلت الملاريا تقريبا بشكل كلي منذ العام 1989, لكن مشروع ري كبيرا في جنوب شرق البلاد تسبب في ارتفاع عدد حالات الملاريا 15 ضعفا مابين عامي 1990 و 1994. ويعتقد مسئولو منظمة الصحة العالمية أن العناية الطبية الجيدة والمراقبة اليقظة وفصول الشتاء الباردة ستحول دون السماح لوباء الملاريا بإعادة ترسيخ نفسه في أوربا الشمالية, على الرغم من وجود سلالات البعوض القادرة على حمل الطفيل.

بيل جيتس يدعم المواجهة

نجحت تجربة إحدى الولايات في غرب تايلاند في خفض نسبة الوفيات بالملاريا إلى نصف ما كانت عليه في هذه الولاية, حيث حقق فريق من الباحثين البريطانيين إنجازا أعطى أملا جديدا لمكافحة هذا المرض. فقد نَفّذ مكتب الصحة بولاية (تاك) على الحدود مع بورما برنامجا حمل اسم (مبادرة مكافحة الملاريا) استمر من يوليو العام 2001 إلى سبتمبر العام 2002 وأدى إلى انخفاض حالات الإصابة بأخطر أنواع الملاريا (بلازموديوم فالسيبارام) بنسبة 30% ليصبح عدد الإصابات 43 ألف إصابة مقابل 62 ألف إصابة في العام السابق, كما انخفضت الوفيات بنسبة 42% ليتم تسجيل 36 وفاة مقابل 62 للعام الأسبق, وهذا يجعل منها سابقة طبية عالمية.

وقد استندت التجربة إلى عنصرين: أولهما الكشف المبكر عن المرض بواسطة شبكة تضم نحو مائة قروي تم تأهيلهم لهذا الغرض, وثانيهما استخدام مركب من مجموعة أدوية لا يستطيع طفيل الملاريا مقاومتها. وقد شَيّد أحد المتطوعين من قرية (دوي هين كيو) الصغيرة - التي تبعد كيلومترات قليلة عن الحدود مع بورما - كوخا خشبيا صغيرا يستقبل فيه عدة مرضى يوميا. ويغرز ذلك المتطوع إصبع المريض بإبرة معقمة ليضع نقطة من دمه تحت المجهر ليحدد احتمال الإصابة بأخطر أنواع الملاريا, ولا تتطلب النتيجة سوى نحو عشر دقائق. وكانت مؤسسة (بيل وميلندا جيتس) قد قامت بتمويل البرنامج بمنحة قيمتها 4.3 مليون يورو. ويذكر أن (بيل جيتس) قد تبرع أواخر شهر سبتمبر 2003 بنحو 170 مليون دولار لمكافحة الملاريا حاثا العالم على تكثيف الجهود للقضاء على هذا المرض.

ومن سوء الحظ, أن بعض الأدوية المهمة مثل الكلوركوين - وهو من أرخص وأأمن الأدوية - تفقد فاعليتها بمرور الزمن نتيجة اكتساب الطفيل مقاومة تجاهها. وفي بعض أجزاء العالم اكتسب الطفيل مقاومة ضد أكثر أربعة أدوية دفاعية تجاه المرض. وقد تمكن باحثون بريطانيون - بالتعاون مع باحثي جامعة بايوتيك في بانجكوك بتايلاند - من تحديد تركيب المادة البروتينية التي تتيح لطفيل الملاريا مقاومة الأدوية(مجلة نيتشر ستراكتشرال بيولوجي العلمية البريطانية). وذكر أحد مسئولي معهد الأحياء الخلوية والجزيئية بجامعة إدنبره أن (معرفة تركيب البروتين ستتيح تركيب أدوية جديدة كفيلة بتجاوز مقاومة الطفيل), مؤكدا أن (ذلك يعني تطورا بارزا بمجال الأبحاث, وأن أهمية هذه الانجازات تزداد مع ارتفاع مقاومة الملاريا للعلاج, إذ لم تتوصل مختبرات الأدوية إلى تركيب أدوية جديدة, بدلا من تلك المستخدمة منذ الخمسينيات لمكافحة الطفيل, بسبب انخفاض الربحية في هذا المجال).

وقد أُعلن منذ عدة أشهر عن محاولات علمية حديثة للقضاء على المرض, وذلك بلقاح جديد بدأت التجارب عليه بالفعل بموزمبيق ويعرف باسم RTS,S/AS02A. وذكرت شبكة المعلومات الإقليمية المتكاملة للأمم المتحدة في منتصف شهر يوليو العام 2003 أن هذا اللقاح يبشر بنتائج طيبة ومتقدمة أكثر من أي لقاح آخر تم تطويره حتى الآن, وقد نجح بنسبة 71% عند تجربته في زامبيا. وقد بدأت المرحلة الثانية لتلك التجارب في منتصف العام 2003, كما يجري حاليا في المعامل العلمية المتقدمة تحديد الجين المسئول عن مرض الملاريا, وكذلك الأمراض الخطيرة الأخرى كالدرن والجذام, كما أعلن عن ذلك في مؤتمر (البيوتكنولوجي) الذي عقد في واشنطن في يوليو من العام 2003.

 

سيد عاشور أحمد 





 





 





طفل مصاب بالملاريا - أكثر الحالات القادمة للمستشفيات - موزمبيق





اختبار الملاريا (معمل بي سي آر PCR)