في منهجية قراءة النص الصوفي

في منهجية قراءة النص الصوفي

لقد تعمدت إيراد النص (المنشور على اليسار) بلغته دون تدخل أو ترجمة، لكي أبرز المعنى المراد حرفيا، حيث سيطر هذا المنظور الاستشراقي طويلًا، بل لعله مازال مسيطرًا لدى العديد من الباحثين العرب المسلمين في التصوف الإسلامي. إذ يكرر هؤلاء دوماً ما قاله المستشرقون، ويتبنون تصنيفاتهم وأحكامهم بصورة حصرية جامدة، ونهائية دون مناقشة أو نقد أو حتى محاولة لتأمل النصوص الصوفية من زوايا أخرى مباينة، وإعادة قراءتها وفقًا لمعايير جديدة مبتكرة، في حاجة لإعادة النظر، والتأمل الهادئ المتأني، ذلك أن مَن يمعن النظر ويفحص النصوص فحصًا دقيقًا حرًا لا يتقيد بهواجس قيمية سابقة، وافتراضات مبدئية أو مسلمات نهائية مريحة، ربما يكشف مدى مرونة وحيوية الحدود التي قد تكون فاصلة، لكنها في الوقت نفسه واصلة بين التقسيمات التاريخية لمراحل التصوف الإسلامي.

«Early Sufism is only a practical religion and rule of life... Thus, the two main characteristics of early Sufism are asceticism and quietism» RABI A , Mrs. Roma Chaudhuri

بل لعلها حدود رخوة متحركة شديدة التداخل والتفاعل جدليًا بما لا يمكن توقعه وتقنينه داخل قوالب عقلية صورية جامدة ترسف في أغلال الموضوعية الزائفة المدّعاة من أغلب الباحثين! وكثيرًا ما يُصاغ الأمر وفقًا لمعيارية العنصر الأكثر هيمنة وبروزا وجلاء، وهي مسألة أصبحت موضع شك وتساؤل، لأننا يمكننا أن نتحدث الآن عن هوامش وأمور ثانوية فرعية ومشاهد غائبة تتبدى جميعها للوهلة الأولى غير ذي أهمية أو قيمة في بحثنا المعرفي لظاهرة ما، أو تأويلنا الثقافي لنص من النصوص، لكننا نكتشف تدريجيا أنها الأكثر فاعلية وحضورًا وخطورة في تفسير وتوجيه وصياغة المتن الرسمي الذي تصورناه دومًا المسيطر وحده بجدارة.

ومن المثير للانتباه في هذا السياق أن القضية الوحيدة التي انبرى لها الباحثون العرب المسلمون، وتباروا في إثباتها ونقدوا الخطاب الاستشراقي المتعلق بها نقدًا حاشدًا عنيفًا هي قضية أصل التصوف الإسلامي، وكونه إسلاميًا صرفًا، جذوره كامنة في القرآن والسنة، وسيرة النبي والصحابة الأول .. إلخ، وهو ما يعني دحض مزاعم المستشرقين الذين تهوسوا بدورهم في محاولة إثبات المصادر الوافدة الأجنبية للتصوف ما بين مسيحية وهندية وفارسية..إلخ، وحين أرادوا الاتسام بالموضوعية أضافوا المصدر الإسلامي كما فعل نيكلسون. وبالطبع اتصلت هذه القضية الجوهرية من وجهة نظر هؤلاء وأولئك، بالأحكام الدينية على الصوفية، والحديث عن الصوفية الأصلاء، التابعين لتقاليد السلف الصالح، والذين لم يخرجوا عن العقيدة السنية، وحدودها الأخلاقية.. إلخ، في مقابل الصوفية المارقين من أهل الشطح والتجاوز، والمتفلسفين الذين تأثروا بالثقافات الوافدة، وفقدوا بذلك العروة الوثقى مع عقيدتهم السنية الصافية وأصولهم الإسلامية النقية.

معارك سياسية الهوى

ولا أدري ما مدى أهمية هذه القضايا المهوَّسة بالأحكام الدينية والأخلاقية، ناهيك عن البحث في المصدر الأصلي والتأثر والتأثير على النصوص الصوفية، والمتصوفة أنفسهم بالرغم من الفارق المهم بين النص وصاحبه، في إثراء مجال البحث الصوفي، وخلق مساحات ابتكار أصيلة في تأويل وفهم النصوص ومدى تعقيدها، وتعدد مستوياتها، وثغراتها الإشكالية .. إلخ، ولعلنا لو كفينا هذه المعارك التي هي في جذرها معارك سياسية الهوى من وجهة نظري، لولجنا مساحات مهمة تستطيع أن تحقق داخلها تجاوزات بحثية تفوق ما حققه المستشرقون الجادون وتفتح أمامنا هذا الكنز المخبوء، والطلسم الخفي للنص الصوفي الذي تجاوز بثرائه وخصوبته وتعقيده هذه المخيلة المجدبة المقفرة، التي لم تزل تراوح مكانها باحثة في أمور لم يعد لها محل من الإعراب في زمن المساحات البنيية معرفيًا بين الحقول الفكرية، ناهيك عن إمكانات التناص الشديدة الثراء والتعقيد والمباغتة بين النصوص، واحتمالات التأويل الواسعة. من هنا أحاول أن أبحث عن بداية ما، وسعيا مختلفا بمقاربة البداية، أو ما نتوهم دوما بأنه البدايات ولعلها إرهاصات الزخم الأولى الحبلى بلوائح المضمر الآتي يخايلنا بنضجه وعمقه وزعم الاكتمال، لا ينفي أصوله، بل يحسن إخفاءها، ويمنحها سر الغموض، وجلاله، ولذعة المذاق شديدة الرهافة والجمال في آن. تستلبنا المخايلة الآسرة، نسقط في فخ الاكتمال الجلي، تدفعنا بصيرتنا العمياء، وأوهام الوضوح المنهجي لاكتناه الأصول الخفية، ترى هل هناك حقا مشروعية معرفية لمسألة الأصل؟!

لم أقصد هنا الإمعان في الغموض أو الإبهام، لكن ما أحاول بلورته هو التساؤل عن مدى إمكانية الحديث عن تلك الحدود الرخوة بين النصوص المبكرة، أو ما أطلق عليه الباحثون عموما مرحلة التصوف المبكر، وحصروه في الزهد والتنسك والتقشف والسلوك الأخلاقي العملي، وبين ما سيليه وفقا للتقسيمات المتعارف عليها من تصوف شطحي أو سني أو فلسفي.. إلخ. وهو ما يجعلنا نعيد طرح السؤال حول مدى مشروعية نظرية الأصل في تاريخ باطني فكري معقد لا يتجلى عميقًا وكاشفًا ومراوغًا في آن، ربما إلا في المساحات البنيية الاحتمالية، وثغرات التداخل والالتباس الإشكالي، بما يلقي بنا في مدارات الحيرة الثرية ولا يمنحنا مجالا للحديث عن أصل نقي أوحدي بشكل مطلق، وربما لأن المسألة ليست بهذه البساطة والأحادية والحسم!

على أية حال، دفعتني هذه التساؤلات، التي لا أدّعي أن لدي إجابة واضحة نهائية عليها، حيث إنني لا أعتقد أن هناك إجابات يقينية حاسمة في المعرفة الإنسانية المعقدة، لطرح بعض الافتراضات الإشكالية حول ميراث التصوف المبكر الذي لم يكن مدونًا، كما هو معروف.

حين دوّنت نصوص التصوّف المبكر أثناء القرنين الرابع والخامس الهجريين، عبر مؤلفات عدة، فقد دوّنت من وجهة نظر هؤلاء الرواة الذين غلب عليهم الميل السني، ودعوة الانتساب للسلف الصالح، وتأسيس مصداقية النص الصوفي ومشروعية التجربة الصوفية عبر الاستناد إلى النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وآثار السلف وأخبار الصحابة الأول.. إلخ، ناهيك بالنزعة الدفاعية ضد الاتهامات الدينية والأخلاقية التي وجهت للصوفية، خاصة أهل الشطح والسكر، ومحاولة إدراج النص الصوفي داخل الحظيرة الإسلامية السنية، وعبر مرايا الشريعة الدينية الظاهرة، ومن ثم مهادنة الوسط الفقهي بدرجة ما، ولعلها كانت محاولات شديدة الذكاء والمراوغة، واسعة الحيلة لاستيعاب الآثار المآساوية المخيفة فيما بعد مأساة الحلاج، وحيث وصل الصراع بين الصوفية والفقهاء الرسميين إلى ذروته الدموية الفعلية.

إعادة صياغة

أيّا كانت مزاعم التدوين ودوافعه أو أسبابه المعلنة والخفية، بل هواجسه التي أظنها اخترقت الدعاوى الظاهرة المعلنة بما ينقضها في كثير من الأحيان ويسير بها في اتجاه مغاير لما كان ينتظر منها، والتي مازالت في حاجة للعديد من الدراسات الجادة الرصينة للنصوص نفسها، فإن ما يعنينا هنا - على وجه الخصوص - هو إشكالية الرواية، أو لنقل إعادة صياغة وتشكيل الحضور الواقعي والتاريخي للصوفية الأول، بوصفه حضورًا ملتبسًا لا يخلو من غموض وإبهام، بل أسطوري مفارق وخارق في كثير من الأحيان. إنها محاولة ثرية ومعقدة من قبل الرواة، المسكونين بدورهم بتناقضاتهم الفكرية والدينية والتاريخية، لنسج عالم بأكمله يستكن بجموح المخيلة، ويستقي عناصره الأساسية من داخلها ليمنحنا رؤى حلمية مدهشة بل مشتهى سرابي الحضور يتأرجح على الأعراف متوترًا ما بين الواقع والحلم، وهواجس المثال المفارق المتعالي.

إن الواقع الوارد في هذه الروايات إن صح أنه واقع، والمصطلح نفسه إشكالي كما هو معروف، لا يمكن اختزاله (أي هذا الواقع) أو التعامل معه بسذاجة، متصورين علاقات انعكاسية مباشرة بين الواقع الخارجي، والنصوص، وفقا لتصورات المحاكاة الكلاسيكية. كما أنه ليس مجرد تخيل صرف، أو محض انطباع عاطفي رومانسي ذاتي مغرق في الخصوصية لهؤلاء الرواة المعلنين، ودعاواهم الظاهرة. إن هذا الواقع المروي، قد يكون إعادة إنتاج شديد التعقيد والخصوصية والابتكار، بما لا يقارن أو يتصور مما قد يضعنا أمام حضور نصي متفرد، بل مستقل جذريًا عن الواقع، في معناه البسيط الفج، وعن راويه المعلن وأهدافه المدعاة، بما يتجاوز تمامًا سؤال الصحة التاريخية، بل ثنائية الواقع والتاريخ ليضعنا في عمق الالتباس الإشكالي فيما بينهما. في هذه اللحظة القرائية المعقدة الكثيفة تتراوحنا عناصر عديدة متصارعة، ومخيلة الرواة المليئة بالتناقض، والمفعمة بالهواجس المتنوعة، والرغبات المضمرة، بل والآخر المستتر الذي يناوئ دومًا ما يعلنه صاحب النص المعروف من أفكار وأهداف ورؤى تخايلنا بشدة صرامتها ومزاعمها اليقينية ووضوحها الوهمي. ناهيك عن مروي عنه متخيل محمل بدلالات خارقة، ومنطو على فتنة آسرة، وغواية لا تقاوم كحضور غير ممتلك، ومعنى وحشي لا سطوة لأحد عليه، ومساحة برحة لصياغة رواية تخييلية لا تكف عن التلويح باحتمالات تأويلية مدهشة تراوحنا بين الاعتدال والمثال المنشود عقليًا، والإفراد الخيالي الجامح، شديد العمق والنزق في آن، والذي يستمد مشروعية وجوده من رغبتنا العارمة في إنكاره وإقصائه، والتنصل منه، فإذا هو الغائب شديد الحضور والوطأة والجمال، والذي يتصدر المشهد ساحرًا ومخيفًا في آن ، يستدرجنا لفخاخه الماكرة، ولعلنا نسعى إليه بكل شوق ومغالاة وهوس!

أنماط جديدة لقراءة النصوص

ويظل السؤال قائما، كيف يقارب الباحث مثل هذه النصوص الإشكالية المبكرة المليئة بالمخايلات والمراوغات الآسرة؟

أتراه يكتفي بالانبهار المتوارى خجلاً، وادعاء موضوعية البحث العلمي، واتخاذ المسافة العقلية اللازمة لتتأمل الذات موضوعها بحياد وعقلانية باردة، فتصل للنتائج السليمة والمقنعة؟ ومن ثم، فإن هذا الباحث يظل مشغولا بالتفرقة العقلية بين ما يمكن أن يقبل تاريخيا ودينيا وموضوعيا من هذه السير والروايات والتفسيرات، وبين ما لا يمكن أن يقبل منها. وحينها يراكم المعلومات، ويلم بكل التفاصيل، أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى، محتشدًا بالأسانيد والبراهين والحجج المنطقية والتاريخية الوثوقية الصارمة وفقًا لمنهجية التراكم والعنعنة عن مصادر الثقة المعرفية، ومصداقًا للمعايير الأكاديمية المستقرة والمألوفة والمتعارف عليها.. إلخ. وهو الأمر الذي نتج عنه العديد من الأبحاث والمؤلفات التي تكرر بعضها البعض، أو تنقل عن بعضها البعض أو عن مصادر واحدة بعينها، وتُراكم المعلومات والأسانيد والحجج دون أن تقدم لنا فكرة إبداعية جديدة أو كشفًا لافتًا لإنارة مساحة مظلمة أو ضبابية في نص من النصوص أو رواية من الروايات على صعيد الفهم المشتهى وإنتاج قراءة إبداعية متجددة لهذه النصوص، وليس محض تكرار معلومات وتراكم مؤلفات هي أقرب لأرشيف ضخم مليء بالمادة الخام، التي تحتاج للقراءة والتأمل وإعادة النظر والتفسير. لعلنا نحتاج إلى نمط مختلف من القراءة لهذه النصوص المبكرة الإشكالية، ربما يحق لنا أن نستسلم لنمط من الفتنة النصية المشروعة، حيث نسمح لأنفسنا بتجاهل المعايير الموضوعية المزعومة، فنغوص في أعماق النصوص في محاولة يائسة، لكنها لذيذة وآسرة لاستتقاد المدار النصي إلى آخره، أو بعبارة أخرى، إنها محاولة للحفر داخل النص سعيًا للبحث عن احتمالات ممكنة للقراءة والتأويل. وكلما أوغلنا في العمق، متوسلين بكل أدواتنا المعرفية الممكنة، كلما استدرنا على ذواتنا وصعدنا ثانية للسطح نلملم الشظاير المتناثرة لما نتصور، ومن زاوية ما، أنها القطع الصغيرة المشكلة لكلية الصورة أو المعنى المنتج في هذه اللحظة القرائية بعينها. ومن المثير للانتباه في هذا السياق أننا كلما وضعنا قطعة من تلك القطع الفسيفسائية الملونة في الصورة، تبدى لنا المشهد في كليته، لكن غيابًا ما يوحي بعدم الاكتمال، واحتمالات جديدة للقراءة والتأويل، مازال النص ينتظرها بقدر ما يعدنا بها، وكأنه يتربص بقارئه المتجدد ويستفزه، بل يتحداه ويستنفره، لكنه لا يكف عن نصب الفخاخ له، وكأنه يعده ويتوعده في آن.

في مقابل نصوص كهذه لا يبقى أمامنا إلا شرف المحاولة وتقديم قراءة ما ضمن العديد من القراءات اللانهائية المحتملة والمتنوعة.
-----------------------------
* أكاديمية من مصر.

 

هالة أحمد فؤاد*