حلب في رحاب السيدة الجميلة وليد إخلاصي

حلب في رحاب السيدة الجميلة

ولدت حلب يوم كان التاريخ يجهل التدوين, وقد تحلّقت بداية في رحم صغيرة لأرض واسعة امتدت تضاريسها وتنوعت ما بين كثبان رمل وهضاب كوّنها الصخر وغابات اختارها الزمن القديم لتكون سورًا يفصل نهر الفرات من الشرق عن شواطئ البحر الأبيض في الغرب, وكأنما كتب على الصبية الشهباء منذ البداية أن تكون وسطًا.

يبدو أن إنسان المدينة النواة, وهو يشق لنفسه كهوفًا في تلال من حوار, كان يكتب الحماية لنفسه ولآلاف الأجيال من بعده, وتقوده غريزة البقاء إلى جعل (حلب) خطًا يهدف في ديمومته إلى ربط الزمن الضارب في القدم بالأيام الذاهبة بثقة نحو المستقبل.

وقد شهد التاريخ ولادة مدن كثيرة, شبت وترعرعت وقوي وجودها في ممالك ومراكز حضارية لامعة, إلا أنه ما يلبث عادة أن يطرق حزنًا وهو يشهد مدنها الواحدة تلو الأخرى, فكان له عزاء حقيقي في حلب وهي تعلن عن بقائها مستمرة في الحياة, متنامية أبدًا كشجرة الياسمين السحرية تتفتح نواراتها في الفصول كلها.

مَن ينكر أن الأحماض العاتية التي تذيب المعادن العنيدة, هي الأشد قسوة من الطبيعة? كذلك يمكن الاعتراف بأن هناك ما هو أكثر تأثيرًا في الحياة نفسها, أفليس هو (حمض الزمن)? وتتساءل عمن أذاب الحضارات والأمم والعمائر, فطواها في باطن الأرض وغطى عليها بتراب النسيان, أفلا يكون حقا هو حمض الزمن!

أتجاوز الحمض ذاك حلب, أم أنها لم تلق بالاً له?

إنها تفاعلت معه فاستمرت تنمو عبر السنين, وتتطور على إيقاع الحضارات التي تعاقبت عليها كمطرقة تشكلها فلا تمحوها, تغذي إسفنجتها الساحرة كي يتجدد شبابها في الحقب المتعاقبة, وهكذا أصبح لحمض الزمن وجه آخر مع حلب, فلم يذبها, عاجزًا عن إيقاف استمرارها.

زلازل استمرأت ابتلاع ما يقوم على وجه الأرض, وبينما تقع حلب على خط للزلازل إلا أنها قاومت بشجاعة نادرة, اهتزت وتساقطت أطراف منها, ولكنها في كل مرة كانت تقف على قدميها من جديد سيدة قوية تعطي للزمن بريقه.

على طريق الحرير

اجتذبت حلب جحافل الغزاة على مر العصور, من مغول وتتار وآخرين من قبل ومن بعد, حملوا إليها الدمار فما كان منها إلا أن حمّلتهم ذكريات القدرة على المقاومة والتمسك بالحياة, وما كان على المدينة المعتقة بعطر التاريخ إلا الاستمرار في التفتح كزهرة ترتوي بماء الخلود, ولتمضي تختال بفتنتها على شرفة الزمن كامرأة تجتذب آهات المحبين وشهقات الغيرة والحسد.

وأشفق الأهل على سيدتهم, حبًا وخوفًا, فزنروها بسور زينت أحجاره خصر الجميلة, فكان يرد عنها طمع الغزاة, وبات النطاق بأبوابه المنفتحة على الجهات كلها بأبراج الترقب والحماية كإطار يحتضن لوحة مازالت ريشة التاريخ ترسم عليها خطوطًا وظلالاً ومساحات من عمران تتوسطها القلعة, والتي باتت مركزًا تطوف من حوله أطياف متعددة المشارب من ثقافات متعاقبة قُبل لجوئها إلى رحاب المدينة بالترحاب والأمان.

كذلك ساقت الأقدار إليها (طريق الحرير), لتصبح حلب واحدة من أهم محطاته في الشرق القديم, ولتكون من أفضل مراكز التواصل مع العالم, فبات أشبه بالشبكة التي تصطاد الثقافات المختلفة التي حملتها القوافل وهي تحط في رحابها كغنائم تغني حضارتها المتعددة الوجوه. وانتشرت عشرات الخانات في المدينة لتستقبل الوافدين من تجار وطلاب معرفة, وتفرد مكانًا للقناصل واللاهثين وراء الآثار والتاريخ وقد شدوا الرحال إليها يعاينون حقيقة المدينة فكانت الدهشة ترتسم على عيونهم وأقلامهم التي تسجل الوقائع والحجر, ومازالت خانات كثيرة قائمة بالرغم من مرور كل تلك السنين, وهي تحمل ذكريات القادمين وهم يحولون الأماكن تلك إلى منتديات للمثاقفة وتبادل المنفعة.

ومازال خان الوزير قائماً وكأنه ابن عصر لم تصبه الشيخوخة, وخان الجمرك والعلبية والفرايين والصابون والشونة والنحاسين, وغيرها من الخانات التي يلح وجودها على أن تشارك الآثار الأخرى في تزيين صدر المدينة القديمة, وهي تبرهن على أنها مازالت من أكثر المناطق في العالم تمسّكًا بدلالات العمران الجميل, ودليلاً على أهمية التفاعل الحيوي مع أنحاء المعمورة, فخان البنادقة الذي جُعل لفترة طويلة من أجل استقبال تجار البندقية, مازالت آثار لغته التي حملها معهم البنادقة تشع في حسابات تجارة حلب.

ومازالت أسواق حلب القديمة التي تطل عليها القلعة, تعج بالحياة والعمل منذ أكثر من ألف سنة, وقد احتفظت لنفسها بمكانة المركز التجاري العريق للمدينة وحواضرها والمناطق المحيطة بها, وتألقت لعهود وكأنها من أكبر (سوبر ماركات) العالم القديم, فالأسواق التي تفرّعت في أكثر من عشرة كيلومترات عن الجسد الطويل لمركزها, حفلت بكل ما يحتاج إليه الإنسان, يقصدها لمأكل ومشرب, وعندما يفتش عن كساء, وإذا ما طلب الزواج أو استعد لدفن ميت, أسواق مغطاة كسراديب مُنارة بأشعة الشمس تنزل عليها من السماء, كما تحمي الناس من برد وحرّ بأسلوب بنّاء استوحى قوته من طبيعة المدينة المقاربة فتغلبت الأسواق على حدّة التقلب للأجواء وهي تقوى بعذوبة الارتياح.

أسواق مزركشة بالمنتجات من كل نوع, سوق للصاغة, وآخر للمناديل, وسوق العقادين, سوق الصابون, العطارين, الصرماياتية, الحبال, وسوق العتقية, السقطية, الدهشة وسوق استنبول, العبي, الجوخ, وسوق الشام وغيره. وشاركت (القيساريات) ابنة الأسواق بالتبني, وهي كما الخانات في عمارتها إلا أنها اختصت بحرفٍ مختلفة, شاركت في إعطاء المدينة أرضية لنمو الصناعة رديفة التجارة, اللتين حوّلتا المدينة إلى بؤرة اقتصادية اكتملت بتوسط حلب لمناطق زراعية هي الأكثر إنتاجًا في سائر البلاد.

عاصمة العطاء والخصب

أهي عاصمة العطاء? مدينة تقودك دومًا إلى تلمّس واقع خصب لنمو مجتمع مدني يكاد يتكامل بمدارسه ومكتباته وحماماته العامة وبيمارستاناه وخاناته وأسواقه وقساطله التي تسقي المقيم وتسعف العابر, وما نظام (الوقف) في تاريخ حلب الإسلامي بخاصة والديني بعامة, إلا شبكة متماسكة لبنية اجتماعية قدمت أشكالاً من التعاون والتكامل ضمنت لطلاب العلم والمحتاجين والغرباء مساندة لا تنسى. ولم تهمل الأوقاف عالم الحيوانات فأعدت للضعيف منها والمشرد كامل المأوى والطعام, فكان التعاطف النبيل علمًا رفرف على حياة البشر والحيوان.

وكانت مياه (قويق) الهادرة شريان حلب التي وجدت في ضفتيه مساحة تتمدد فيها, ويوم أوقفت تركيا جريانه تحول مجراه إلى جرح عميق في جسد المدينة, إلا أن الأخدود المتشقق لم يوقف تمددها المتواصل في عمران حديث وحدائق عوّضت على حلب فقدانها البساتين المزدهرة على مر التاريخ الطويل. وإذ حمل قويق معه الطين ليمنح الأرض خصوبة, كانت مقالع الصخر تمد العمائر بالوسائل الراسخة لتكوين ثقافة الحجر الذي سيمنح المدينة شخصية متفرّدة هي مزيج من الصلابة في النهوض والرقة في التشكيل, وكما حدث تمامًا مع الوجه الموسيقي لحلب, وقد تماسكت قوانينها الأشبه بأسلوب البناء, تجلت الألحان وأصوات المغنين والمنشدين في عذوبة كان نسيجها واحدًا من المراجع الأكثر أهمية للموسيقى الشرقية السالفة والقائمة.

وحدث لهذه الفرادة الموسيقية أن أثرت في ظاهرة لا مثيل لها في أي مدينة إسلامية أخرى قامت على وجه البسيطة, إذ تجلّت في الإعلان عن رحيل إنسان من شرفة مئذنة مسجد أو جامع, فكان المؤذن ولايزال ينشد بأذان الميت تسانده جوقة, لتكون نهايته إعلانًا عن اسم الميت. وقد جاء ذلك النشيد الجنائزي نموذجًا لا مثيل له في تآلف التأثيرات السوريانية والبيزنطية إلى جانب الصياغة الإسلامية الحلبية في الكلمات وبنية الإطار.

وبمثل ذلك التوافق الحضاري بين ثقافات مختلفة في (نشيد الموت), سنجد صورة المجتمع في المدينة, عمائر دينية واجتماعية حملت بصمات الحمدانيين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والفاطميين والمماليك والعثمانيين, كما وُجدت, أو أنها نمت, في حلب فرقٌ إسلامية مختلفة, إلى جانب ما يمكن أن يقال عن المذاهب المسيحية المتعددة في رحاب حلب والتي تدق نواقيس كنائسها لحنًا يتساوق مع تكبير المآذن في أنشودة التوحيد والتوحد.

يا لصدر المدينة يتسع لأعراق وقوميات ومعتقدات ومذاهب كثيرة كان لها الأثر في تطريز الثوب الحلبي بالمتانة المرنة تضاهي بها نعومة الحرير ودفء الصوف ورقة القطن! أهو الثوب الذي ارتدته حلب في احتفالها الدائم بأمومة لا مثيل لها وهي ترضع الجميع من ثديها الذي لا يعرف الجفاف? وكما (القد الحلبي) عملة بوجهيها المديني والديني, فإن المدينة جوهرة تعددت سطوحها لتعكس الأشعة المتباينة مع احتفاظها بالجوهر الواحد, وكأن التعددية في حلب باتت المدخل الشرعي لمفهوم التوحد في الوجدان الكلي, فهل لعبت الكيمياء في حلب دورًا في صبغ الثقافات المختلفة بمراجعها المتعددة بما يسمى باللون المحلي?

ألا يقال عن جامع الأطروش أنه في نهاية المطاف عمارة حلبية, كما يقال عن كنيسة أرمنية أنها عمارة حلبية أيضًا? وكذلك كنيسة الشيباني والمدرسة الحلوية. أهي حلب ذلك المطبخ الحضاري القائم وقد استكمل وسائله لتقديم ذاته? أيكون الخلود من صفاتها, أو أنها عقدت صفقة البقاء منذ إنسان الكهف الأول إلى كائن النور المعاصر?

ولا ريب في أن الأسوار القديمة بأبراجها اليقظة لم تكن خط الدفاع الوحيد عن وجود المدينة, بل كانت أيضًا السراديب التي امتدت كأذرعة الأخطبوط في بطن الأرض لتصبح الممرات الآمنة يهرب منها الناس إلى خارج المدينة إذا ما دهمها الخطر, وهكذا ارتبطت حلب ومن حولها كثير من الدور والمرافق بفضاء التحرير المحيط بحلب. فهل يمكن الاعتراف بدهاء المدينة في حماية أهلها?

تضاريس الطبيعة والإنسان

وكانت التلال الطبيعية التي انتشرت في المدينة قد جاورتها أخرى مصطنعة, فجعلت تلك التضاريس الجغرافية تشرف على السهول المنقوشة بالبساتين العامرة وبكروم الفستق الحلبي وأشجار الزعرور والقراصية والتوت والتين, وامتدت أمام باصريها حقول القمح والشعير والعدس والقطن. إلا أن التضاريس الأهم التي ولدتها المجتمعات الحلبية المتواترة أو أنها احتضنتها على مر العصور, فقد عبرت عن حضور تاريخي مدهش لترسم جانبًا خطيرًا من الشخصية المحلية والآفاق الروحية للجانب المادي الملموس للمدينة. وكانت تلك التضاريس متمثلة في الآثار القائمة والشخصيات الإنسانية وهي تخلف ببصماتها أفكارًا ومواقف وإبداعات لتصبح بمنزلة الأوسمة التي تعلق على صدر السيدة الجميلة.

فالآثار القديمة الباقية حتى اليوم, هي التضاريس التي صنعها الإنسان كقطع هائلة من الحلي الحجرية, وقد حفظت للتاريخ هيبته الفاتنة, وقد توضّعت تلك الآثار في المركز المديني الأول لتطوف من حوله شاهدة على الصمود الذي تمثل في القلعة الساحرة باستعلائها وهي تشع بالتعاطف الذي منح المدينة تلك الصفة. وكانت القلعة قد حفظت مسيرة الزمن بأمانة منذ أيام الحثيين مرورًا بالمراحل البيزنطية والرومانية والعربية والإسلامية, ولتشكل رمزًا للحصانة في وجه الفرس والتتار والمغول. ولم تتوقف القلعة, وهي حلب المدينة بداية, عن التمدد المشع في العمائر التي تحلقت من حول خندقها لتبسط لها الطاعة وتنعم بالرعاية, فكان الولاء من الحقائق الباقية ممثلة لعظمة الزمن المتجسد في روعة التل العظيم.

ونجد من التضاريس, الجامع الكبير أو الأموي, وليست أهميته تأتي من كونه من أجمل المعابد الإسلامية فحسب, بل لأنه من الرموز الدينية السابقة واللاحقة في تقلبها على المدينة. ولقد قاوم الجامع انتهاك الاعتداء والحرق فبقي شاهدًا على قيام أسس من الجماليات التي ساهم تضافر الإيمان مع الإتقان بزرعها في التربة الحلبية, وبات الأموي الكبير يرمز إلى عظمة التوحيد في بناء مجتمع إنساني متكامل.

ومن التضاريس أيضًا, جامع (الأطروش) الذي مثلت واجهته الغربية نموذجًا للحداثة في العمارة الإسلامية منذ أكثر من ستة قرون, وذلك في خروجها عن مبدأ التناظر المتعارف عليه محدثة ثورة حقيقية في فن المعمار الحلبي, كذلك هو (خان الوزير), أضخم خانات حلب التي مازالت قائمة, وقد دلت زخرفة واجهته من الداخل والخارج على رهافة حس ابن البلد المعمار ولتؤكد على أن هذا الخان هو واحد من التضاريس البارزة.

مثلث التعليم

ويشكل المثلث التعليمي الذي تربط أضلاعه المدرسة الخسروية في المدينة القديمة بمدرسة السلطاني ومعسكر الجامعة في الطرف الحديث من المدينة, رمزًا لتضاريس العلم وتطوره قديمًا وحديثًا في حلب. فالخسروية, المدرسة والتكية, هي أول جامع بني على طراز كنيسة أياصوفيا منذ حوالي خمسة قرون, وقد أطلق عليها سابقًا لقب (أزهر حلب). والسلطاني التي بنيت مدرسة منذ أكثر من قرن, اعتبرت في مكتب عنبر في دمشق من أوائل مدارس التعليم الجديد, وتعرف الآن باسم ثانوية المأمون ومنها خرج عدد كبير من رجالات سوريا الحديثة. وأما جامعة حلب التي أسست في منتصف القرن الماضي فهي تضم بين جدرانها معظم فروع العلم بالإضافة إلى معهد التراث العربي, وباتت رمزًا للحداثة الحلبية بالإضافة إلى أنها أصبحت رمزًا علميًا مرموقًا لشمال سوريا. وهذا المثلث التعليمي لم يكن من التضاريس فحسب, بل هو يحمل دلالة على جوهر التطور لمراحل تنامي المعرفة في مدينة عرفت أهمية التعليم ورعاية المعرفة.

ومازال في الحديث عن التضاريس عدد من العمائر المخضبة بعرق الزمن كالبيوت القديمة القائمة مثل (الوكيل) و(أجقباش) و(غزالة) تذكر, إلى جانب بيمارستان (أرغون الكاملي) رمز جمال العمار ونبل الإحساس الاجتماعي بأهمية الرعاية الطبية بأرقى الوسائل كمشفى يتبع أفضل الطرائق في احتضان المرضى, وكان قد بني منذ أكثر من ستة قرون وقدم خدماته لمئات من السنين.

ويستدعي استعراض التضاريس الحلبية المتمثلة في الإنسان, مئات الحجارين والبنائين الذين كانوا الصاغة الحقيقيين لجواهر العمارة التي تجدها في الأبنية المشادة والزخارف والنقوش المتقنة, فقد كوّن هؤلاء علاقة مبدعة ربطت ما بين البيئة الطبيعة والنزوع الروحي إلى تطويع الحجر للحاجات الإنسانية ولتجلي الفن في التعبير عن ثقافة تؤكد وجودها بقوة. وإذا كانت موسيقى الحجر قد أصبحت متعة للعين, فإن الإبداعات الموسيقية التي وطد أشجارها السامقة في الوجدان المحلي والعربي مئات الملحنين والمغنين والعازفين من أمثال عمر البطش (1882-1950) وعلي الدرويش (1882-1952) وبكري الكردي (1909-1979), وكميل شمبير (1892-1934) وصباح فخري (1933) وآخرين تشكل أعمالهم مجلدًا موسوعيًا يغني مكتبة الفن الموسيقي العربي, وليجعل من حلب واحدة من المراكز المهمة القليلة في أرجاء الجغرافيا العربية وينبوعا فياضا من هذا الفن الجميل.

وبالرغم من انقضاء مئات السنين فإن حلب مازالت تحفظ في أعطافها ذكرى شخصيتين من أبرز رجالات العلم والتصوف, الأول السهروردي (1154-1191) والثاني هو النسيمي (1370-1417), ويحمل معنى استعادتهما الدائم على المستوى الفكري والشعبي بالرغم من ظروف مقتلهما التراجيدي, مغزى عميقًا في تمازج الديني الروحي بالحياتي السلطوي ويظهر مدى الارتباط القوي للذاكرة الحلبية بذلك التماذج, وكأنه يحاول أن يعوّض عن اضطهادهما بتعميق رسوخهما في الوجدان كأشكال ميتافيزيقية لتضاريس إنسانية شفافة.

تضاريس وأفكار

تضاريس أخرى تجلّت في شخصيات فكرية وأدبية وسياسية كثيرة, كان منها عبدالرحمن الكواكبي (1855-1902) الذي جُعلت من مؤلفيه (أم القرى) و(طبائع الاستبداد) شرارات ساهمت في إغناء مواد الفكر العربي, السياسي والاجتماعي, الحديث. ورسم عمر أبو ريشة (1908-1990) بشعره علامة على جبين حلب فارتبطت به, وكان تعدد عوالمه الشعرية عربية وعالمية يطغى على ما عداه لفترات طويلة متوجًا إياه حالة متفرّدة. وشكل الفرنسي جان سوفاجيه (1901-1950) حال عشق حلبية, فكانت ملحمته الوثائقية التي كتبها عن المدينة وتابعها في أبحاث قيمة تلهث وراء الزمن الحلبي على امتداد التاريخ, وباتت أعماله تكئة لأعمال أخرى قام بها كثيرون من بعده. وجاءت موسوعة (نهر الذهب في تاريخ حلب) للشيخ كامل الغزي (1853-1933), مع مصنفات (أعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء) للشيخ راغب طباخ (1877-1851), لتغني جهود التوثيق المتميزة وهي تبرز جوانب من شخصية المدينة ولترشحهما لنيل شرف التضاريس. وكان سعد الله الجابري (1891-1947) واحدًا من الرموز الوطنية للاستقلال, ودليلاً على ظواهر التمدن السياسي, فبات علامة حلبية بامتياز على صدر الوجدان السوري الحديث.

وإذا كانت الآثار الباقية مع العمران الحديث بمنزلة الجسد الحلبي, فإن اللغة تمثل روحها المتجلية في مختبرها الخاص, وقد تفاعلت عبره وداخله العوامل المختلفة من ثقافات متعاقبة على المدينة. وستحظى اللغة تلك بغرام شيخ عشاق حلب العلامة خير الدين الأسدي (1900-1971) الذي توج عمره وتآليفه المدهشة بعمل فريد من نوعه هو (موسوعة حلب المقارنة) التي قبض فيها على اللهجة المحلية (محكية وفصيحة) لتصبح مرجعًا للمعلومات التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية, فكان جهده الفردي فيها يعادل في تحققه عمل أكاديمية متخصصة يعمل فيها عشرات العلماء والخبراء لإنجاز معادل موضوعي للروح الحلبية, وكانت جامعة حلب بعد وفاته قد قامت بطباعة الموسوعة في سبعة مجلدات كبيرة لتصبح مرجعًا فريدًا للباحثين ومفتاحًا لأهل المدينة يشرع لهم الأبواب لفهم الأرضية التي نبتوا فيها أو زرعوا في ترابها. يقول الأسدي في مقدمته: (إن غاية التأليف كانت موجهة إلى القصور وما إليها, أما الشعب فهدر في حسابهم وتفاهة موضوع), ويقول: (يقيني أن ما من كتاب تتجلى فيه نبضات الشعب وأعطياته الروحية والنفسية والمادية كما يتوافر في موسوعتي), ويتابع حديثه عن جذر الكلمة الحلبية (كالعربية والسريانية والعبرية والتركية والفارسية حتى الكردية والهندية والسومرية, وثمة الإيطالية أمدت لهجة حلب كثيرًا لاسيما مصطلحات التجارة). وفي دفاعه عن الفصحى خوف إساءة فهمه يقول الأسدي: (ومعاذ المروءة والفن أن ننكر فضلها وأنها حملت مشعل الحضارة).

مفردات حية

وتدل موسوعة الأسدي على مفردات لهجة حلب التي احتوت: مقابلتها مع غيرها, قواعدها, أمثالها, حكمها, تهكماتها, تشبيهاتها, استعاراتها, مجازاتها, كناياتها, تورياتها, جناسها, معتقداتها, خرافاتها, كتاب اللباد, حكاياتها, سبابها, تمجكاتها, شعرها, مواويلها, أغنياتها, ألغازها, تصحيفاتها, معاضلاتها, دعواتها لفلان وعلى فلان, مزاجها, نوادرها, هنهوناتها, مناغاة أمهاتها, شدّياتها, عاداتها, نهفات مجانينها, ملابسها, مطابخها, أهازيجها, قراها, بواديها, حاراتها, ألعاب سهراتها, تملقاتها, إحصاء عام, ثقافة عالمية تشترك فيها, من لوحات أناسها من عثرات أقلامهم, من اصطلاحاتهم, من نداء باعتها, من آدابها, من تعبيراتهم الحديثة, من عكاكيز كلامها, من تندراتها, من ألعابها, من عنجهياتها, من لخماتها.

وكان في أحفورات الأسدي اللغوية مدخل إلى رسم لوحة بانورامية لشخصية حلب في عمق تجذرها التاريخي والثقافي, فبات الرجل معجمًا حقيقيًا لمدينة منحته تعدديتها الفسيفسائية فرصة نادرة للغوص في أبعادها, كما أن موقعه من التضاريس الحلبية أجلسه في مقدمة صفوف القاعة التي تجمع المنتجين والمحبين لحلب على مر التاريخ. ويمكن الادّعاء بأن عمل الأسدي الموسوعي هو من الظواهر النادرة إنسانيًا في دراسة مدينة بذاتها, فهو بها ممسكًا بمفتاح لغتها المحكية ووقائع وجودها قد انتهى إلى أن اللهجة هي الشخصية كما أنه لا يمكن سبر أغوار الشخصية إلا بمعرفة لغتها.

ولجأت المدينة, في تسمياتها لشوارعها وأحيائها وأزقتها وساحاتها, إلى استدعاء الأسماء من تلك التي كوّنت تضاريس المدينة بالإضافة إلى انفتاحها على الكون العربي والعالمي لاختيار رموز ساهمت في إغناء البلد والعالم على حد سواء, مما يدل على قابلية المدينة للتحرر الفكري. وذهبت المدينة في آلاف الأسماء التي أطلقت على شرايينها إلى شخوص ومدن وأحداث وقيم أغنت التاريخ والروح, فهل بانت لحلب صفة أخرى هي الوفاء? وهل في تلك الأسماء ملامح جادة لحفظ الذاكرة المهددة أبدًا بالنسيان?

من الأسماء الحلبية المختارة كان: الأسدي وعمر أبو ريشة وأبو العلاء المعري وعبدالرحمن الكواكبي وعمر البطش وبكري الكردي وفتحي محمد ولؤي كيالي وفاتح المدرس وراغب الطباخ وكامل الغزي والمطران جرمانوس والنسيمي والمطران كبوشي.

ومن الأسماء العربية والعالمية, ابن عربي وابن رشد والمتنبي وسيف الدولة وجمال عبدالناصر وطه حسين وأحمد أمين والأخطل وجبران خليل جبران وقاسم أمين والشيخ محمد عبده وعمر بن عبدالعزيز وطاغور, كما احتل اسما قارئين للقرآن مع آخرين لوحات شوارع جديدة هما الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى اسماعيل, واستخدمت أسماء مدن وأشجار وملامح جغرافية بارزة, كالقدس والقاهرة والكويت وقنسرين والنخيل والزهور والنيل والفرات. ولقد كان في آلاف الأسماء دليل على استعداد المدينة في توسعها المستمر للاحتواء المتنوع الذي ليس له حدود من أجل التعبير عن الشخصية الحقيقية للمدينة في تفاعلها مع الآجر وفي تعدديتها الغنية.

كثيرة كثيرة هي مدن العالم الأشبه ما تكون بحكاية أو رواية لها حدود مرسومة, أما حلب فهي كالملحمة التي يتوجها فصل فتحت نهايته على الاستمرار والديمومة. ملحمة أقدامها في تراب أرض عذراء ورأسها يعانق الفضاء المترامي الأطراف. وتلك هي حقيقة المدينة التي انحنى الزمن لها حبًا واحترامًا فائقين.

 

وليد إخلاصي