الهاشمي.. إحياء تراث الكويت البحري وفاء شهاب

الهاشمي.. إحياء تراث الكويت البحري

على بقعة ساحرة من شاطئ الكويت يقبع مركب الهاشمي2, رمزًا أخّاذًا على التراث البحري العريق الذي مازالت الكويت تحتفظ به في وجدانها. والهاشمي الجديد هو صورة فخمة من المركب الأصلي الذي طالما مخر عباب بحار الهند وواجه عواصفها وواصل سيره بفضل سواعد الرجال السمر من بحارة هذا البلد. الهاشمي الجديد هو رمز لهذه الملحمة التي لا تُنسى.

لم يكن حسين معرفي يتصور أن تشهد موسوعة جينيس للأرقام القياسية على الجهد الكبير الذي بذله لإعادة إحياء السفينة الشهيرة, وأن تقدم له شهادة بأن سفينة الهاشمي 2 المملوكة لآل معرفي في الكويت هي أكبر مركب خشبي في العالم, لقد كان يحلم منذ عام 1986 بإحياء الهاشمي ويقول:: (إن الحلم بأشياء عظيمة أمر طبيعي لكل إنسان إلا أن العمل على تحقيقها أمر مختلف تماما).

وجسد السيد حسين معرفي تفانيه للمحافظة على تراث الكويت البحري للأجيال القادمة عدة مرات, فالهاشمي 2 ذلك المركب الضخم ذو الحجم الهائل والذي يلوح عاليا فوق الفندق الذي يحتضن السفينة, هو مشروعه الثالث والأكبر طموحا في مجال المراكب الشراعية. فقد كان محمدي2 هو الأول والمعروف بأنه مطعم البوم ثم تبعه (الغرير) وهو مركب ترفيهي يطوف أمام سواحل الكويت حاملا شكل وعراقة التصميم القديم لسفن الغوص. لكن الهاشمي2 المركب الشراعي الحالي فاق كل هذه المشاريع وأثار إعجاب المشاهدين من مواطنين وأجانب على حد السواء, حتى بات يوصف بأنه (تايتانيك الكويت).

ولأسرة معرفي تاريخ عريق في بناء السفن الشراعية, فمنذ أكثر من ربع قرن بقليل بنى الجد الأكبر لحسين معرفي (البغلة) وهي نموذج من السفن شاع في مجال الشحن التقليدي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهي تتميز بحجمها الهائل والأكبر بين السفن الشراعية. فهذه (البغلة) ذات المقدمة والرافدة المستعرضة والمؤخرة وفتحات النوافذ المحفورة بطريقة خلابة كانت أكثر المراكب زخرفة بين كل المراكب الشراعية العربية. حيث كان معدل السعة التخزينية لهذه السفن يتراوح بين 350 و450 طنا. وكانت غالبا ما تستخدم لنقل البضائع في أنحاء الخليج من وإلى الهند وإفريقيا. وكما هي الحال في مصير العديد من مراكب الإبحار الرائعة التي تجوب مياه الخليج فقد اختفت (البغلة) من جيب مياه الخليج ومن واجهة المياه وانضمت إلى مجموعة المراكب البائدة والهاشمي (2) هو امتداد أصيل لهذا النوع من عمارة السفن.

ويقول حسين معرفي إن قيامه بالعمل على تحقيق طموحه بدأ في العام 1985 ببناء (بغلة) ذات حجم كبير. وكان الأمر يحتاج أولا إلى أن يجد لها مكانا لصناعتها بالقرب من شاطئ الخليج. ويضيف أنه لأجل ذلك فقد قام باستصلاح 6000 متر مربع من البحر بعد أن تم استئجارها من البلدية لتحضير مرسى ممتد بشكل لسان في البحر.

وأوضح معرفي أنه نظرًا لأن العمل لا يمكن أن يتم إنجازه في غير فترات الجزر. لذا فقد كان التقدم بطيئا ولكنه كان منتظما خلال النصف الثاني من 1988, كان خلالها معرفي لا يعرف الهدوء والسكينة وقد شغل الكثير من وقته باحثاً عن المعلومات حول المراكب الشراعية البائدة, وإمكان اختبار فرص التقنيات الحديثة في صناعتها, وكيف يمكن تطبيقها في حوض بناء (البغلة) الجديدة وإيجاد الأخشاب المناسبة والبحث عن النجارين المهرة في صناعة السفن التقليدية ذوي الخبرة العالية, ولم يتوقف الأمر عند ذلك ولكنه عمل على تأسيس مخرط وورش عمل الحدادة والمسبوكات لتشكيل وتصنيع مختلف الأجزاء والملحقات الضرورية للسفينة. وقد استعان معرفي في ذلك بخبرته الواسعة في بناء مركبيه الآخرين (المحمدي 2) و(الغرير).

ويشير معرفي إلى أن أكبر العقبات التي واجهت المشروع تمثلت في الغزو العراقي المأساوي للكويت في الثاني من أغسطس 1990 الأمر الذي تسبب في توقف العمل بالتحضيرات الأرضية لمرسى الهاشمي2 حتى النصف الثاني من 1995. لكن مع بداية الاستعداد للتصنيع الفعلي للسفينة بدأت الرحلات من وإلى الكاميرون والسويد وساحل العاج, سافر حسين معرفي للترتيب لاستيراد الأخشاب التي اختارها للبناء. ولضمان جودة الخشب فضل أن يراقب شخصيا قطع الأشجار وشحنها. أما بالنسبة للصواري وعوارض الأشرعة وقوائم الصواري فقد تم استيراد جذوع من أشجار الصنوبر والأريغون وهي الأكثر ملاءمة وجاءت هذه المرة من الولايات المتحدة الأميركية وقدرت كمية الخشب التي تم استهلاكها لبناء الهاشمي بحوالي 3000 متر مكعب.

المستشار الصديق

محمد المسكني وهو صديق ومعلم حسين معرفي منذ فترة طويلة ويكنى بأبو مبارك وهو بحار و(نوخذة) ربان سفينة متمرس تطوع للقيام بدور المستشار للمشروع, أي أنه كان حلقة ربط بارزة بين عصر الإبحار بواسطة السفن التقليدية والتقنيات الحديثة في مجال إنشاء السفن. وعلى الرغم من كونه في الثمانينيات من العمر فإن عمله الطويل في ركوب البحر وسبر أغواره أكسبه معرفة عميقة وعلاقة وطيدة مع نجاري بناء السفن في (كاليكوت) بساحل الهند ومركز بناء السفن الخشبية في ساحل مالاباد في الجنوب. وقد عمل أبو مبارك أيضا مستشاراً لمشروع معرفي في كلتا السفينتين السابقتين اللتين تم بناؤهما في (كاليكوت) وساعد في اختيار الحرفيين المؤهلين وتسهيل العمل. ومنهم كبير نجاري السفن (في كيه ناريانان) الذي حضر من بيسبور وهو مركز لبناء السفن في كيرالا بجنوب الهند وقد أتم يوبيله الذهبي في عمله كنجار تقليدي لبناء السفن الخشبية وأضاف إلى رصيد شهرته كرجل ناجح في إدارة مشاريع مئات المراكب الشراعية.

في الوقت نفسه فإنه تم تجميع الرجال الذين اكتسبوا تدريبا استثنائيا من نوع واحد محدد من العمل, مثل صانعي الثقوب أو الحفارين ونجاري التكسية بالألواح الخشبية وعمال التثبيت وعمال النشر وعمال الجغطة وصانعي البكرات ونحاتي الخشب وذوي المعارف والخبرات العميقة في مجال بناء أحواض السفن التقليدية الهندية في كيرلا لبناء الهاشمي2.

وقد تم اختيار أكثر من 175 عاملاً من المهرة والحرفيين والنجارين والحدادين واللحامين وفنيي المخارط وفنيي المصبوبات والكهربائية والمساعدين المهرة لزخرفة الهاشمي2, وأخذت عملية تلوية الخشب لتأسيس القاعدة منهم ثلاث سنوات من العمل.

البداية الفعلية

في فبراير 1997 انطلق البناء مرة أخرى وبعد توقف طويل لإعداد الهاشمي, وبدأ بوضع (البيص الطولي) - أي قاعدة السفينة - غير أنه سبق ذلك العديد من الأعمال والتحضيرات استمرت عدة سنوات وكان البيص ذو القطع الست يبلغ من الطول 53.75 مترا ووزنه حوالي 35 طنا. وتجاوز طول المقدمة 27.10 مترا وذلك لوجود تمثال منحوت في المقدمة موضوع بشكل خاص في الأعلى. كما أن نموذج المؤخرة المسطحة له دعامات خلفية متينة وقصيرة تبلغ 5.75 أمتار وتمثل القاعدة أساس (البغلة) ويختال الهاشمي بطول كلى هو 83.75 مترا وعرض 18.5 مترا وتم تثبيت حوالي 80 طنا من المسامير المصنوعة يدويا ذات أطوال تتراوح من نصف متر إلى متر واحد. والعديد من البراغي التي تستخدم في التثبيت التي يبلغ طولها من متر واحد إلى 3.5 أمتار في هذا الهيكل الخشبي, وقد تم سبكها في مركز حدادة معرفي الذي يعمل منذ 1986 لهذا الغرض.

وكانت الأجزاء والقطع المعدنية والملحقات الكبيرة مثل خاتم الدفة ومحاور ارتكاز الدفة والنوافذ وفتحات الإرساء والمدافع مصبوبة من النحاس الصافي قد تم إعدادها في مركز السبك التابع لمعرفي أيضا.

وفي جولة في الحوض لا يستطيع المرء أن يبعد عنه الإحساس بالدهشة. فطول الدفة تبلغ حوالي 8 أمتار وتزن حوالي 3 أطنان, ويبلغ قطر عجلة التوجيه مترين وهي قطعة فنية بحد ذاتها تثير الإعجاب.

ويرى كبير نجاري السفن (ناريانان) أن أكثر الأعمال الشاقة والمستهلكة للوقت في بناء السفينة الخشبية هو عملية التصفيح, وهي عبارة عن بسط وثني صفائح ذات سماكة 11 سم لتشكيل الهيئة المطلوبة لجسم السفينة بطريقة الجلفنة لصفائح ملتصقة تكسى بالنحاس حتى ارتفاع خط المياه كما هي الحال في أي سفينة بحرية.

وبلغ ارتفاع (الدقل) وهو العمود الرئيسي للسفينة 50 متراً وقياس قطريه في الأسفل والأعلى 90سم و75سم على الترتيب. وللصاري القلمي البالغ طوله 40 مترا قاعدة ونهاية نصف قطرها 75سم و60سم. ويبلغ الوزن الإجمالي للهاشمي 2 حوالي 2500طن.

ويختلف الهاشمي عن بقية سفن (البغلة) التقليدية ذات السطح المفرد والحوض العميق الواسع الذي يستخدم في نقل البضائع بتعدد الأسطح, وذلك ليتناسب مع الغرض النهائي الذي صمم من أجله.

وقد فرشت أسطح الهاشمي2 بشكل رائع للغاية بالاستفادة من بقايا الخشب الزائد بعد إعادة تصميمه وزخرفته في ورشة معرض للنجارة ليقوم مقام البلاط (الباركيه) وتم تركيبه بدقة متناهية وبتشكيلات هندسية, كما نحتت العوارض والدعامات الخلفية بطراز تقليدي حيث طليت بالذهب من عيار 24 قيراطا.

وللهاشمي بابان رئيسيان في الجانب الأيمن من جسم السفينة يشكلان مدخلين لقاعة الاحتفالات وبابين للخروج عند الطوارئ في الجانب الأيسر تم حفرهما يدويا بطراز تقليدي مطلي أيضا بالذهب.

وقد مزج هذا البناء بين مزايا الخبرات التقليدية والتقدم التكنولوجي الحديث, وتولد عن هذه التجربة عدد من الابتكارات الخلاقة إذ جرى استخدام البيانات المحسوبة بالكمبيوتر وبرامج التصميم الكمبيوترية في البناء مما لم يقلل وقت البناء بشكل كبير فحسب, بل سوف يبقى نقطة انعطاف مهمة في تاريخ المراكب الشراعية.

مرافق حول الهاشمي

صممت مواقف السيارات تحت السطح الخرساني الذي يحمل كتلة السفينة, حيث زيّن هذا الموقف بجدران ذات قرميد ملون تضعك في لحظات خلابة من أوجه الحياة في كويت الماضي, ومن خلال التجول حول هذه الجدران تلمع في الذهن ومضات عن نمط حياة الكويت في مرحلة ما قبل النفط وتتوالى هذه اللوحات كشريط سينمائي.

استعمالات قاعة الهاشمي الرئيسية متعددة حسب المناسبات المختلفة ما بين حفلات الأعراس وقاعة للمؤتمرات ومطعم للعشاء وحفلات الكوكتيل, فهي تحتمل أكثر من ألف شخص على متنها. كما تضم تقنيات الاتصال والإعلان من شاشات ضخمة ومكبرات للصور والصوت وكاميرات مختلفة الأوضاع لتصوير الأحداث ومراكز ترجمة فورية وغيرها.

أرفق بالفندق المشرف على الهاشمي نموذج مصغر عن القرية الكويتية في حقبة ما قبل النفط تم تصنيع نماذجه باستخدام مواد معاودة, وقد استغل ليكون غرفا لزبائن الفندق الباحثين عن التراث المحلي على شكل بيت قديم تطل غرفه على حوش في الوسط يلتقي فيه الزبائن مساء للتسامر, كما أرفق أيضا متحف بحري يتسع لحوالي 30 نموذجا قياسيا لمختلف المراكب الشراعية البائدة التي كانت تستخدم من قبل الكويتيين قديما ولوحات وصور لمختلف مراحل بناء الهاشمي. فقد ضُمت القرية التراثية بـ (المتحف) و(الهاشمي) و(المحمدي) و(الغرير) لتشكل لونا بحريا كان سائدا في الأيام الأولى التي عاشها حسين معرفي وأجداده وحلم باسترجاعها مستغلا المدنية والتطور الغالب على العصر. وبانتظار المزيد من الأحلام.

إن سحر هذه السفينة لا ينتهي أبدا, فتراثها يشهد لها وتاريخها حافل بالمغامرات والرحلات الخيالية. كما أن تفاصيل النسخة الحديثة العملاقة منها تذهل راكبها, فكل شبر فيها يدعوك للوقوف والتأمل بين عظمة التصميم ودقة العمل وروعة الإضاءة ورحابة المكان, ولمعان الذهب من حولك. كل تلك التفاصيل السابقة والحكايات الغابرة تبقيني صامتة أمام رهبة المكان وعظمة الهاشمي2. إنه حقا إرث بحري جليل تحتفظ به الكويت على شاطئ خليجها العربي تحول من مجرد حلم صامت غير ملموس إلى واقع يخلب العقول.

 

وفاء شهاب 




الهاشمي واحد من أكبر المراكب الخشبية في العالم بشهادة موسوعة جنيس العالمية للأرقام القياسية





لحظة هدوء لحسين معرفي بعد أن تم إنجاز العمل





سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الصباح وهو يفتتح الهاشمي





صور أخذت على مدى أشهر طويلة والعمال يضعون اللمسات الأخيرة من أجل تزيين قلب الهاشمي حتى حانت لخطة الافتتاح ورقص البحارة القدامى وأنشد (النهام) بعضا من أغنيات البحر





رجال وأخشاب. رحلة قطعتها هذه الأخشاب من شواطئ الهند لبعاد تشكيلها على شاطئ الكويت.. ملحمة من العمل المتواصل





رجال وأخشاب. رحلة قطعتها هذه الأخشاب من شواطئ الهند لبعاد تشكيلها على شاطئ الكويت.. ملحمة من العمل المتواصل





رجال وأخشاب. رحلة قطعتها هذه الأخشاب من شواطئ الهند لبعاد تشكيلها على شاطئ الكويت.. ملحمة من العمل المتواصل





رجال وأخشاب. رحلة قطعتها هذه الأخشاب من شواطئ الهند لبعاد تشكيلها على شاطئ الكويت.. ملحمة من العمل المتواصل





حسين معرفي يضع الخطوط الأولى لبداية الحلم الذي تحول بفضل إصراره إلى حقيقة





على شاطئ الكويت يقف الهاشمي شامخا رافعا علم الكويت القديم تعبيرا على حفاظ ابناء هذا الوطن على تراثهم البحري القديم