هواءُ الصبَّاح باردٌ وخادِع, يبشِّرُك بنهار ربيعي, أنت العابر في
قلب العاصمة السودانية, الخرطوم. ما أن تنتهي من طريق طويل لتدخل شارعا آخر, حتى
تتبخر أحلامُكِ مع صهدِ شمس ساطعة, وظل ساخن, وعيون دامعةٍ. ملامِحُ العَصْرَنةِ
الاستهلاكيةِ المزيفة تُفصِحُ عن وجهها حولك في كل ناحيةٍ, من شارع القصر إلى شارع
المطار, وبكل ركن, من شركات السياحة إلى المطاعم: تجارٌ للعملةِ, مروِّجُون
للمكالماتِ المخفَّضةِ عبْر الإنترنت, مراكز بيع بطاقات الهاتف السيار, الأكثر
شيوعا من أي شيء سواه. الكل هنا يتحدث, ويتحدث, ويتحدث.
شارع الذكريات
تحاول أن تتأمل ملامح شارع (الجمهورية) خلف نظارات الصبر. في هذا
الشارع مر جمال عبد الناصر (لاتزال الحديقة به تحمل اسم الزعيم تحيي ذكراه, بالرغم
من تقليص مساحتها بعد أن تناقصت المساحة التاريخية لناصر نفسه). في (الجمهورية)
أيضا, مر الملك فيصل بن عبد العزيز, مثلما مرت إليزابيث ملكة بريطانيا. يحكي
السودانيون عن ذلك كأن ما حدث كان بالأمس: هنا سكن الرئيس فلان, وهناك مشى القائد
علان, ولم لا, والحس التاريخي لأهل البلاد هو الذي يؤجج حواسهم, ويحرِّكُ
مزاجهم?!
إذا كنت تبحث عن بعض من الخصائص المعمارية لتلك المدينة الجديدة,
فمسجدُ (فاروق) سيعينك بما فيه من الرقش والنقش, وما يأتيك به من حديث المشربيات
والمقرنصات, كما ستناولك قبابه ومآذنه مادة للحديث. المسجد المشيَّد في القرن
الثالث عشر الميلادي, أعاد الملك فاروق ـ آخر ملوك مصر ـ بناءه, على نمط مزج بين
العمارة المملوكية في القاهرة, والإسلامية في إفريقيا. وبالرغم من أن هيئة
الأوقافِ, أعادت للمسجد اسمه القديم; (أرباب العقائد), فإن اسمه الشائع لا يزال
(مسجد فاروق). الخطاب هنا واضح, فلتطلق السلطة الأسماء, وليختر الشعب بينها. الأمر
يكرر نفسه عندما غيرت الحكومة الساعة (التوقيت), لأنك حين تسأل عن (الزمن) يقولون
لك: قديم أم جديد? وحدث ولا حرج عن العملة الجديدة: الدينار, فلا ذكر له إلا على
الورق, العملة يتم تداولها باسم الجنيه الذي يساوي وحدة عُشرية من الدينار. ودائما
هناك خطابان, خطاب الحكومة وخطاب الأهالي. بمناسبة اختلاف خطاب الحكومة عن خطاب
الأهالي, حكت لي فتاة جنوبية كيف استطاع شبابٌ من الدنكا, أن يتغلبوا على الخطاب
الرسمي الذي أعد لقاءاتٍ أبطالُها الموالون للحكومةِ من الدنكا (إحدى قبائل
الجنوب). فقدْ سأل الوفد الأسئلة المطلوبة, وأجاب الموالون بإجاباتٍ مرسومة سلفا,
وإذا بالدنكاوية ـ الذين لهم رأي آخر ـ يؤلفون أغنية في دقيقة, لا يسع الوفد
الأوربي حين يترجمها إلا أن يعرف نواياهم السياسية الحقيقية.
العمارة في الخرطوم بدأت تعاني مأزق التغريب, صحيح أن هناك بيوتا
جديدة لا تزال تحافظ على خلطة من عمارة البيت السوداني بصحنه وفنائه وسوره وتقسيمه
وبنائه, مع عمارة البيت النوبي حينا, والإفريقي حينا آخر, إلا أن الواجهات الزجاجية
- غير المناسبة إطلاقا لبيئة الخرطوم - والهياكل الخرسانية الماردة بدأت تشق سماء
المدينة التي لم يزرها الغيم مرة واحدة في زيارتنا, بينما سعى إليها الغبار
مرات.
ملامح العصرنة في الشارع كثيرة; بنوك ومصارف, ووكالات سفر وسياحة ـ لا
شك أنها هذه الأيام في أوج نشاطها ـ وسوق إفرنجية. أما (ستوديو جوردون) فهو أول
مكان انطلق منه التصوير العصري قبل أربعة عقود. شارع (الجمهورية) ـ مثله مثل
الخرطوم 2 ـ بالنسبة للسوداني; ابن العاصمة, هو ذكرى الزمن الجميل, الذي ولى أو
كاد: يتذكَّر فطائر وحلوى سويت روزانا, وترزية الميني جوب (الذي أسماه السودانيون
بلطف لغتهم: جكسا في خط ستة! إشارة لخطورة اللاعب الهداف أواخر الستينيات وأوائل
السبعينيات نصر الدين عثمان ـ وشهرته جكسا إذا ما دخل منطقة الياردات الستة ـ
القصيرة ـ للمرمى), ومقاهي المبدعين, وأقرانهم, بما لها من أسماء كوزموبوليتانية
مميزة: اللورد بايرون, وسان جيمس, وشيش كباب, وكايرو جلابية, وكوبا كوبانا, وفلفلة,
وروضة المدينة, وآتينيه, والمحلات الأوربية: كونت مخلص, ميرزا, جيمبرت, البون
مارشيه, الفرد دوبسيه, (وغيرها مما عددها لنا الكاتب محمد الأسباط). أما اليوم
فالأسماء تحيلك إلى رموز مغايرة: فمن جهة ستقرأ (بقالة الصحاف), و(إنترنت بن لادن),
و(اتصالات الظواهري), ومن جهة أخرى ستعاين (عصير ساندي), و(سوبر ماركت ساندرا)
و(كوافير البرنسيسة) (وغيرها), فضلا عن وجود مترادفة الإسلامية وصفا لكل شيء,
والعالمية صفة لأي محل. ولكن لم يعد هناك مجال لجكسا خط ستة, ولا لفستان (الخرطوم
بالليل) (اسم رداء نسوي آخر اشتهر في الماضي وكان يلمع ليلا بما يحتوي من حلي
وتطريز).
تكاد تشك في أن يصبح شارع (الجمهورية) اليوم ـ وأخوانه من الشوارع
القديمة الجديدة ـ رمزا لعودة الروح إلى العاصمة, قد يحدث ذلك عبر بوابات الاستهلاك
الرقمي; يكفي أن تعد المحلات التي افتتحت للاتصالات الدولية, والسباحة بالإنترنت,
فلا ينافسها عددا في العاصمة وشوارعها سوى الهواتف السيارة (وإعلانات تجاهر بفك
الشفرات!!), ومحلات الأطعمة بنكهاتها العربية (ولو في الاسم فقط), ومقاهي الرصيف,
والغزوات الصينية للبضائع البلاستيكية التي زاحمت كل شيء, حتى أن حضورها كان طاغيا
في السوق الشعبية لأم درمان. (في هذه السوق لا تزال تجارة العاج والحيوانات المحنطة
مباحة. ستأتي يوما جمعيات الرفق بالحيوان لتحرم ذلك, فهل تأتي معها أو بعدها
جمعياتٌ أخرى?)
بلد التحولات
بدا لي أن البلدَ يتحوَّلُ إلى خليطٍ ثقافي هجين, فيما تجتاحه ـ ومعه
بلدان كثيرة تحتل موقعه الاقتصادي نفسه ـ تيارات الاستهلاك العولمي, كما تخيلت أن
ذلك السخاء الرقمي ليس إلا غطاء وهميا لأزمة حقيقية, اقتصادية واجتماعية. لكنني عدت
أراجع نفسي حين بدأت أزور الاستثمارات العقارية الجديدة: أبراج على النيل, فنادق
خمسة نجوم تكتمل خلال فترات قادمة وجيزة, توكيلات عالمية لكل الأسماء في عوالم
الموضة والرياضة والأثاث والديكور والإعلان والتسوق. والخلاصة أن السودان يحتمل
الوجهين في كل شيء, عربات (الريكشا) وسيارات الدفع الرباعي معًا. وإذا كانت الريكشا
قد دخلت مع الأزمة الاقتصادية في 1993, كحل شعبي للمواصلات الرخيصة, فإن السيارات
الفخمة التي تسعى في شوارع المدينة قد دخلت مع الانفراجة التي يبشر بها الغد. في
الأيام السودانية بدأت أبحث عن أسئلة جديدة, وإجابات مقنعة, توازي المشهد الظاهري,
الذي يبدد الأموال في فضاء الإنترنت والاتصالات اللاسلكية. كان هاجسي هو البحث عن
صور السودان الجديد, فيما أراه ومع من ألتقيه. كنت أعرف أن السودان الغد بحاجة إلى
قامات وهامات في الفنون والآداب والعلوم والصناعة, تؤسس وتبني وتخطط, تنقب في
الجذور, لتنمو الثمار. إنه بحاجة إلى مشاريع فردية وقومية, تصنع معا نسيج مستقبل
بلدٍ عربي وإفريقي.في جامعة أم درمان ألتقي مع البروفسور عون الشريف قاسم, صاحب
(قاموس اللهجة العامية في السودان), وموسوعة (القبائل والأنساب في السودان), الذي
يرى في لهجات السودان صورة حية للتمازج البشري العظيم, الذي أكسب البلاد ما هي عليه
من وحدة بالرغم من كل التباين, فكما امتزج العربُ بالسكان الأصليين, واختلطت دماؤهم
بدمائهم امتزجت لغتهم بعناصر مختلفة من لغات هؤلاء السكان, واختلطت بها اختلاطا ترى
سماتِه واضحة في المفردات والتراكيب والنطق, وهكذا في ذلك القاموس تعرفنا إلى
مقاربات عامية مع لهجات من كل فج: أوربية وتركية, سريانية وشامية, بجاوية
ودنقلاوية, فصيحة وعامية, فارسية وعربية, مصرية ومغربية ومولدة. هنا ذابت اللهجات
كما تذوب في طبق الفول المدنكل السوداني التقليدي كل مكوناته! كان لا بد أن يشير
البروفسور قاسم إلى أن سنوات الحرب التي عاشها السودان وبلغت نحو أربعين سنة ـ على
مرحلتين ـ خلال نصف القرن الأخير, كانت السبب الأساس لوضع البلاد, وأن يأمل في أن
تكون اتفاقية السلام طريقا جديدا للسودان الجديد, الذي يرى فيه سودان الثقافة
العربية الإفريقية: (نحن نعلم أن الثقافة العربية حيثما ذهبت تحترم الثقافات
الفرعية, ولا تسعى لمحوها, بل تستوعبها, وتتعايش معها, بمرونة وسماحة, عكس ما تسعى
إليه الثقافة الغربية التي تسعى إلى الاستئصال والمحو, ونحن ندرك أن الثقافة
العربية هنا تبدو أصالتها في أن السودان يمثلها وسط محيط غير عربي. وأنا أعُدُّ
السودان المنطلق للأمة العربية في إفريقيا, بالرغم من سعي الآخرين لوقف مسعانا ـ
كممثلين للثقافة العربية والإسلامية ـ للنفاذ إلى القلب الإفريقي. فالقارة
الإفريقية هي قارة العرب والإسلام, وثلاثة أرباع العرب هنا في هذه القارة, أرضا
وسكانا, وجغرافيا وتاريخا. والخصوصية السودانية هي أنها مزيج من الثقافتين, أو
الثقافات, العربية والإفريقية, إنه سر ثرائها, وسر وحدتها, في آن واحد).
أحلام ثقافية
هذا التنوع الثقافي كان له حضوره في خضم احتفالات الخرطوم بكونها
عاصمة للثقافة العربية 2005. في الطريق إلى مكتب الدكتور عثمان جمال الدين الأمين
العام لاحتفالات الخرطوم عاصمة للثقافة العربية (والإفريقية كما تقول لافتات
كثيرة). تأملت الشعار الذي صممه الفنان أحمد عبدالعال, عميد كلية الفنون الجميلة,
وشرحه جمال الدين: فالثور الأبيض, بقرنه الصارم, يمثل أمرين القوة والثروة
الحيوانية; والعنصر الإفريقي أيضا, والحمامة رمز بديهي للسلام (سلام العزة كما
تلقبه اللافتات المرحبة به في جنبات الخرطوم), والإفريز المعماري العلوي معادل بصري
لأهرام البجراوية, مهد هذه الحضارة الجنوبية التي وجدت شقيقتها على أجزاء أخرى من
جسد النيل, ثم الألوان الثلاثة للمياه, والمروج والصحراء. أما الحرف (و) فهو إشارة
سيميائية عربية لخطبة الإمام التيفاشي بعد ثورة الإمام المهدي! سنرى متحف المهدي,
الذي كان بيته ومقر حكمه, ونرى المتاريس الدفاعية (الطوابي) التي قاوم بها, وسنرى
ألوان الشعار على حقيقته فنزور أهرام البجراوية في الصحراء, ونتعرف على قصص جنوبية
يتخذ فيها الثور دورا مهمًا, ونلتقي مع كثيرين يؤمنون بما حل من السلام.
التنوع الثقافي الذي يستحضر الروح العربية الإفريقية, يتردد صداه في
برامج أيام وليالي الاحتفالية, أسابيع ثقافية عربية موازية للفعاليات السودانية,
مثلما هي مواكبة للحضور الإفريقي. أنشطة من مصر والكويت وسورية, وسواها, وعروض من
جيبوتي وإثيوبيا وغيرهما (وهو ما لم نستطع متابعته لتبلبل جداولها في معظم
الأحيان). مع محمد جبارة رفيق رحلتنا السودانية, من مكتب الإعلام الخارجي, بوزارة
الإعلام السودانية, نتابع حضور التنوع الثقافي في سوق أم درمان على المستوى الشعبي,
في البضائع والبشر, على حد سواء, مثلما عايناه على المستوى الرسمي إذا صحت التسمية.
هذا التنوع الثقافي هو عملة سودانية بوجهيها العروبي والإفريقي, والذي وجد اعترافا
رسميا من خلال الفعاليات, مما حقق المعادلة وأمَّن اعترافا معنويا بما سعى إليه
الجميع: الإيمان بنسيج السودان العربي الموحد, وأن يصل صوت إنتاجه الثقافي, وهو ما
كان يبدو أمرا صعب المنال قبل تحقيق السلام والإيمان بفكرته.
ليس نسيج التنوع الثقافي (الفولكلوري) وحده, هو الذي يمهد لصورة سودان
الغد, بل ربما يحييها أكثر نسيج العائدين الحالمين بالمساهمة ثقافيا في بناء سودان
ما بعد الاستقرار والسلام. في بيت تقودنا طوابقه الثلاثة عبر دروب الفن, من خلال
جاليري وستوديو مفتوح, نعيش مع الفنان التشكيلي راشد دياب, العائد بعد 20 عاما
بإسبانيا, بين ممارسة الفن وتدريسه في مدريد, سألته عن سر عودته: (السودان يمر
بمرحلة تحول تاريخي ولن يبنيه سوى أبنائه, من المبدعين المهاجرين, والعلماء
المغتربين, علينا نحن أن نعود لنبني السودان الجديد, فما معنى أن يترك القادرون على
بناء البلد أرضه, فهروب الكفاءات يؤدي إلى مزيد التدهور وستزيد المعاناة. وعندما
عدت, مع سواي, جئت حيث تسكن الروح هنا, فمهما عاش الجسد خارج الوطن, لا بد له من
البحث عن جذوره الحقيقية. لقد ناديت بالثورة الثقافية, وهي دعوة قوبلت في البداية
باستخفاف, لكنني اليوم أفخر بأنني أعيش وفي خانة المهنة (فنان تشكيلي) لأنني أعتقد
أن في ذلك رد اعتبار للفن, ولبلد مارس الفن المعاصر خمسة عقود, لكي تبرز صورة سودان
الفن الحقيقي لا السودان الفولكلوري). يستقبل دياب إحدى تلميذات الفن, تبدأ رسم
لوحة جديدة, ربما تمهد لسيرة حياة فنانة نلقاها في استطلاع قادم!
لم يكتفِ راشد دياب بالحديث, بل دعانا إلى واحة يؤسس لها بأحد أطراف
العاصمة السودانية. مكان يتم الإعداد له ليكون فردوسا للفنانين من كل أنحاء العالم.
نتجول مع دياب وهو يصف لنا ما لانراه, وما نراه: (هنا ستكون جلسة الفنانين في مقهى
تحوطه الزهور الإفريقية, وهنا ستقوم ورشة للنحت, وبجانبها ورشة للطباعة الجرافيكية.
وهنا ستقام كلية للفنون الجميلة, وهنا خمس فيلات لإقامة الضيوف من الفنانين من كل
أنحاء العالم). وهنا, وهناك, أحلام غادرت رأس راشد دياب وبدأت تنمو في جنبات
المكان, مثل زهور بنفسج في أصيص الأمل. يقول: (سيكون المكان مركزا عالميا للفن,
جدير به السودان), يضع قطعة موزاييك في لوحة المستقبل. بدأ المكان يستقبل ضيوفه;
أصدقاء في الفن والشعر, يتحول المكان ذات مساء إلى قصيدة لا يعوزها الرسم, ضوء
خافت, وهواء عليل, وعشق للفن مشتعل.
تكبر أشجارُ البلوط من بذور صغيرة. وينهض أكثر من مشروع فني تشكيلي
قومي آخر مثل (بينالي النيلين), أول بينالي دولي في السودان, الذي يحدثنا عنه
الفنان عبد الوهاب الدرديري, المنسق العام له: (البينالي الذي ينطلق للمرة الأولى
في أكتوبر القادم, يأتي تتويجا لحلم نيلي ـ تأخر طويلا ـ ويشهد افتتاح أضخم جاليري
في السودان, ويستضيف أعمال الدول المشاركة التي زادت على الخمسين, وفعالياته:
جوائز, وتكريم, وورش, وأحلام تلون فضاء اللوحة السودانية).
لا يجد الفنان الدرديري الصورة مظلمة, بل هو متفائل, وله أبجدية لونية
مشرقة حين يتحدث عن واقع الفن في السودان ومستقبله. وفيما يستعد لمعرضه القادم عن
السلام, يجيب عن تساؤل لي حول نقص المعارض المخصصة, فيقول مستشهدا بتصريح رسمي: كل
جدار في السودان هو جاليري مفتوح. يصدق حديث الدرديري حين نحضر معرضا تشكيليا
لفنانة تشكيلية شابة في المركز الثقافي الألماني بالخرطوم, ومعرضا استعاديا آخر
لفنان راحل في المركز الثقافي الفرنسي, ويصدق أيضا حين يختار حمام سباحة ليعرض رسوم
الأطفال من كل السودان, يرسمون آمالهم وآلامهم. أتوقف أمام لوحة لطفل يرسم مصافحة
السلام بين الجنوب والشمال, بين عثمان علي أحمد وجون قرنق, بينما تحلق حمامتان
(سمينتان) بغصني زيتون, كأن السلام يأتي معه الرخاء والابتسامات.
مع سعي عبد الوهاب الدرديري لإنجاز حلمه الخاص في الفن, أو إنجاح همه
القومي لرعاية البينالي, نراه يسعد برعاية فرقة موسيقية شابة تجسد صورة لسودان
الغد. ومن خلال إيمانه بأن للفن جذورا في الممارسات الحياتية اليومية, ومرآتها في
الحياة القبلية السودانية, يأتي (نجوم البالمبو) الذين ينتمون لمختلف مناطق
السودان, مما يجعل من الفرقة ـ مرة أخرى نعود للمصطلح ذاته ـ صورة حية للتنوع
الثقافي, ولتصبح سفيرا فنيا حقيقيا للسودان في الفعاليات الثقافية خارج البلاد.
تهدي الفرقة عرضا خاصا لمجلة (العربي), تتصاعد الأنغام من الجنوب إلى جبال النوبة
التي تنتمي إليها زنوبة بطلة إحدى الأغنيات العربية القليلة, وتتصاعد الإيقاعات
الإفريقية مختلطة مع الألحان السودانية, ونعيش ـ بشكل مختزل وقوي ـ ليلة فنية تشرح
موسيقيًا: ماهية ثراء التنوع الثقافي بالسودان.
في حوار مع وزير الدولة بوزارة الثقافة السودانية صديق المجتبى نستكمل
الحديث حول التنمية الثقافية, بين تحدياتها وآليات تنفيذها وأحلام المثقفين
والمبدعين في البلد الذي تحتفل عاصمته بعام الثقافة العربية. يطمح مجتبى إلى تنفيذ
استراتيجية ثقافية, ولعل مشروع (المدن الثقافية) هو أبرز ما استمعت إليه في الخطة
الطموح, التي تسعى لتحويل مدن السودان, في ولاياته المختلفة, إلى مراكز ثقافية لها
خصوصياتها, سعيا للتبادل الداخلي فيما بينها ثقافيا, ضمن نسق السلام المرجو, وترويج
الثقافة السودانية خارجيا, في إطار مواسم الهجرة إلى السودان. كلما سألت محاوري
وجدت عنده (خطة); لرعاية الصناعات الثقافية, ورعاية المبدعين, وتشييد البنى التحتية
من قاعات سينما, ودور مسرح, ومحترفات فن ومكتبات داخل المراكز الثقافية التي يربط
بينها وبين المركز مجالس تنسيقية, وبذلك يتحول التنوع الثقافي إلى عنصر وحدة لا
شقاق.
في الطريق بين مناطق السودان, كانت المشاهد الحياتية الصعبة تهز في
ذهني الصورة المثالية التي حدثني المجتبى عنها. لم أجد معنى لأن يكون الحيز
الجغرافي المحيط بالأهرام في البجراوية ـ على سبيل المثال ـ على ما رأيت من مستوى
معيشي قاس على أهله, بالرغم من أن المنطقة يمكن أن تصبح مركزا عالميا للإنتاج
الثقافي, فالأمل الوحيد ـ كما أعتقده ـ هو أن تتحول أساليب الحياة اليومية إلى نتاج
ثقافي ولكن ذلك حين يبدأ اليوم, ويستمر بجدية, يمكن أن نحصد نتيجته بعد عشر سنوات,
حتى لا تتحول مفاهيم المدن والتنمية والمراكز الثقافية, وحماية الملكية الفكرية
التي حدثنا عنها المجتبى إلى مجرد عبارات منمقة في كتاب المدن الفاضلة
والمستحيلة.
أكثر ما حرك مشاعري في الطريق إلى تلك الأهرام هو روح الإنقاذ
والمساعدة التي برزت في مواقف كثيرة من هؤلاء البسطاء القاطنين في المكان. كان سائق
سيارتنا ـ على ما يبدو ـ يريد أن يدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية في غرس
السيارة بالرمال, في فترة قصيرة, وقد كان له ما أراد. بكل مرة من المرات التي زادت
عن عشر في مساحة لا تتجاوز مائة متر, كنا نرى الأطفال والشباب يهرعون إلينا
بأدواتهم لحفر الطريق أمام العجلات, كأنهم يحفظون ذلك الدور سلفا, ويتكرر المشهد:
تعانق السيارة الرمال, فيأتي من يفسح الطريق للعجلات, وينطلق صديقنا كالصاروخ حتى
يعيدنا مرة أخرى إلى الوضع ذاته, في خانة اليك, ونصبح مثل أحجار الطاولة على سبورة
الصحراء. في طريق العودة لم يحدث ذلك إلا مرة واحدة, أسعفتنا فيها سيارة ضخمة من
أسطول عربات لمشروع كبير لحفر الطرق يعمل فيه الصينيون, المنتشرون في المشاريع
الجديدة, مثلما كانت الرمال تنتشر في الأفواه ونحن نحاول تحريك القافلة.
أصوات نسوية
تأتي أهمية الحوار مع آمال عباس, رئيس هيئة التحرير لمجموعة الوسائط
المتعددة, في استجلاء حضور المرأة في سودان الغد, من خلال قراءة تاريخية موجزة,
باعتبار آمال نفسها من أهم الأصوات المتابعة والمشاركة في الحركة النسوية الأهلية:
(المرأة السودانية لها قضاياها الخاصة التي لا تتعارض مع القضايا العامة, بل تتخذها
منبرا للدفاع عن هذه الأحلام القومية, وبالرغم من أن تعليم المرأة تأخر قرنا كاملا
عن تعليم الرجل, فإنها استوعبت سريعا ـ بوعي المهمومة بقضاياها الاجتماعية ـ
القضايا السياسية بالمثل. ولذلك نجحت في استشراف المستقبل, وكانت بينهن رائدات,
ساهمن في النضال السياسي. صحيح أن هناك اليوم ما يشبه الردة, في الحركة النسوية,
ولكن لا يمكن الرجوع عن كل المكتسبات, فما تحقق كثير, والمرأة السودانية تستمتع
بكامل حقوقها السياسية منذ سنة 1969, تَنتخِب وتُنتَخَب, وأصبحت سفيرة ووزيرة وعضوا
بالمجالس التشريعية, وعضوًا أساسيًا في الحياة المدنية. وحتى بعد 1985 لم تفقد
المرأة في ظل عهد الأحزاب حقوقها. وبالرغم من أنه بعد 1989 لم تعد تحظى المرأة
بالحماس نفسه والقبول ذاته, لكن قوة الدفع لم تستطع حرمانها من حقوقها بالرغم من
إغلاق مجالات أمامها مثل القضاء, والعمل في البنوك, بما يمثل نوعا من التمييز
الخفي. بل ولم يعد عندنا سوى وزيرة واحدة فقط للشئون الاجتماعية).
تستطرد آمال فتحكي كيف أصدر والي الخرطوم قرارا بألا تعمل النساء في
مجالات معينة, واضطر الاتحاد النسائي الحكومي إلى رفع دعوى دستورية لصالح المرأة.
وكانت المحكمة الدستورية بصدد إلغاء القرار, ولكن صرف النظر عن ذلك, وتم نقل الوالي
لموقع آخر. وهو ما يعني أن جدل الحضور النسائي في الساحة لا يزال مشتعلا, بالرغم من
التعتيم عليه.
عبر أجيالها المختلفة يظل صوت المرأة ضميرا حيا لمشكلات وطنها.
الكاتبة الشابة هادية حسب الله ـ المحاضرة بكلية الأحفاد وأول امرأة ترأس جمعية
ثقافية بالسودان ـ تتخذ من ممارسة طقس شعبي تقليدي إشارة موحية لوضع المرأة في
السودان: التخلص من مشيمة المولود, ذلك الطقس الذي اختفى من المدن لكنه لا يزال
معمولا به في الريف, يأتي على وجهين. فالتخلص من مشيمة الولد يتم وسط فرحة احتفالية
عارمة, حيث تربط مشيمته برأس إحدى المسترقات, وتغمر بالماء مع (زريعة) نبات, دليلا
على الدعاء بالخصب, ثم تدفن جوار الساقية, حيث سيرتبط الرجل بأرضه, بينما تدفن
مشيمة البنت في المطبخ, في حفرة النار, لتكون لصيقة بعالم البيت والخدمة, ضمن حدود
البيت.
كانت هادية تستقبلنا مع زوجها بمنزلهما في إحدى ضواحي الخرطوم. تتذكر
كيف رباها والدها على اقتناء (العربي), تستدعي ذاكرتها في سياق التمييز (الفج) فيما
مضى, مراحل الدراسة الأولى, بين البنت والولد. فأول قصة مدرسية تقول تحت عنوان (أمل
وبدر): (أمل فقدت القلم وبكت. بدر وجد القلم وفرح). إنها تربية سلبية تدفع المرأة
لأن تكون مسئولة عن الخطأ, كما أنها صورة لعدم التعبير عن شعورها, صحيح أن ذلك
التمييز لم يعد موجودا اليوم بصورته الفجة, إلا أنه يظل إرثا ثقيلا, وتصبح الكتابة
النسائية وكأنها رقص بالقيد, محصورة بضغوطها المختلفة, كما أن المرأة الكاتبة تظل ـ
بسبب إرث واضعي أحكام الكتابة الأولى وقوانينها ـ تابعا وظلا لمثال ذكوري, وكأنها
لغة مستعارة. ولهذا كله تتعثر الكتابة النسائية في السودان.
وإذا كانت هادية حسب الله تنظر للصورة من الداخل تحاول الشاعرة
والإعلامية روضة الحاج أن ترصدها من الخارج, حين يتكشف لها ـ من خلال مشاركات
جمعتها مع مبدعين عرب في عواصم مختلفة ـ كيف جرت مياه تيارات الحداثة في القصيدة
العربية خارج الحدود, أسرع مما احتملت في الداخل. ربما لأن موسم الهجرة إلى السودان
قد بدأ للتو, عكس ذلك التلاقح الذي تم في العواصم الكثر, بين مختلف التيارات. في
شعر روضة الحاج ذلك الظل المنتمي ولاؤه للصورة الذكورية, الذي تحدثنا عنه, في
قصيدتها التي تحمل اسم أحد دواوينها (في الساحل يعترف القلب), تقول: يزيدُ يقيني في
كلِّ يوم/ بأنِّي كعودِ الثقابِ الذي لنْ يُضِيء/ سوى مرةٍ واحدةٍ/ فكنْ هذهِ المرة
الواحدة/ ودعني أضيء بحقلِكَ ليْلا/ فوحدُك تملك سر الثقاب/ الذي قد يضيء سنين
طوالا/ وعمرًا طويلْ/ ووحدك من تمنح العمر/ إكليل لون الحياة الجميل..
جنوبيات في الشمال
حضور المرأة السودانية الجدلي ليس فقط في الشارع الاجتماعي, والثقافي,
بل في المؤسسات التعليمية أيضا, نجد مثالا عليه الدارسات في جامعة الأحفاد للبنات,
من كل مدن السودان. بين المعامل, والمكتبة, وركن الترفيه, تجد صورة حية لطالبة لا
تختلف عن زميلتها العربية في أي مكان إلا في الإمكانات المتاحة. المرأة هنا تدرس
لتساهم في مستقبل لن يعترف ببيت له رب عائلة واحد. الجامعة أيضا نموذج حي للتواصل
بين الشمال والجنوب, تختلط هنا اللهجات, والمفردات, وتنصهر لتصنع غدًا واحدًا.
كنا نخطط لرحلة جنوبية, لكننا وجدنا الجنوب يأتي إلينا. ليس فقط في
معرض الأطفال القادمين منه, أو فرقة الموسيقى التي تستحضر فنونه, ولكن في الجنوبيات
اللائي أتين للشمال ربات بيوت, ودارسات, وعاملات في مختلف المهن. الجنوبية سيلا ـ
ابنة جوبا ـ التي تدرس الصحة الأسرية في جامعة الأحفاد نموذج للفتاة الجنوبية
متعددة الاهتمامات. مثلت سيلا بلادها لاعبة كرة سلة في لبنان, ولكنها أيضا تمثل
نموذج الأعراق المختلطة في السودان; فالأم من أوغندا, والأب من السودان, والاثنان
التقيا في القاهرة, وعاشا حتى رحل الأب, وجاءت الابنة للشمال لتكمل دراستها. تتحدث
كثيرا في الفن وتغني, وفي السياسة وتعترض, وفي نمط الحياة فتقول إنها (يجب ألا
تستسلم لمفهوم تعدد الأزواج الذي رضيت به الأجيال السابقة عليها).
تشارك ميري وريبيكا بمعرض عن فنون جنوب السودان بقصر الرئاسة, تحدثني
ميري عن طقوس الخطبة والزواج في الجنوب: (تجلس الفتيات مع الشباب للتعارف, فيما يعد
طلبا ليد الفتاة, في جو ألفة و(ونسة). وحين تبارك الفتاة طلب الشاب بالموافقة, وبعد
الاتفاق تُعْطى الفتاة بقرة)! تشرح ميري: (الشمال يعطون في المهر قروشا (نقودا)
والجنوب يمنحون بقرا. بعد اتفاق الشاب والفتاة, يأتي الرجال ليجلسوا سويا, أبو
الفتاة وأخوانه, وأبو طالب الفتاة وأعمامه للاتفاق على عدد البقر المقابل للفتاة;
وربما يتم الاتفاق على خمسين بقرة, يتم توزيعها على أهلها, بقر لأخوانها وأبناء
عمها, وغيرهم. ثم يأتي دور الأمهات, حيث تأتي الأم من العائلتين مع صديقاتها
وأقربائها للاتفاق, والمباركة. البنت تعتبر ثروة وزواجها يجلب الخير للجميع, ومن
هدايا العرس أيضا البقر. ولكن على عكس الشمال أيضا لا تمنح الفتاة (شيلة) أي ملابس
وجهاز عروس).
تستطرد: (تبدأ الدعوة للزفاف في مجموعات تزور الأهل والأصدقاء
والجيران, تدخل الفتيات البيوت وتشارك بالرقص فرحة الجميع, وإعلان موعد الزفاف.
وليلة الدخلة تتم ببيت العروس, وبعدها تنتقل الفتاة إلى بيت رجلها. وهي الليلة التي
يأتي الكبار فيها ببقرة ترش بالماء وتمارس طقوس من القراءة المتوارثة, التي تنتهي
بالدعاء بالنسل الطيب. تُطلب الفتاة في الجنوب لأهلها, واسم عائلتها, وتحبذ تلك
التي لها أخوان من الذكور, والمرأة الجنوبية تقوم بدور مهم في مساعدة زوجها, ولا بد
أن تنجب له أطفالا, وإلا طلقها أو تزوج عليها). وتضيف ميري ممتدحة المرأة الجنوبية:
(يدخل الزول الجنوبي بيته فتسرع إليه زوجه بالماء والسؤال عن الصحة والعمل), وتضحك
ميري وهي تقول: (عكس ما يجري بالشمال, فحين يسأل الزول زوجه كوب ماء تجيبه: الماء
في الثلاجة! والمرأة في الجنوب تحتمل أكثر, وأنا تدربت كضابط إداري في الحكم
المحلي. ينجح الزواج في الجنوب بين القبائل المختلفة, وخاصة القبائل النيلية, لكن
نسب نجاح الزواج بين الشمال والجنوب لا تزال ضئيلة).
غير بعيد عن أهازيج الفرح, نستجيب لدعوة في الصفحة الأولى من
جريدة(الرأي العام) يوم احتفالها بمرور ستين عاما على صدورها: زفاف العفة, في إعلان
لحضور حفل زفاف جماعي ينظمه بنك كبير بالخرطوم. ننطلق إلى الحفل الذي حضره الجميع
عدا الأزواج! فقط جاء بضعة منهم, استقبلوا بحفاوة كبيرة, ووعد من المسئول بهدايا
خاصة, أكثر من الأزواج الآخرين المحتفى بهم والذين بدأوا يأتون متأخرين. قرآن كريم,
وكلمات احتفالية, وصلاة جماعية للمغرب, وفرق موسيقية وغناء وأمسية تبشر بعهد جديد
من الحفلات غير التقليدية (هكذا يكاد يبدو كل شيء بالسودان). وأطرف ما سمعت هو وعد
(أو وعيد) مسئول البنك, بألا يبقى أعزب واحد بين موظفيه, تبتسم فتيات من الحضور,
ربما ينتظرن زوج المستقبل بين أوراق البنكنوت! لكن الصورة النمطية للفرح السوداني
نراها في نادي الديبلوماسيين, حيث يأتي نحو ألفي مهنئ يشاركون مباركة الزفاف للعريس
القادم من الخليج ليتزوج في موسم الهجرة إلى بلاده.
من مروي إلى كنانة
الطريق إلى سد مروي يستدعي أغنية مصرية وطنية شهيرة: (قلنا ح نبني
وآدي احنا بنينا السد العالي). نسعى على طرق ممهدة وأخرى وعرة, والمشترك فيها صوت
سيارة الدفع الرباعي يزاحمه صوت أغنية (جميلة ومستحيلة), للمطرب محمد وردي التي قد
تصف قصة حياة المشروع, وقد حضرنا وقت تحولها من (مستحيلة) إلى (حقيقة).
محطات انتظار السيارات على الطريق قد تُختزل إلى مظلة من الطوب وحسب,
تعترض السياراتِ نقاطٌ مرورية كثيرة للتفتيش. تشرق الشمس وسرعان ما تسكن قلب
السماء, وقبل أن تميل نحو الطرف الآخر, نكون قد وصلنا. نموذج حي آخر على التعاون
العربي المثمر في مجال تنفيذ المشروعات التنموية رأيناه عقب رحلة جوية خاصة (ظهرت
فيها براعة قائدي الطيارة الصغيرة ذات المحركين في الهبوط بنعومة, مرة خلال الضباب
بمدينة كنانة, وأخرى خلال الغبار بمدينة الخرطوم). الرحلة إلى شركة سكر كنانة,
استقبلنا خلالها معاوية بدوي محمد علي مدير عام الإدارة والخدمات, في الشركة التي
تحتفل هذا العام بمرور 30 سنة على إنشائها, وكانت وراء قيام مدينة جديدة, تكاد تكون
من العدم. وهي توفر لستة عشر ألفا من العاملين بها (نصفهم من العمالة الموسمية) كل
الخدمات, بدءا من الإسكان (2600 وحدة سكنية مزودة بجميع الخدمات الحضرية), والتعليم
(توفر الشركة للطلاب من أبناء العاملين 33 مدرسة أولية وثانوية, و26 روضة أطفال
يدرس بها كلها 14 ألف طالب كان من بينهم أول الشهادة الثانوية العام الماضي), سندرك
كم مثّل ذلك فارقا حين نعرف أن أقرب مدرسة لمدينة كنانة قبل الشركة كانت على بعد
150 كيلومترًا! كما أن هناك فرعا من جامعة أم درمان الإسلامية(1600 طالب موزعين على
7 كليات), وكلية تقنية ترفد صناعة السكر, التي بات للسودانيين الخبرة الكافية بها,
حتى أنها بدأت بتصدير هذه الخبرة للخارج (في عقود سنوية كما تم في نيجيريا قبل أيام
من وصولنا, فضلا عن تدريب طلاب أفارقة من إثيوبيا وكينيا وغيرهما في مجال هذه
الصناعة).
تأتي المساهمة الكويتية ثاني أكبر المساهمات بعد الحكومة السودانية
(مجموعهما 66%) كما ساهمت السعودية وشركات أخرى سودانية وخليجية في إنشاء يوتوبيا
كنانة. صمم المصنع ليستوعب 17 ألف طن يوميا من القصب, وينتج سنويا 300 ألف طن من
السكر (أربعة أنواع), فضلا عن نوعين من العسل, ومنتجات أخرى كالعلف, وسماد الطاقة.
وتروي المشروع 6 محطات للري, عبر قناة رئيسية (37 كيلومترًا) وقنوات فرعية (340
كيلومترًا, أي أكثر من المسافة بين كنانة والخرطوم),
جولة (العربي) شملت الورشات الزراعية والصناعية, والمشتل, وأسرة
صديقنا عبد العزيز مسئول الإعلام بالموقع, وفي كل مكان كانوا يبلغوننا السلام
والتحية لـ (العربي), التي يعتزون باقتنائها منذ باكورة الأعداد. في المستشفى رأينا
صورة أخرى للتعاون العربي عبر الزيارات التي يقوم بها أطباء مصريون لإجراء مئات
العمليات كل بضعة أشهر, ومعاهد الأبحاث في إفريقيا وأوربا (يعمل أكثر من 20 متخصصا
من حملة الدكتوراه والماجستير بالمعهد, ويحظى باستشارات علمية من المؤسسات
الأكاديمية في السودان). وفي سفر عن كنانة, مملكة الذهب الأخضر, يحكي عثمان عبد
الله النذير ـ العضو المنتدب بالشركة ـ وجوفند داتاتري ديساي عن ذلك الإنجاز
العالمي في قلب صحراء السودان, وقد طالعت نسخة من هذا الكتاب بترجمة الدكتور محمد
نوري الأمين, ومراجعة العلامة الراحل الدكتور عبدالله الطيب, رئيس مجمع اللغة
العربية بالسودان.
سنغني في رحلة العودة: حبيبي الساكن في كنانة! وهي من الأغاني التي
أنبتتها الصورة الجديدة للمدينة, أو كما قال الشاعر متغزلا: بين عيونك توجد أكتر من
علاقة, حلوة زي سكر كنانة, وطعمة زي قاعة الصداقة! وقد ذقنا سكر كنانة الخام وسط
هدير الماكينات العملاقة, أما قاعة الصداقة فتستقبل ضيوف الخرطوم كملمح عصري جديد
في المدينة, ولا يوازيها ـ شعبيا ـ سوى مجمع تجاري جديد بشراكة سودانية تركية, يؤمه
الآلاف الذين يجدونه صورة بطاقة بريدية عصرية في العاصمة السودانية.
مدينة القرآن
في الرحلة السودانية كنت أبحث عن خيط رفيع, يربط كل المشاهدات معًا,
بين الساكنين على الشظف بالرغم من كونهم جيران آثار البجراوية الثرية, البسطاء
بروحهم السمحة, والباحثين عن الرخاء في مشروعات المستقبل بين الطموح والطمع,
والمترنمين بأغاني الفنون ذات الثقافات المتنوعة. أبحث عن سمات الشخصية السودانية
التي تمتلك مفاتيح التحول في الغد, بين الزهد والسكينة من ناحية, والقوة والإصرار
من ناحية أخرى, ولعل الرحلة التي ستأخذنا خارج الخرطوم إلى مدينة أم ضُبان كانت تضع
أمامي الإجابات, وأن ليس القادمون في موسم الهجرة إلى السودان من بين طلاب الدنيا
وحسب, بل إن الآلاف منهم طلاب دين.
استأذن لنا صديقنا شمس الدين ـ ابن أم ضبان ـ في لقاء الشيخ الطيب,
خليفة الطريقة القادرية, والحفيد السادس لمؤسس الخلوة القرآنية; الشيخ المجاهد
العبيد ود بدر, وهي الخلوة التي تؤهل طلابها منذ 162 سنة لحفظ القرآن الكريم ودراسة
علومه. في حضرة الشيخ المتصوف أسأله عن المريدين فيطمئنني بأنهم في ازدياد, وأنه
بالرغم من انقطاع الصلة بين جُل الطرق الصوفية في داخل السودان وخارجه, فإن المد
الإلهي لا ينقطع. تتوالى مراسم الترحيب بنا, ويتوافد على الخليفة طالبو نصح ومشورة,
دينية ودنيوية, ولا يقطع تواترهم سوى إقامة الصلاة.
يشرح لي الشيخ عمر العبيد صالح بدر سر تسمية أم ضبان: (في ذلك الزمان
لم يكن هنالك كهرباء, وكان الطلاب يأتون بالحطب فيشعلونه ليقرأوا على ضوئه ليلا,
فكان من يلمح من الساعين إلى الخلوة القرآنية نور النار, يقول (الضوء بان), وهي ما
تحرفت إلى الاسم الحالي). هذا تفسير من تفاسير كثيرة للاسم, منها أن الضوبان من
النحل, الذي كان يسكن شجرة ضخمة في صحن الخلوة. وهكذا سواء من (أم ذوبان) أو (ضوء
بان) فإن المدرسة القرآنية ظلت تحتفظ بنارها لا تنطفيء 162 عامًا.
نختتم صلاة المغرب ثم نتجول في المكان, حيث يُعد الطعام, وتتوزع فصول
الدرس, وبين ركن وآخر نلتقي الطلاب الذين يتراوح عددهم بين خمسمائة وألف وخمسمائة
طالب, ليسوا من السودان وحدها (مرة أخرى يلتقي شمال السودان وجنوبه), بل من بلدان
إفريقية أخرى. يدرس الطالب القرآن حتى يتم حفظه من ثلاث إلى خمس سنوات مجانا على
نفقة الشيخ الخليفة القائم على أمر الخلوة (سكنا ومأكلا وملبسًا), والقبول مفتوح من
سن السابعة الى السبعين. وتمتد أجازاتهم خلال الأعياد إلى بضعة أيام إلى أهليهم.
ويكفل للطالب تعليمه من الخلوة إلى الجامعة, حيث يدرس في معهد علمي ست سنوات, منها
سنتان للتجويد, وهناك خطة لإنشاء جامعة لعلوم القرآن الكريم.
يستيقظ الطلاب قبل صلاة الفجر بثلاث ساعات, يدرسون القرآن حتى صلاة
الفجر, ويستكملون دروسهم حتى طعام الفطور, ثم ينامون فلا يستيقظون إلا لصلاة الظهر,
فيتابعون دروسهم التي عليهم أن يستظهروها مساء أمام شيوخهم. ينادي المؤذن لصلاة
المغرب, تتهادى الجموع من بين أركان المكان ذي العمارة الخضراء, في غرفه وخلواته
ومبانيه وقبابه. على الرمال تقف الصفوف كالبنيان المرصوص, وما أن تنتهي الصلاة حتى
يتحلق الجميع حول الشيخ, يقرأون بصوت يسمعه الساكنة قلوبهم حتى النساء اللائي
يستمعن من وراء جدار, وهؤلاء اللاتي احتمين بزوايا بعيدة غادرها الضوء.
ثم كان لـ (العربي) موعد مع (العربي) في أم ضبان! ففي المكتبة
الإسلامية التي جمع بها الشيخ عمر العبيد صالح بدر ثروته الورقية رأينا الأعداد
الأولى من المجلة. يتذكر بعيون تلمع بحديث الشباب: (بعد سنوات خدمتي في التدريس,
فكرت أن أفيد أبناء هذه الخلوة مما أفدت, فكان أن أعددت هذه المكتبة ـ بما بها من
مراجع, وما ضممت إليها من دوريات, وما صممت فيها من خرائط تاريخية لشرح جهاد الشيخ
العبيد ود بدر الذي دحر الإنجليز في أكثر من معركة ـ لتكون مرجعًا لطلاب المعهد
والخلوة وأبناء البلدة. وهذه الدوريات هي ما كنا نجمعه ونحن طلاب من المجلة, عبر
الاشتراكات, وأذكر أن الأديب الطيب صالح الذي كان يدرس لي في المرحلة المتوسطة, كتب
في أول حصة لنا على السبورة (كيف تصبح أديبا?) وأوصانا بقراءة (العربي) وكتاب
الهلال, وأنا أتمنى أن تكتمل مكتبتي من (العربي) ليتاح لأبناء أم ضبان ما أتيح لنا
في شبابنا). بذكر الطيب صالح قلت له إنه نال جائزة الرواية العربية في القاهرة قبل
أسابيع, وإنني سأستعير في مقالي هذا عنوان روايته (موسم الهجرة إلى الشمال), خاصة
إن الطيب نفسه يعود إلى السودان بعد نحو 14 عاما لم يزرها.
طاب لي أن أستمع لأحد طلاب مدينة القرآن فناديت على أحدهم. بدأ الفتى
يتلو آيات من الكتاب الكريم. كان محمد ـ وهذا اسمه ـ يرسم ملمحا أساسيا من ملامح
السودان, الحافظ للثقافة الإسلامية في إفريقيا بالأمس والغد معًا. فالخصوصية التي
تمنحها هذه الخلوات لأبناء السودان, تجعلها تمثل دعما للتنمية, والسلام, والسماحة,
ودرءا من الجهل والتعصب والفقر. ومثلما يحتاج السودان إلى التعليم النظامي,
والمؤتمرات العلمية, والمشاريع الضخمة, والمبادرات الثقافية الفردية, والأحلام
القومية, يمكن لمدن القرآن أن تدعم النهضة في أطرافه المترامية بعيدا عن ظل
التنمية, وأن ينصهر التنوع الثقافي بخبز القرآن وملحه, الداعي إلى المساواة
والسلام. وليحدث ذلك داخل السودان, ذلك البلد الذي يحاول كالعنقاء أن ينفض الرماد,
ويطاول بجناحيه جيرانه وأقرانه, لتظل عروبته حية, كالنار التي لا تنطفئ في أم
ضبان.