رسالة لغوية من قطرب إلى إبراهيم أنيس.. هل الإعراب حكاية؟

رسالة لغوية من قطرب إلى إبراهيم أنيس.. هل الإعراب حكاية؟

بين قطرب (محمد بن المستنير: توفي في العام 206هـ) وإبراهيم أنيس (1324هـ/ 1906 - 1397هـ/ 1977) بحث موصول في علة وجود الإعراب، ففي حال قال النحاة إن الإعراب دال على المعنى، وإنه دخل الكلام ليفرق بين المعاني، من الفاعلية والمفعولية والإضافة، ونحو ذلك، ذهب قطرب إلى رفض هذه العلاقة بين الإعراب والمعنى، إذ رأى أن الإعراب لم يدخل في الجملة لعلة، وإنما دخل تخفيفًا على اللسان. (ذكر الزجاجي، في كتابه: «الإيضاح في علل النحو» مجمل قول قطرب في مسألة الإعراب، را: ص70 - تحقيق: مازن المبارك). والعرب - برأيه - أعربت كلامها، أو جعلت الحركات في أواخر الكلم للتخلص من التقاء الساكنين. وعلى هذا، يكون الإعراب في حقيقة أمره تحريكًا للكلمات بهدف الوصل في ما بينها.

وفي معرض ردّه على النحاة يقول: «فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعاني، لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه، لا يزول إلا بزواله»، ويضيف مفسرًا هذه الظاهرة، ليؤكد موقفه: «وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا، لكان يلزمه الإسكان في الوقف والوصل، وكانوا يبطئون عند الإدراج، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك، جعلوا التحريك معاقبًا للإسكان، ليعتدل الكلام». (الإيضاح: ص70).

الاختلاف في تفسير وجود الحركات الإعرابية

لا ينكر قطرب وجود الحركات في أواخر الكلم، فيما انتهت إليه العربية الفصحى من نصوص، لكنه يرى أن هذه الحركات جيء بها لوصل الكلمات بعضها ببعض، أي أن لوجودها وظيفة صوتية. وهنا نتجه إلى الاعتقادأن التفسير عند قطرب محاولة في فهم نشوء هذه الحركات، أو حدوثها في أواخر الكلم، وهو يحاول تفسير ذلك النشوء في ضوء منهج تعليلي، يقول بالتفسير الصوتي. أما جمهور النحاة فيقول بالتفسير الدلالي:

لكن، لو دققنا في كلام قطرب لرأينا أنه يشرح لنا، لماذا دخلت الحركة مطلقًا في الكلام، من غير أن يكون هناك ضوابط في استعمال نوع هذه الحركة من ضم أو فتح، مثلاً. فالأخذ برأي قطرب يفضي إلى تحريك الكلمات بأي حركة مادامت الحركة مطلقا تؤدي إلى تخفيف من الثقل الناشئ بالإسكان، ومعنى هذا إبطال الإعراب.

وبما أن النصوص الأدبية التي وصلت إلينا، قبل القرآن الكريم، تتميز بنظامها النحوي، وتقوم أصلاً على سنن الإسناد، وأحكام العلاقات بين الكلم في الجمل النحوية، فإن هذا الواقع المادي يبطل زعم الفوضى في استعمال الحركات، ومن ثم، يجعل جواب قطرب احتمالاً متهافتًا.

عماد الإعراب الاسم

ما حُفظ من نصوص نادرة، تُعزى إلى قطرب، يشير إلى اهتمامه بالاسم المعرب، من دون أن يذكر صراحة، الفعل، أو الحرف، أو الأداة، أو الضمير، فهو يقول: «أعربت العربُ كلامها، لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف» (الإيضاح: ص70).

وما يؤيد هذا التوجه - عندنا - قول لابن الأ نباري، كان قد ساقه في «أسرار العربية»، جاء فيه: الأصل في الإعراب أن يكون للأسماء دون الأفعال والحروف، وذلك لأن الأسماء تتضمن معاني مختلفة نحو الفاعلية و(...)، فلو لم تعرب لالتبست هذه المعاني بعضها ببعض، وأما الأفعال والحروف فإنها تدل على ما وضعت له بصيغها، فعدم الإعراب لا يخل بمعانيها، ولا يورث لبسًا فيها، والإعراب زيادة، والحكيم لا يريد زيادة لغير فائدة» (ص24 - 25).

هذا الاسم المعرب، الذي نحن بصدده، هو الكلمة في الجملة، المكوّن جزءًا أساسيًا من بنيتها وسياقها، ففي قول الشاعر: «أنا ابْنُ ماوية إذ جدّ النقُرْ»، نجد أن الاسم المعرب (ابن) جاء متحرك الآخر، وما قبل المتحرك ساكن، لضرورة الوصل. ولو أجرينا الوقف بالتسكين في آخره لاختل الوزن العروضي، ولاستحال الانتقال نطقًا إلى ما بعد هذا الاسم المعرب، ولصار اجتماع الساكنين (في الباء والنون) عيبًا في النطق، وهذا امتناع أكد وجود الإعراب، إذ اقترن الاسم في هذه الموقعية من الشاهد، بالضمة، أو بالرفع، من حيث المعنى النحوي، فتحقق لهذا الاسم المعرب (ابن) الجانب الصوتي السليم، وتحقق الدرج من جهة، والموقعية الإعرابية المناسبة، من جهة ثانية.

إهمال الحركة سلوك لغوي

ونحن لو عدنا إلى ملاحظات قطرب الصوتية، وما حفظ من شواهد عند الوقف، في القرنين الأول والثاني للهجرة، لوجدنا شواهد على ظاهرة إهمال الحركة، التي تعكس سلوكًا لغويًا يصدر عن عدم قدرة كل الناطقين بالعربية سليقة، بالارتفاع إلى مستوى الإعراب. وهو سلوك لغوي يطابق ما نعيشه في لهجاتنا المعاصرة، التي آل الأمر فيها إلى إلغاء الحركة الإعرابية، عمومًا.

حركات الإعراب جزء من المعنى النحوي

نرى أن حصر المعاني النحوية بحركات الإعراب، أدّى إلى استبعاد المعاني بغير الحركات، والمعاني الداخلية، في آن:

- فقد يفرقون، في العربية الفصحى، بين المعاني بغير الحركات، كالتمييز بتاء التأنيث وعدمها، فيقولون: امرأة طاهر، بدون التاء، إذا أرادوا طاهرة من الحيض، لأن الرجل لا يشاركها فيه. وإذا أرادوا طهارتها من العيوب الخلقية، قالوا: امرأة طاهرة، بالتاء، لأن الرجل يشاركها فيها.

- كما أن ترتيب الكلمات في الجملة، يتحكّم غالبًا، في المعنى وهو أمر درسه القدامى درسًا وافيًا، ولاسيما عبدالقاهر الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»، إذ يستعرض في نصوص ممتازة الدور المهم للتقديم والتأخير، وما تتركه هذه المسألة من أثر في تحديد المعنى.

- كما يضاف إلى ذلك الدلالة الناشئة من عنصر العلاقات (أو المورفيمات) التي تنشأ بين المدركات في الجملة. فالمورفيمات بعناصرها الصوتية (صوت واحد، أو مقاطع، أو أكثر من مقطع، أو كلمة مستقلة)، وترتيب هذه العناصر الصوتية من مثل تبادل الأصوات الصائتة، والمقابلة بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول، والمقابلة بين اسم الفاعل واسم المفعول، والمفرد والجمع، والتنغيم، والارتكاز، وسواها، كلها تعمل على تحديد الأقسام الشكلية، التي تشكل مع الترتيب أو النمط معاني البنية اللغوية في مقابل المعاني القاموسية التي تحملها الكلمات في الجملة.

هذه المنظومة مجتمعة هي ما يمكن أن نطلق عليها المعاني النحوية، في الجملة، كجزء من النص. وعلى هذا تبدو حركات الإعراب في أواخر الكلم مسئولة عن جانب يسير من المعنى النحوي. لا كله. نخلص من ذلك، إلى القول: إن التعميم الذي أطلقه قطرب في مسألة الوقف، ثم في اعتبار جميع الحركات في أواخر الكلم حركات جيء بها للوصل، هو قول غير صحيح. وبالمقابل، فإن ما ذهب إليه جمهور النحاة من اعتبار المعاني النحوية محصورة في حركات الإعراب، هو قول غير دقيق.

إبراهيم أنيس يقرأ رسالة قطرب

لقد تركت آراء قطرب في مسألة الوقف والوصل، ومن ثم عدم الاحتفال بحركات الإعراب، أو عدم اعتبارها دالة على المعنى، أثرها في الدرس النحوي الحديث. فمن أبرز الذين تناولوا هذه المسألة، تناولاً يعتمد في أساسه آراء قطرب، ويقيم لهذه المسألة بحثًا أكاديميًا معمقًا، الدكتور إبراهيم أنيس، في كتابه «من أسرار اللغة»، جاعلاً المسألة تحت عنوان: «قصة الإعراب».

ونحا في ذلك منحى تفسيريًا ومقارنًا، يقوم على النظريات الصوتية الحديثة، وينسجم مع ما نراه في اللهجات العربية الحديثة، التي ليست إلا تطورًا للهجات القديمة (ص203).

يرى د. أنيس «أن تحريك أواخر الكلمات كان صفة من صفات الوصل في الكلام شعرًا أو نثرًا، فإذا وقف المتكلم أو اختتم جملة لم يحتج إلى تلك الحركات، بل يقف على آخر كلمة من قوله بما يسمى السكون. كما يظهر أن الأصل في كل الكلمات التي تنتهي بهذا السكون، وأن المتكلم لا يلجأ إلى تحريك الكلمات إلا لضرورة صوتية يتطلبها الوصل». (ص204).

كما يرفض (أنيس) أن تكون حركات الإعراب دالة على المعنى، فيقول: «لم تكن تلك الحركات الإعرابية تحدد المعاني في أذهان العرب القدماء، كما يزعم النحاة، بلا لا تعدو أن تكون حركات يُحتاج إليها في الكثير من الأحيان لوصل الكلمات بعضها ببعض» (ص221)، ويضيف: «فليست حركات الإعراب في رأيي عنصرًا من عناصر البنية في الكلمات، وليست دلائل على المعاني كما يظن النحاة، بل إن الأصل في الكلمة هو سكون آخرها، سواء في هذا ما يسمى بالمبنى أو المعرب، إذ يوقف على كليهما بالسكون، وتبقى مع هذا، أو على الرغم من هذا، واضحة الصيغة، لم تفقد من معالمها شيئًا» (ص224).

ويخلص (أنيس) إلى استنتاج مفاده أن النحاة الأول «قد سمعوا حركات أواخر الكلمات، من ضم، في بعض الأحيان، وكسر في أحيان أخرى، وفتح في كثير من الأحيان، فخيّل إليهم أن وراء تلك الحركات سرا يتصل اتصالاً وثيقًا بالمعاني، وكان أن استنبطوا قواعدهم وأصولهم التي استقرّ أمرها في أواخر القرن الثاني الهجري، وأصبحت منذ ذلك الحين موضع اعتزازهم ومحلّ فلسفتهم» (ص249).

التخفف من الإعراب لا يعني نكران وجوده

لا أحد ينكر أن الإعراب ثقل على الألسنة، حين فسدت الطبائع في المجتمع الإسلامي الكبير جرّاء اختلاط قبائل وشعوب، عربية وغير عربية، وانتفى قرار سيادة العربية بمستواها الفصيح في كثير من الحواضر. ثم إن تراجع مستوى الفصح لا يعني التسليم بمذهب قطرب، ولا يمكن أن نستشهد بخلو اللهجات القطرية الحديثة من الإعراب (كما ذهب أنيس) لنقيم بذلك دليلاً على أن الإعراب ظاهرة لم تكن موجودة في العربية الأولى.

بالمقابل، لابد من القول إن الفصحى، في عزّ مجدها عرفت شيئًا من الاختزال إذ اقتصر بعض الأسماء فيها على علامتين إعرابيتين لثلاث حالات إعرابية، كما في الاسم الممنوع من الصرف وجمع المؤنث السالم، واستقل بعضها الآخر بالبناء، واجتمعت أحوال عدة في نظام الاسم العدد، إعرابًا وبناءً، وجوبًا وجوازًا، حتى اختلط أمر القاعدة، وانتفت حالة القياس. وحتى لا تبقى الفصحى المعربة شاهدًا على بقاء نقاء اللغة في النص الديني، والنص التراثي، والمعيارية، أو الاحتكام إلى معرفة «الصواب» و«الخطأ»، يجدر باللغويين المحدثين البحث مجددًا بوظائف الإعراب والوقف والوصل، في ضوء الإقرار بصعوبة الإعراب، على ما هو عليه، وفي ضوء عدم التسليم بصلاحية إلغاء الإعراب، على ما هي عليه التراكيب في العاميات.
------------------------------------
* باحث لغوي من لبنان.

 

رياض زكي قاسم