كيف استعادت الذاكرة العربية الأندلس?

 كيف استعادت الذاكرة العربية الأندلس?
        

          يخيل إلى الباحث العربي أن سقوط غرناطة في يد الملكين الكاثوليكيين (فرناند وإيزابلا), قد جعل الأندلس تغيب عن ذاكرة الإنسان العربي, حتى لم يبق منها إلا تلك المؤلفات, التي كانت قد وصلت نسخ منها إلى المشرق العربي أيام قيام الأندلس دولة وحضارة.

          الأمر المفارق أنّ غياب الأندلس هذا عن ذاكرة الإنسان العربي, صاحَبَهُ حضور قوي للأندلس والأندلسيين في واقعة الأمة الإسبانية, التي تشكّلت في شبه الجزيرة الإيبيرية عقيب سقوط غرناطة. ذلك أن حكام إسبانيا الجديدة شغلوا وطوال مدة مديدة بقمع الأندلسيين الذين بقوا في أوطانهم, ما بين تشريد وتنصير وتقتيل, فلما آن للأحقاد في صدورهم أن تهدأ, وقد قضوا نهائيا على البقية الباقية من صانعي الحضارة الأصلاء في هذا البلد الجميل, عادوا ينظرون إلى القضية نظرة أخرى.

          وهكذا نشط الاستشراق الإسباني, منذ مطالع القرن التاسع عشر, وظهرت الأندلس لأوائل المستشرقين الإسبان (اكتشافًا) (كما يقول عالم الأندلسيات المصري د.محمود علي مكي)... فأقبلوا, جيلاً بعد جيل, على ما بين أيديهم من التراث الأندلسي, يدرسونه ويقومونه, مقدرين ما ينطوي عليه من الإبداع والمعارف والعلوم. وكان أول أجيال المستشرقين المهتمين بهذا التراث, كونديه (1765 - 1820) الذي كتب عن التاريخ الأندلسي ما اتّسم بالإنصاف, وبعده غايانغوس (1809 - 1879), ثم كوديرا (1836 - 1917), مؤسّس ما سمّي بالمدرسة الحديثة في الاستشراق الإسباني في القرن العشرين. ولأنهم عدُّوا المخطوطات الأندلسية تراثًا لهم, فقد أخذوا في ترجمة بعضها إلى الإسبانية, كي تسهل عليهم العودة إليها, ودراستها, والاستفادة من مادّتها الغزيرة, الأدبية والعلمية, مثل تآليف ابن الفرضي وابن بشكوال والضبّي وابن الأبّار.

          والمستشرقون الإسبان اعتزّوا بالتراث الأندلسي الباقي في بلادهم, وجعلوه (إسبانيّا دمًا), مُغفلين, أو متجاهلين أنه (إسلاميُّ الروح)!

          قالوا: هذه حضارة (أسلافنا الإسبان): فالعقول التي دبَّرت, والأيدي التي مَهَرت, والأجيال التي تابعت التدبير والإنجاز, كانت كلُّها إسبانية لحمًا ودمًا, وكان من قبيل المصادفة - قالوا - أنّ أولئك البُناة دانوا بالإسلام ونطقوا بالعربية!

          إنّا لنقول, في هذا, كلمةً: إنْ كان (الدم الإسباني), الذي اغتذت منه عروق الأندلسيين (ولم يكن بطبيعة الحال إسبانيًا خالصًا) هو العنصر الفاعل في بناء صُروح هذه الحضارة, فلمَ لم يتأتَّ, لهذا الدم الإسباني نفسه, أن يفعل, أن يبني, حضارة مماثلة في الجانب الآخر من شبه الجزيرة الإيبيرية, وقد كانت الرقعة المسيحية تتّسع شيئًا فشيئًا, وتظلّ مع ذلك قاصرةَ عن أن تُقيم حضارة, على حين كانت الرقعة الأندلسية, التي تضيق باستمرار, تُنتج وتُبدع, وآخر آياتها قصر الحمراء?!

          وأضيف ما همس به لي صديقي, الباحث في تاريخ العلوم العربية د.محمد ظافر الوفائي: إن كان الإسبان يدّعون أنهم هم بناة حضارتنا الأندلسية, فلم لم يُبدعوا شيئًا من ذلك قبل الفتح الإسلامي? وأيضًا: لماذا قصرت همتهم عن أن يُتابعوا, بعد رحيل العرب, حضارة الأندلس ذاتها ويستمرّوا فيها?

          وأجدني حريصًا على أن أذكر, هنا, ما سبق أن قُلته في تقديمي لكتاب (فضل الأندلس على ثقافة الغرب) تأليف المستشرق الإسباني الكبير البروفسّور (خوان فيرنيت) فممّا قلت:

          صحيح أنه كان بين الأندلسيين كثير, وكثير جدًا, من أبناء البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام, وتناسلوا في ظلّ دولة الإسلام, وتربّوا على قيمه, وتشبّعوا من ثقافته, وكانت منهم الغالبية من الأمة ومن الجُند المدافعين عن الأندلس في تلك الحروب العنيدة, وهؤلاء جميعًا أسهموا في إبداع حضارة البلاد - وهي حضارةٌ إسلاميّة - على نحو ما أسهم أهل البلاد المفتوحة في كل مكان خفقت فيه راية الإسلام, دمشق وبغداد والفسطاط والقيروان, مثلاً.. أقول: إنّ (الفتح) لم يكن قطّ عربيًا عنصريًا (وإلاّ كان (غَزْوًا) يكتب بيده نهايته), بل كان (عقائديًا) إسلاميًا وحضاريًا إنسانيًا (المقدمة: ص15).

الانتباهة الأولى

          أعود إلى ما بدأت فيه, فأقول إن اهتمام المشارقة بالأندلس, كان حاضرًا على طول التاريخ العربي. ولكن بدا أنّ غروب شمس الإسلام من سماء الأندلس أدّى إلى غياب الأندلس من ذاكرة المشارقة والعرب, وكان الاستثناء الوحيد - في زعمنا - ما تجلّى في الكتاب المسمّى: (نَفْح الطيِّب من غصن الأندلس الرطيب), هذا الذي حقّق - في ظنّي - ما أسميه (الانتباهة) الأولى!

          متى? قبل نحو أربعمائة سنة من يوم الناس هذا.

          وأين? في دمشق الشام, في حرم الجامع الأموي وفي مغاني غوطتها الجميلة.

          وعلى يد من? أحمد بن محمد المقري التلمساني.

          كيف? إليكم الحكاية:

          غادر هذا العالم, المنسوب إلى بلدته (مَقَّر), موطنه لأسباب, متوجهًا إلى الديار المقدّسة, مرورًا بمصر بطبيعة الحال. وبعد أدائه الفريضة شاء أن يزور بلاد الشام. وحلّ بدمشق, في منتصف شعبان من سنة 1037 (ربيع 1628م), أي بعد سقوط غرناطة بمائة وأربعين عامًا هجريًا. وكان حبُّه للأديب الغرناطي (لسان الدين ابن الخطيب), يتملّكه ويملأ خاطره وفؤاده, حتى ليجعله يتماهى في شخصه, في المعاناة التي مرّ بها كلّ منهما, وفي المصير الذي اعتقد صاحبنا أنه كان يئول إليه! وربما كانت إقامته بدمشق التي امتدّت أربعين يومًا, من أحلى أيّام عمره.

          نزل المقرّي في (المدرسة الجقمقيّة), سلَّمه مفتاحها الأديب أحمد بن شاهين. وتركّز نشاطه العلمي في أنه أخذ يُملي - كما يقول المُحبّي (في (خلاصة الأثر), 1:305) - ((صحيح البخاري) في الجامع (الأموي) تحت قبّة النَّسر بعد صلاة الصبح. ولمّا كثر الناس بعد أيام خرج إلى صحن الجامع. وكان يوم ختمه حافلاً جدًا, اجتمع فيه الألوف من الناس, وعلت الأصوات بالبكاء.. وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قريب الظهر..).

          لقد كان لزيارة هذا العالم لدمشق الأثر الأكبر, وقد يكون الأوحد, في تصنيفه الكتاب المشار إليه. ذلك أنه كان في أحاديثه, أمام العلماء والأعيان والطلبة وفي طليعتهم أحمد بن شاهين, يُفيض في ذكر لسان الدين ابن الخطيب, والتغنّي بمكانته الأدبية والعلمية والسياسية. فأثار في النفوس حبّ الاستطلاع إلى مزيد من البيان عن هذا الرجل. ترى, هل كان المقرّي, القادم من المغرب, أول من هزّ المشارقة فأيقظ فيهم روح المطالبة بالمعرفة عن ذلك القطر الإسلامي المنكوب, المنسيّة نكبتُه ومحنته?!

          وكان أحمد بن شاهين, المسلّمُ مفتاحَ مدرسته للضيف المغربي, الأشد إلحاحًا في أن يؤلّف الرجل في غده الآتي, وهو في مصر, عن لسان الدين. ولقد شرع المقرّي في ذلك لدى وصوله إلى القاهرة. ثمّ إنه قُيِّض لابن شاهين أن يطّلع على شيء ممّا كتب, فأحسّ بخيبة أمل لأن صديقه لم يُدرج في فاتحة الكتاب ما كان دار بينهما من محاورة. وذلك ما اضطرّ المقرّي إلى معاودة العمل على نسق جديد: خصّص جانبًا من الكتاب لذكْر دمشق وأصحابه فيها, وكذلك ذكْر من رحلوا من بلاد الشام والمشرق إلى الأندلس, والمرتحلين من الأندلس باتجاه المشرق طلبًا للعلم أو الحجّ أو التوطُّن.

          وأمّا سائرُ الكتاب فقد شغل نصفه الحديث عن الأندلس تاريخًا وأدبًا وعلمًا وحضارة, واستأثر بالنصف الآخر - وليس أكثر - ابنُ الخطيب.

          وسَمّي الكتاب: (نَفْح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب وذِكْرُ وزيرها لسان الدين ابن الخطيب). بلغ طوله, إنْ لم نقدِّره بالصفحات, ألفَ ألف كلمة حسب قول الأقدمين, ومليونًا من الكلمات حسب تعبير اليوم.

          أقول: إنّ هذا الكتاب هو أول ما صُنّف حول الأندلس بعد سقوط غرناطة, واتخذت مخطوطاته مواضع لها على أرفف المكتبات العامة والخاصة في العالم العربي والإسلامي, تمتدّ إليها الأيدي بين الحين والحين. فلما ظهرت المطبعة العربية في العالم كان هذا الكتاب الأول بين ما قدّمته مطبوعًا من الكتب الأندلسية. ظهرت طبعته الأولى (القسم الأول منه فقط) في ليدن بهولندا في العام 1855, محقّقة ومفهرسة, بعناية المستشرق دوزي ورفاقه الثلاثة (دوجا وكريل ورايت).

          وأما طبعاته في المشرق العربي فهي (حسب علمي):

          الأولى: طبعة بولاق 1862م/1279هـ.

          الثانية: طبعة مصر 1884م/1302هـ (التي اعتمدها الزركلي في (أعلامه)).

          الثالثة: طبعة القاهرة 1949م/1368هـ, بإشراف محمد محيي الدين عبدالحميد.

          الرابعة: طبعة دار صادر بيروت 1968م/1388هـ (سبعة مجلدات والثامن فهارس).

          الخامسة: طبعة دار الكتب العلمية ببيروت 1995م/1415هـ (عشرة مجلدات ثمّ أضيف إليها مجلد للفهارس).

          ولقد بدا هذا الكتاب شاميَّ الأنفاس والأنسام, من عدّة وجوه:

          أولها أنّ الداعي لتأليفه أهلُ الشام, وثانيها أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام, وثالثها أنّ غالب أهل الأندلس كانوا من عرب الشام الذين اتخذوا الأندلس وطنًا, ورابعها أنّ غرناطة نزل بها أهل دمشق وهم الذين سمّوها باسمها.

          لمّا كان القرن العشرون قُدِّر للشاعر أحمد شوقي أن يقضي شطرًا من حياته في إسبانيا منفيّا (1914 - 1919), فاستروح هناك أنسام الحضارة التليدة, وتغنّى في ذلك بقصائده المعروفة, فذكّر الناس بالأندلس المنسيّة!

          وما لبث أن ظهر, في مصر, أول باحث يرود تاريخ الأندلس طولاً وعرضًا وعمقًا, هو محمد عبدالله عنان, ويؤرّخ (ابتداء من العام 1936) لعصورها المتتالية في موسوعة كان أول أسفارها (دولة الإسلام في الأندلس, من الفتح إلى بداية عهد الناصر).

          وفي المدة التي تولّى فيها عميد الأدب العربي طه حسين (وزارة المعارف) بمصر, رأى أن تفتتح وزارته, في العام 1950, في العاصمة الإسبانية, ما سمّوه (المعهد المصري للدراسات الإسلامية), وأوفد في ذلك طلابا إلى مدريد, ليدرسوا ويطلعوا على ما هناك من مصادر ومراجع.

التراث المفقود

          وعمّ بعد ذلك اهتمام متصاعد بالأندلس من قبل الدارسين العرب, أدبًا وتاريخًا, وأخذوا ينشرون ما تصل إليه أيديهم من التراث الأندلسي, ينهض بهذه المهمة الجليلة باحثون من مصر وبلاد الشام والعراق, ومن المغرب خاصة, التي شاءت أن تعد نفسها, بحق, الوريثة الشرعية للأندلس بسبب المجاورة.

          وقد تفاوت النشر والتحقيق في مستوياته, ما بين طباعة النص كما هو, وبين معارضة النسخ المتعددة للمخطوطة الواحدة, وتبيان الفروق والاختلافات بينها, مع العودة إلى ما قد يكون هناك من مقتبسات منها وإليها من كتب أخرى, وكذلك الشرح والتفسير, والتعليق الموجز والمستفيض, قبل تقديم النصّ إلى المطبعة.

          وأحبّ أن أبيّن أن الاهتمام عند بعضهم قد تجاوز العناية بالمخطوطات الموجودة إلى تلك المفقودة, وكيف يمكن أن يخرج إلى الوجود كتاب مفقود? والجواب أن الكتاب الضائع إذا كان على درجة من الأهمية, فإن المعاصرين للكتاب ولكاتبه, وأيضًا التالين على زمنهما, كثيرًا ما ينقلون من الكتاب نصوصًا يضمّنونها الكتب التي يؤلفون.

          وقد تنادى الباحثون, ممن شاركوا في (ندوة ابن حيان وتاريخ الأندلس) التي أقيمت في الرباط في المدة من 19-23 نوفمبر 1981 (21-25 المحرم 1402), في شأن المصنّف المهم جدًا, الذي كان قد وضعه شيخ مؤرّخي الأندلس (أبو مروان ابن حيّان القرطبي) (377-469هـ), وسمّاه (المتين), مؤلفًا من ستين سفرًا, أرّخ فيه لبضع وستين سنة, أيام الفتنة البربرية في قرطبة, وما أدركه المؤلف في حياته من عصر ملوك الطوائف. وقد نقل من هذا الكتاب من نقل, ابتداء من ابن بسام الشنتريني بكتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) (وهو الأكثر نقلاً), إلى كتّاب آخرين مثل ابن سعيد في (المغرب في حُلى المغرب) وابن خلدون في (العبر وديوان المبتدأ والخبر), وصاحبنا المقري في (نفح الطيب).

          قلت: وقد وقفتُ, قبل أعوام قريبة وأنا بالقاهرة, على كتاب عنوانه (من نصوص كتاب المتين), جمع النصوص, من (ذخيرة) ابن بسام وحدها, د.عبدالله محمد جمال الدين, مذيّلاً مقدمته بـ(مدريد ديسمبر 1977), وبدا أن ظهور هذا الكتاب إلى النور قد تأخر حتى 1997, حين تولّى نشره (المجلس الأعلى للثقافة) بالقاهرة.

          وأقول إني أشتغل, منذ مدة, في واحد من كتب (أبي العباس النباتي) الإشبيلي, (561-637هـ) الضائعة كلها, فلم يصل إلينا منها إلا نُقولٌ اقتبسها تلميذه ابن البيطار في موسوعته (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية), من الكتاب الذي ألّفه أستاذه وسمّاه (الرحلة النباتية) (أو (الرحلة المشرقية)). قمت بجمع تلك النّقول وصنّفتُها, وكلُّ واحد منها يتعلق بنبات عاينه أبو العباس في الحجاز وبلاد الشام, حتى خراسان, حيث وصل إلى مدينة مَرو (في جمهورية تركمانستان اليوم). وإني لم أكتف بنص أبي العباس في كل مادّة نباتية ذكرها, بل قدّمت عليها ما قاله فيها أسلافه وألحقت بها ما قاله اللاحقون.

          أجل...عادت الأندلس إلى ذاكرة الإنسان العربي, في القرن العشرين, أقوى ما تكون حضورًا وتوهّجًا, تروي قصة حضارة عظيمة نسج خيوطها الأجداد في تلك البقعة على سطح كوكبنا على مدى ثمانية قرون من عمر الزمن.

 

فاضل السباعي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




قصر الحمراء. قاعة السباع. واحد من أجمل وأهم الآثار الأندلسية التي لا زالت باقية حتى الآن





قلاع غرناطة وأسوارها القديمة لا زالت باقية حتى الآن. فكيف تضيع الاندلس من الذاكرة?