محمد جبريل وفاطمة يوسف العلي

محمد جبريل وفاطمة يوسف العلي

النظرة للإبداع يجب أن تتغير لأن مبدعينا ينحدرون للهاوية

  • لم يكن بمقدوري الكتابة إلا عن البحر
  • حتى نجيب محفوظ توزيع رواياته انخفض إلى حد كبير
  • يضطر الكاتب لدفع مايزيد على القيمة الفعلية لطباعة كتابه

رغم أن الكاتب محمد جبريل متنوع في كتاباته, يوزع قلمه بين الصحافة والتأليف والنقد الأدبي, فإن الشهادة الحقيقية على ما قام به من جهد تكمن في إبداعه الروائي. ولا يعني التركيز على هذا الجانب ترك بقية ملامح الصورة. ولكن هذا الجانب, الذي يعتز به كثيرا,ً يبقى الجانب الأكبر والأكثر حميمية من ذاته. إنه كاتب غزير الإنتاج. فله أكثر من عشرين رواية أشهرها (رباعية بحرى) التي تتألف من أربع روايات متصلة منفصلة هي (أبو العباس) و(ياقوت العرش) و(البوصيري) (وعلي تمراز). وهي الرباعية التي يحلو للنقاد عقد مقارنة بينها وبين رباعية داريل الشهيرة عن الإسكندرية. كما أن إسهام محمد جبريل في القصة القصيرة كبير أيضا فله حوالي عشر مجموعات قصصية, أولها (تلك اللحظة) وآخرها (رسالة السهم الذي لا يخطئ) وله في مجال النقد أكثر من كتاب. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية عن كتاب (مصر في عيون كتابها المعاصرين) عام 1975.

ولد محمد جبريل في مدينة الإسكندرية عام 1938, وتقلد أكثر من منصب صحفي مهم في مصر والعالم العربي.

وقد أجرى الحوار معه القاصة الكويتية فاطمة يوسف العلي وهي من الأديبات النشيطات على مستوى العمل العام ولها ثمانية كتب تتوزع بين القصة القصيرة والرواية والبحث الأدبي وأشهرها: (وجوه في الزحام) 1971, (وجهها وطن) 1995, و(تاء مربوطة) 2001 وهي مجموعة قصصية صدرت من القاهرة.

  • يبدو البحر شخصية رئيسة في معظم إبداعاتك, وهو أشد ما يكون تجسيداً في روايتك الضخمة (رباعية بحري)... ما تفسير ذلك?

- بداية, أنا لم أكتب عن البحر, ولا عن الصلة بين البحر واليابسة, وهو ما يبين في الكثير من إبداعاتي الروائية والقصصية, لم أكتب لطرافة الموضوع, وإنما لأنه لم يكن بمقدوري سوى الكتابة عن البحر. البحر يحضن الإسكندرية من معظم جوانبها, ويحيط بحى بحري من ثلاث جهات, كان هو المكان الذي تطل عليه شرفة بيتنا, ويطل السطح على امتداد آفاقه. كنت أسير على شاطئه, وأتابع التعامل اليومي معه في صيد الصنارة والطراحة والجرافة, وعمليات الشحن في الميناء الغربية, وركوب البحر نفسه في قوارب صغيرة تعبر المسافة من باب واحد إلى باب رقم ستة, أو في لانشات تمضي إلى قرب البوغاز, حتى في الظلام, كنت أستمع إلى البحر, وإن كنت لا أراه. أتذكر قول رامبو: (إنه البحر وقد رحل مع الشمس). البحر ليس موضعاً طارئاً في حياتي. إنه الحياة نفسها. وعلى الرغم من انقضاء عشرات الأعوام على ابتعادي - بصورة عملية - عن الإسكندرية, فإني أفضل - حتى الآن - أن تدور أحداث أعمالي في بحري, لأني أشعر أن الحي تحت تصرفي, أعرف تاريخه وأسواقه وشوارعه ومساجده وبناياته وسلوكيات حياته اليومية, أعرف المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد, حتى مسميات الأشياء واللهجة هي وسيلة التعبير عندي, حتى مستطيلات البازلت التي تتفق فيها مع المدن الساحلية الأخرى.

حي بحري بالإسكندرية هو الأرضية لمعظم ما كتبت من إبداعات. وقد أردت في رباعية بحري بأجزائها: أبو العباس - ياقوت العرش - البوصيري - على تمراز, أن أكتب فصولاً مستقلة, تتكامل في تصوير حي بحري الذي أحببته, وامتداده الطبيعي إلى المكس, أو إلى الرمل.

صورة الإسكندرية

  • ما أوجه الاتفاق - والاختلاف - بين رباعية الإسكندرية ورباعية بحري?

- ليست هذه هي المرة الأولى التي يوجه لي فيها هذا السؤال. وقد صدمني السؤال في البداية, وربما تضايقت منه, ثم ألفته بالمعاودة. أصارحك أني تعمدت ألاّ أقرأ رباعية الإسكندرية حتى لا أقع في شبهة تأثر, قراري بكتابة رباعية بحري يعود إلى مطالع حياتي الأدبية, وبالذات في ضوء الحفاوة النقدية الواضحة, والتي اعتبرت رباعية داريل من أعظم إبداعات القرن العشرين.

ثم حاولت - بعد أن صدرت رباعية بحري - أن أفتش عن جوانب الاتفاق والاختلاف, لا كناقد, فقد مللت تأكيد أنه حتى فوزي بجائزة الدولة في النقد لا يلغي تفهّمي لقدراتي النقدية, وأني سأظل دوماً خارج أسوار النقد!

رأيي أنه إذا كانت صلة شخصيات ميرامار نجيب محفوظ بالإسكندرية هي صلة هامشية, حيث اختاروا الإقامة في الإسكندرية كمنفى, لا تشغلهم حياة ناسها اليومية, ولا مشكلاتهم, فإنه من الصعب إهمال التأثيرات الأجنبية في حياة الإسكندرية. وعلى سبيل المثال, فإن يوم الأحد في الإسكندرية يختلف عن اليوم نفسه في بقية المدن المصرية. الشوارع خالية نسبياً, والكثير من المتاجر يغلق أبوابه, ذلك لأن التأثيرات الأجنبية التي تحققت من خلال (مواطنة) أعداد هائلة من الجاليات الأوربية لم تندثر من المدينة بصورة كاملة بعد. لكن الصورة التي رسمها داريل في رباعية الإسكندرية - على حد تعبير صلاح عبدالصبور - تنتمي إلى داريل أكثر مما تنتمي إلى الإسكندرية.

والحق أنه من الصعب أن أجري شخصيا مقارنة بين ما كتبته وما كتبه مبدعون آخرون, لكن الذي أستطيع تأكيده أن الكتابة عن الإسكندرية - وبحري تحديداً - حلمي القديم, الجميل, الذي يرافق محاولاتي الإبداعية منذ بداياتها. السؤال: لماذا, لم أناقشه - بيني وبين نفسي - على الإطلاق? فقد كانت الكتابة عن حي الطفولة والنشأة والسمات المميزة والبيئة التي تختلف عن مثيلاتها في أحياء الإسكندرية الأخرى, كانت شيئا أشبه بالقدر... لكنني أملك - فيما أقدّر - طرح بعض الآراء التي تناولت رباعية داريل, ثم أترك للقارئ - قارئ أجزاء الرباعية وقارئ هذه المواجهة - أن يتعرف إلى ما ينشده من أوجه الاتفاق والاختلاف.

الذاكرة أفضل

  • هل تختلف صورة بحري الذي عبرت عنه في أعمالك عن صورته الحالية?

- أصارحك بأن الحزن يلفني عندما أزور الإسكندرية, حي بحري بالذات, هذه الأيام, لقد تغيرت الصورة تماما, فأنا أفضل أن أعتمد على صور الذاكرة.

حي الجمالية بعمارته الإسلامية وشوارعه الضيقة وأقبيته ومساجده وزواياه وحرفييه, هو التعبير عن القاهرة المعزية بكل زخمها التاريخي والمعماري والإنساني. ذلك ما يصدق - إلى حد كبير - على حي بحري, وإن انتسب الكثير من أبنائه إلى المهن المتصلة بركوب البحر.

أفلح الانفتاح في أن ينفذ - بمظاهره السيئة - إلى الموطن الذي نشأت فيه, وأحببته. بحري الذي عشت فيه يختلف عن ذلك المبنى الخرساني الهائل الذي احتل ميدان أبي العباس, فذوت الروحانية وحميمية البشر. افتقد الحديقة الهائلة أمام سراي رأس التين تتاح خضرتها للجميع, ويتلى فيها القرآن في ليالي رمضان. شاطئ الأنفوشي احتلته الكبائن وورش المراكب, فضاعت فرص أبناء الحي الشعبي في الإفادة من البحر الذي ولدوا على شاطئه.

غياب المرأة

  • بعض الآراء تجد في رحيل الأم في سن باكرة سبباً في غياب المرأة عن معظم إبداعاتك... ما رأيك?

- أوافقك على أن المرأة كانت غائبة, أو أنها عانت شحوباً في أعمالي الأولى, لكن الملامح تغيرت تماماً في الأعمال التالية. ثمة نادية حمدي في (النظر إلى أسفل) التي تمثل شرياناً رئيساً في جسد الرواية, والزوجة في (اعترافات سيد القرية) تهبنا مواقف إيجابية مناقضة لما كان يمثله الرجل, وأنسية في (رباعية بحري) تحملت ما لا يحتمله بشر في محاولة تخطى ظروفها القاسية. وثمة ياسمين في (الشاطئ الآخر), وعائشة عبدالرحمن القفاص في (قلعة الجبل), وزهرة الصباح في الرواية المسماة بالاسم نفسه, وبهية الحلواني في (بوح الأسرار) وغيرها من الشخصيات التي تقدم المرأة في أبعاد مختلفة. قد تواجه ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سلبية, لكنها واصلت السعي في اتجاه رفض الظروف المعاكسة, والإصرار على تخطيها.كان لغياب أمي عن حياتي في سن باكرة تأثيره بالنسبة لي على المستويين الشخصي والإبداعي, وقد اتسعت مساحة ذلك التأثير - فيما بعد - في مجموع أعمالي, بحيث تبين المرأة - كما أتصور - عن ملامح يصعب إهمالها.

  • ما رأيك في مقولة إننا نحيا زمن الرواية?

- مع افتتاننا بالتعبيرات التي تختزل ظاهرة أدبية, فإن أحد النقاد أعلن - ذات يوم - وفاة القصة القصيرة, وأعلن نقاد آخرون أن الزمن ليس زمن الشعر, وأكد البعض أن المستقبل للكتابة الدرامية, وأنها هي رواية المستقبل. ويصدم أسماعنا وأعيننا - بين فترة قصيرة وأخرى - تعبير ينعى وفاة جنس أدبي, أو يؤكد سيادته على بقية الأجناس.

وإذا كان تعبير زمن الرواية هو ما تلوكه أفواهنا وأقلامنا في الأعوام الأخيرة, فإن المأزق الذي يواجهه هذا التعبير, وربما أفقده مصداقيته, ما يحرص الناشرون - على تأكيده بأن زمن النشر الروائي انتهى!... بمعنى حفاوة الناشرين بالروايات, والإقدام على نشرها, دخل - منذ سنوات - في دائرة المستحيل.

قراء الرواية يتناقصون, مقابلاً لزيادة قراء السياسة والمذكرات والدين والمشكلات العاطفية والحسية, بالإضافة إلى الأزمة التي يعانيها الكتاب الورقي بتأثير الوسائل الطباعية المستحدثة, وأهمها - بالطبع - الكتاب الإلكتروني.ثمة وسيلتان لنشر الأعمال الروائية, أولاهما هيئات وزارة الثقافة: هيئة قصور الثقافة, وهيئة الكتاب, والمجلس الأعلى للثقافة. أما الوسيلة الثانية فهي اللجوء لدور النشر الخاصة التي تحصل من مؤلف الرواية على أكثر مما تتكلفه طباعة العمل, فتضمن الربح مسبقا, بينما يحصل المؤلف على نسخ قليلة... هدايا للأصدقاء!

أما الناشرون الذين يعرفون لعملية النشر قدرها واحترامها, فإنهم يرفضون الكتابات الروائية باعتبارها بضاعة كاسدة. وتقتصر اختياراتهم على البضاعة المضمونة الرواج, وبالذات الكتاب الجامعي الذي يمثل - كما نعلم - بضاعة مفروضة من الأساتذة على الطلاب!...

الحديث عن زمن الرواية يبدو بلا معنى أو مستغربا أمام إحجام الناشرين عن قبول الأعمال الروائية.

وإذا كان الزمن هو بالفعل زمن الرواية, فلماذا لا يزدهر سوق الرواية? لماذا يرفض الناشرون قبولها? ولماذا تتدنى أرقام التوزيع?

المثل الأشد غرابة أن نجيب محفوظ بكل ما حققه من مكانة في حياتنا الثقافية, وفي الثقافة العالمية بعامة, هبطت أرقام توزيع رواياته من عشرة آلاف نسخة في العام, إلى ثلاثة آلاف نسخة كل بضعة أعوام.

مَن يعيننا على حل اللغز?!

سوق النشر

  • كنت نائباً لرئيس اتحاد كتاب مصر, كيف تنظر إلى مشكلة النشر التي تحولت إلى ظاهرة سلبية لم تفلح في علاجها كل المحاولات سواء على المستويات الإقليمية أو القومية?

- المتأمل لأحوال النشر في بلادنا, يستطيع أن يقسم الناشرين إلى ثلاثة أنواع: ناشر يعطى المؤلف مكافأة على ما يكتبه بضع مئات من الجنيهات. وناشر يكتفي بتقديم نسخ قليلة للأديب مقابلا لنشر إبداعه, من قبيل التشجيع, أو المجاملة! أما النوع الثالث فهو يحصّل من المؤلف ما يزيد على تكاليف طباعة كتابه, أي أن الأديب يعطي ولا يأخذ, كل ما يأخذه بضعة آحاد أو عشرات من النسخ!

والحق أن المقابل المتواضع الذي يتلقاه بعض الكتاب, والاكتفاء بمجرد النشر لكتّاب آخرين, واضطرار كتاب لدفع ما يزيد على التكاليف الفعلية لطباعة كتبهم, ذلك كله يعكس نظرة دور النشر بعامة إلى مهنة الكتابة, وأن الهدف في كل الأحوال هو مجرد تشجيع الأديب على توثيق إبداعه, وليس تسويقه, فبعض الكتب لا يصدر منها أكثر من مائتي نسخة أو ثلاثمائة على, وبالذات إصدارات دور النشر التي تقوم بعملية احتيال معلنة حين تحصل على ما يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف جنيه مقابلاً لطباعة بضع عشرات من النسخ, مجرد توثيق فلا يجد الكتاب سبيله إلى أرفف المكتبات, ولا عند باعة الصحف.

إن النظرة إلى قيمة الإبداع يجب أن تتغير. ما يكتبه الأديب في معظم بلاد العالم يدر عليه دخلا يتيح له التفرغ لإبداعه. أما النظرة إلى مبدعينا فهي تتحدد في دائرة الهواية. حتى المقابل الذي ربما تقاضاه لا يصل - بالقطع - إلى قيمة الكتب التي قرأها, ولا الوقت الذي أنفقه, ولا أجر الكمبيوتر, وبالمناسبة, فإن دور النشر تشترط الآن أن يسلم الأديب أصول كتابه مطبوعة على الكمبيوتر!

إن تخلفنا - في كل المجالات - سيظل حقيقة يصعب إغفالها, ما لم تحصل الكلمة ومبدعها على المكانة اللائقة, والقيمة المستحقة!

ثقافة العناوين

  • في تقديرك, ما أخطر السلبيات التي تعانيها الثقافة العربية?

- سأحدثك عن ثقافة العناوين, أو السندوتش, أو التيك أواي. سمها ما شئت, لكنها تحولت في حياتنا إلى ما يشبه الظاهرة.

ثمة من يجلسون إلى المثقفين, يستمعون إلى آرائهم فيما قرأوا, ويلتقطون عناوين كتب, وأسماء أعلام, وملخصات أفلام ومسرحيات ونظريات فلسفية, ثم ينقلون ذلك كله - أو بعضه - إلى مجالس أخرى. يتحدث أحدهم عن ديستويفسكي بما ينقل إلى محدثيه شعورا أنه قد قرأ كل أعماله, ويتحدث آخر عن المذاهب الفلسفية والفنية بلهجة الدارس الذي أجهد نفسه في المتابعة والمناقشة والتحليل, وتتناثر في كلمات آخرين أسماء أعلام وكتب واتجاهات, بما يعكس ثقافة واسعة.

ظني أنه قد ساعد هذه الظاهرة أسلوب الملخصات الذي تصدر من خلاله بعض دور النشر أعمالاً عالمية مهمة. ولعلي أشير إلى سلاسل تقدم عشرة كتب عالمية في كتيب محدود الصفحات, أو تختصر التراث الإنساني بكامله في بضعة مجلدات... والهدف المرجو - أو المعلن - أن تكون مؤشرا للأعمال الأصلية, لكن القارئ يكتفي بما قرأ, ويعتبره غاية المراد من رب العباد, ويتحدث عما قرأ من ملخصات وكأنه قرأ الأعمال الكاملة!

وقد أخذت الظاهرة بعداً آخر, غريباً, في اعتبار البعض ما شاهده من أفلام أو مسرحيات مأخوذة من أعمال أدبية, نقلا جيدا عن تلك الأعمال يغني عن قراءتها, ويسمح بالتحدث فيها, توهما أنهم قد عرفوا عنها بما يكفي!.... وكم أذهلني تناول كاتب كبير لرواية أستاذنا نجيب محفوظ (خان الخليلي). ناقش الرجل فنية الرواية, وحلل الأحداث والشخصيات, ثم أنهى ما كتبه بالإشارة إلى أنه لم يقرأ الرواية, وإنما اكتفى بمشاهدة المسرحية المأخوذة منها!

وتبلغ الظاهرة حد المأساة عندما يلجأ ناقد إلى تلخيص للعمل الأدبي كتبه ناقد آخر, فيبني عليه مناقشته للعمل, وهو ما نطالعه - مع الأسف - في العديد من الكتب النقدية المعاصرة. يفلح ناقد في إخفاء سطوه على جهد الآخرين, بينما لا يجد ناقد آخر ما يدعو إلى إخفاء ما فعل. ولعل المثل الذي يحضرني, ذلك الكتاب الضخم عن توفيق الحكيم. ناقش مؤلفه - فيما ناقش - رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل, ثم ذكر في الهامش أنه قد اعتمد في كل ما كتب على كتاب علي الراعي (دراسات في الرواية المصرية), أي أنه - ببساطة - لم يقرأ الرواية التي قتلها نقداً!

المبدع قائد ثقافي

  • ثمة مؤاخذات على أن الكثير من المبدعين لا يعنون في إبداعاتهم بأخطر قضايا عالمنا العربي, وهي قضية الصراع العربي - الصهيوني, فما رأيك?

- نظرة بعض المثقفين إلى الأديب أو الشاعر أنه لا يعنى بغير الإبداع. فلا شأن له بقضايا المجتمع ولا السياسة. حتى الرياضة لا يتصورون أنها تعنيه في شيء.إنه يؤثر الحياة في جزيرة صنعها لنفسه, يكتفي فيها بقراءة ما يتصل بإبداعه, أو ينصرف إلى تأملات في فضاء هذا الإبداع, أو ينشغل بالكتابة الإبداعية.. هذا هو عالمه المحدد والمحدود, أشبه بسياج البيت في أيام طه حسين الذي كان الصبي يتصوره نهاية العالم.

تلك - بالتأكيد - نظرة خاطئة.. فالأديب له اهتمامات كل المثقفين, فضلاً عن هؤلاء الذين قد لا تعنيهم قضايا الثقافة, وإنما انشغالهم بواقع حياتهم وظروفهم المعيشية. ربما يجاوزونها إلى اهتمامات ثقافية أو ترويحية مثل التردد على المسارح ودور السينما, أو متابعة برامج التلفزيون, أو مجرد الجلوس على المقاهي.

يتابع المبدع - على سبيل المثال - مناقشة حول مباراة في كرة القدم. يحاول المشاركة برأي.. لكن الدهشة المستغربة تواجهه: مالك وكرة القدم!

الأقسى عندما يبدي المبدع رأيه في بعض قضايا السياسة. تعلو الملاحظة المشفقة: السياسة بحر قد لا تحسن السباحة فيه!

والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.أثق أن النضال المقاوم الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد العنصرية الصهيونية هو الشاغل الأهم لكل المبدعين, انطلاقاً من الوعي بالقضية, بواعثها وظروفها وواقعها ونتائجها المحتملة.

الصراع العربي - الصهيوني في فلسطين يعني المواجهة بين الحضارة العربية والهمجية الصهيونية, بين إرادة الحياة على هذه الأرض مقابلاً لإرادة الغزو والاحتلال والاستيطان, التعامل مع تطورات الأحداث بمنطق نكون أو يكونون, والقيام بدور المحفز والمحضر, ومحاولة التوصل إلى آراء إيجابية ربما أسهمت في توضيح ما يفيد منه أصحاب القرار. والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقاً بقضايا مجتمعه, وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعي ما يتيح له النظرة الشاملة, الرؤية التي تناقش وتحلل وتتفق وتختلف.

ذلك هو موقف كل المبدعين. المبدع قائد ثقافي في مجتمعه, وهذه القيادة لا تبين في التغزل بالقمر, ولا التغني بقطر الندى. لا قيمة لأي إبداع يغيب عنه الوعي في مواجهة الخطر. والخطر الذي نحياه - كما قلت - لا يقتصر على قطر بذاته, لكنه يشمل كل المنطقة العربية. إنهم يصرون على اجتثاث الوجود العربي من أرض فلسطين, بداية لتحقيق استراتيجية دامية, تمتد إلى بقية الأقطار العربية.

إعلام الذات

  • ما ملاحظاتك على الاستراتيجية التي يعمل الإعلام العربي في ضوئها?

- تتنقل متابعتي بين أكثر من قناة فضائية عربية. القضية الأهم ما يجري الآن في فلسطين المحتلة, صور تعكس بشاعة الممارسات الصهيونية وإدانات معلنة وبرامج ومناقشات وتحليلات موضوعية ومتحمسة, وإن التقت جميعها في وجوب استعادة الشعب الفلسطيني أرضه وإرادته وحريته, مقابلاً لإدانة جرائم عصابة شارون وشركائه!

أنتقل إلى قناة أوربية, نشرتها الإخبارية تقدم فقرات عن أحداث الأرض المحتلة.. لكن الصور والتعليقات تختلف تماماً عن تلك التي أجمعت القنوات العربية على تقديمها, ثمة العشرات من اليهود يشاركون في دفن جندي إسرائيلي قتله الفلسطينيون رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة.

انتظرت بقية الفقرات, ربما تقدم الجانب الآخر من الصورة, وهو الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.. لكن الأيدي الصهيونية بدت واضحة من وراء تتابع الصور والتعليقات.

المشكلة - باختصار وبساطة - أننا نتوجه بإعلامنا إلى أنفسنا, إلى نحن. نعرّف أصحاب القضية بعدالة قضيتهم! أما الإعلام الصهيوني فهو ينطلق بالأكاذيب والدعاوى الأسطورية إلى الرأي العام العالمي من خلال سيطرة إعلامية مؤكدة, تشمل الكتاب والصحيفة والفيلم والمسرحية والبرنامج الإذاعي والتلفزيوني. يضع نفسه دوماً في موضع البريء, الجزيرة المسالمة المحاطة بالأعداء.. ولأنه بلا تاريخ حقيقي ولا تراث ولا هوية, فهو يسطو على تاريخ شعب المنطقة وينسبه إلى نفسه. فإن لم يفلح نسب ما عجز عن سرقته إلى غير حضارته, فزعم أنه تراث شرق أوسطي!

والأمثلة كثيرة, تطالعنا بها - صباح مساء - وسائل الإعلام الأجنبية, والعربية أحياناً..

الرأي العام العالمي بعد مهم في أي قضية دولية, ومخاطبته تحتاج إلى استراتيجية تحسن العرض والمناقشة والتحليل, وتدحض الأكاذيب بالحقائق الموضوعية. لا يكفي شعورنا بأننا على حق وعدونا على باطل. المهم أن نؤكد حقنا - أمام الرأي العالمي - ونعري محاولات العدو.

حكومة المافيا الإسرائيلية جعلت قتل الفلسطيني روتيناً يومياً, لكنها تخاطب العالم عن العنف الفلسطيني.. والصورة في الغرب - باعتراف البعثات الدبلوماسية العربية - ليست هي الحقيقة, بل إنها النقيض تماماً.المسألة ليست في مجرد إجادة مخاطبة الرأي العام العالمي, لكن ما يتمخض عن ذلك من تأثيرات إيجابية بالنسبة للحق العربي, وسلبية بالنسبة للأكاذيب الصهيونية. أذكّر بإقدام العشرات من دول العالم - من بينها دول أوربية - على إدانة إسرائيل وقطع العلاقات معها عقب عدوان 1967. لم يفلح الإعلام الصهيوني - رغم هزيمة العرب حينذاك - في تغيير الحقائق.

  • ماذا عن المستقبل?

- أتمى أن أظل أكتب, وأكتب, بينما نظراتي تتجه إلى البحر.





محمد جبريل





فاطمة يوسف العلي