الإصلاح.. من أين بدأ غيرنا?

الإصلاح.. من أين بدأ غيرنا?
        

          كثر الحديث عن الإصلاح في عالمنا العربي إلى درجة تثير الحيرة, بدلاً من أن تقود إلى وضوح الطريق, وهي حالة تتطلب شيئًا من الابتعاد عن خضم اللحظة وانفعال الذات, لعل هذا الابتعاد يمهد لاقتراب أفضل من الهدف, وهو الإصلاح الذي لا شك أننا - نحن العرب جميعًا - بتنا في أمس الحاجة إليه, وإن كنا نختلف على أولوياته.

  • بدأ الإصلاح في الهند بالمساواة في المواطنة والتحاور السلمي والاعتماد على الذات.
  • ما يعنينا في التجربة الغربية هو الحرية السياسية واحترام القانون والتفوق العلمي والصناعي.
  • هل يمكن ان نحاكم العقل التنويري لأنه كان سبب المجازر الكبرى في التاريخ البشري?

          في الربيع الماضي, شاركت في فعاليات مؤتمر الإصلاح العربي في مكتبة الإسكندرية, وهو المؤتمر الثاني الذي يقيمه منتدى الإصلاح العربي الذي يشارك فيه نخبة كبيرة من المثقفين من مختلف الأقطار العربية, وقد عُقد المؤتمر الأخير تحت عنوان (التجارب الناجحة), في إشارة إلى حشد من جهود منظمات المجتمع المدني في بلدان عربية عديدة.

          ودون إقلال من جهود هذه المنظمات, فإن إطلاق صفة النجاح عليها, بشكل يوحي بالاكتمال, لهو مما يجعل الخاطر يتوقف متحفظًا, فالنجاح صفة قاطعة, وهو مما لا يمكن بلوغه في العمل العام, لأن كل خطوة فيه, تعني الانتقال لخطوة أبعد, فالهدف متحرك دائمًا, مادامت هناك فجوة تفصلنا عما حققه غيرنا في العالم, وهي فجوة واضحة وكبيرة, وإلا ما كان كل هذا الصخب في نداءات الإصلاح, على مختلف المستويات.

          وبالرغم من متابعتي لفيضان الحديث عن (الإصلاح), في هذا المؤتمر الجاد, وندوات ومؤتمرات أخرى, ووسائل إعلام عربية مختلفة, مرئية ومسموعة ومطبوعة, فقد تولد عندي إحساس بأن التساؤل البديهي لم يُطرح كما ينبغي, وكما يستحق, وهو: من أين نبدأ?

          لقد طرحت السؤال على نفسي, ووجدتني بدلاً من أن أجيب عنه, أطرح سؤالاً يليه, وهو: ومن أين بدأ غيرنا? وكان الغير الذي يتبادر إلى الذهن بحكم ما تعودناه هو: الغرب. لكن واقع الحال في العالم اليوم يقول: إن الغرب لم يعد وحده في صدارة العالم, فهناك تجارب أخرى في الشرق قطعت أشواطًا بعيدة ناجحة, ومنها تجربة بلد إسلامي سبق أن أشرت إليه في أكثر من افتتاحية, وهو: ماليزيا. ولعله لم يعد مناسبًا أن أسهب في الحديث عن هذه التجربة, بالرغم من اعتزازي الشديد بها وبمفكرها الكبير مهاتير محمد, لكنني أوجز نجاح هذه التجربة فيما سبق أن أشرت إليه, وهو: تطوير التعليم, وتعظيم قيمة العمل والدأب والإتقان عند غالبية الماليزيين, من المالاي أسوة بالأقلية الصينية, وإحياء لقيم أصيلة في التراث الإسلامي لهذه الأغلبية. وبالرغم من أن التجربة الماليزية لا تلقى تقديرًا كبيرًا في مجال الديمقراطية السياسية, فإن نصيب هذا البلد من الإصلاحات هو مما لا يمكن إنكاره على أصعدة عديدة, ترتبط بجوهر الديمقراطية, وتمهد للمزيد منها, مثل الإصلاح الاقتصادي, والاجتماعي, وحقوق المواطنة.

الحصان الذي يحلق عاليًا

          ماليزيا ليست التجربة الوحيدة في مجال الإصلاح في الشرق, فهناك تجارب سبقتها, وأخرى تأتي بعدها - في درجة الوضوح لدينا - وهي الهند التي أحب أن أبدأ بها, والتي تعد أكبر ديمقراطيات العالم, تأتي حكوماتها وتذهب عبر صناديق انتخابات حرة, وبتصويت إلكتروني أيضًا, وهي مكتفية ذاتيًا بالغذاء, بالرغم من أن مواطنيها تخطى عددهم المليار. ثم إنها معمل تفريخ هائل لإبداع برمجيات العالم الحاسوبية, ولا تكتفي بذلك بل نشر أخيرًا أنها تسجل اقتحامًا لمجال صناعة الرقائق, التي تعتبر العقل في تكنولوجيا الكمبيوتر. لقد وصفها الكاتب الهندي الذي يعيش في أمريكا (شدناد راجغاتا) بأنها (الجواد الذي حلق عاليًا), وهي كذلك بالفعل.

          لكن المقصود بالتحليق لدى الكاتب هو التقدم في مجال صناعة المعلومات التي تتبوأ فيها الهند مكانة مرموقة, تتصاعد يومًا بعد يوم, وهو يُرجع بداية هذا التقدم إلى عام 1978 عندما كان حزب جاناتا في السلطة وبدأ تأسيس شركات إنتاج هندسة البرامج الحاسوبية. وهذا الزعم يشبه الاكتفاء بوصف الشجرة من أوراقها, وكأنها بلا فروع وجذع وجذور, فجذور مبادرات عام 1978 الحاسوبية الهندية, تعود إلى جذور عميقة من الكفاح الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني أيضًا, ولعل المهاتما غاندي هو أشهر هذه الجذور, فغاندي برموز كفاحه البسيطة العميقة: المقاومة السلمية, والنول والعنزة اللذان يرفعان شعار الاكتفاء الذاتي من الغذاء والكساء, ومساواة المسلمين والهندوس في حقوق المواطنة والإخاء بين عناصر الأمة, ونبذ العنف - بهذا كله - كان المهاتما غاندي يؤسس لإصلاح اجتماعي وسياسي وديني, قوامه الحوار السلمي, واحترام الاختلاف, ونبذ العنف, والاستقلال الحقيقي, ليس بالتخلص من المستعمر فقط, بل بقناعة الاكتفاء الذاتي. صحيح أن التعصب الديني قتل غاندي برصاصة متطرف هندوسي, واغتال حلمه في وحدة شبه القارة الهندية, على أسس التسامح الديني عندما انفصلت عنها باكستان وبنجلاديش, إلا أن قيام الهند المستقلة بقيادة (نهرو) - أحد أبرز تلامذة ومحبي المهاتما غاندي - جعل أسس مبادئه الإصلاحية تنمو في حديقة الواقع الجديد للهند المستقلة, وتزهر جديدًا لا ينفصل عن القديم, فالمساواة في المواطنة والتحاور السلمي عند المعلم غاندي, هما اللذان تحولا إلى انحياز صادق للديمقراطية عند تلميذه نهرو, والاعتماد على الذات عند غاندي هو الذي شكل إصرار نهرو على إصلاح تعليمي جعل من مدارسها وجامعاتها نماذج للتعليم الجيد في العالم, ليس العالم الثالث الذي كان, ولكن العالم عمومًا بما فيه الغرب.

          ومن هذه المبادرات الإصلاحية - التي تبدو بسيطة عند غاندي وبديهية عند نهرو - انطلق الحصان الهندي يحلق عاليًا, ليس في سماء العلم والتقنية فقط, بل أيضًا في أفق الديمقراطية السياسية. ولعل هذا يقودنا بداهة إلى تجربة شرقية أخرى أكثر شهرة, وهي: اليابان.

الإمبراطور المستنير

          في كتاب عنوانه (اختراع اليابان), من تأليف (أيان بوروما) وهو كاتب إنجليزي أمضى سنوات عديدة في اليابان, وكتب عنها عدة كتب - يؤرخ للنهضة اليابانية بقصة غريبة تبدأ بالثامن من شهر يوليو عام 1853, عندما وصل قبطان الأسطول الأمريكي (كالبريت بيري) إلى اليابان, بهدف فتح أسواقها التجارية أمام البضائع الأمريكية, وكان الشعب الياباني معزولاً عن العالم منذ مائتي سنة, لا يستقبل الغرباء ولا يسافر إلى بلادهم, وكانت هذه العزلة مفروضة على اليابان بسطوة حكامها, الذين خشوا من إفساد المبشرين الغربيين لرعيتهم, كما خشوا من غزو هؤلاء الغربيين لبلادهم. ولما لم يلق القبطان الأمريكي استجابة لرغباته من اليابانيين, قامت مدافع سفنه الأربع الضخمة المرعبة بقصف مدن الشواطئ اليابانية لفتحها للتجارة, عنوة! لكن يبدو أن مدافع (بيري) لم تصب أهدافها, لأنه بعد أن تضاءلت آماله هدد بأنه لن يغادر الموانئ اليابانية إلا بعد أن يلتقي بكبار ممثلي الحكم فيه, ووجه لليابانيين إنذارًا يتضمن مهلة لمدة عام حتى يستسلموا ويفتحوا أسواقهم للأمريكيين.

          كان الوجه المقابل لفظاظة الأمريكي (بيري), هو وجها آخر فظًا لمن يحكمون سيطرتهم على اليابانيين في الداخل آنذاك, وهم ليس الإمبراطور وأسرته, بل مجموعة من الإقطاعيين يرأسهم (الشوغن) الذي كان الحاكم الفعلي للبلاد والعباد في اليابان, ويقيم في (إيدو) - طوكيو الحالية - بينما يقيم الإمبراطور, الذي لا يحكم, بل يمثل مجرد استمرار للثقافة اليابانية القديمة في العاصمة الإمبراطورية القديمة (كيوتو).

          كانت المجاعات تحصد الآلاف من اليابانيين الفقراء من الغالبية, التي تعيش تحت وطأة الفقر والقهر والتخلف, ويبدو أن هذا الواقع المر لم يتغير, بعد أن عاد قائد الأسطول الأمريكي إلى الشواطئ اليابانية - بعد عام كما حدد, وانفتحت الأسواق اليابانية للبضائع الغربية.

          يزعم مؤلف كتاب (اختراع اليابان) أن انفتاح الأسواق اليابانية للبضائع الغربية, كان بداية انفتاح اليابان على العالم, لكنه يقر بأن الانفتاح الحقيقي لم يحدث إلا بعد تغير النظام, ووصول سلالة (ميجي) إلى سدة حكم اليابان. وكلمة (ميجي) تعني (الحكم المستنير). فمن أين جاءت استنارته?

          لقد طرحت سلالة (ميجي) منذ العام 1868 شعارًا يقول: (ينبغي أن نقلد الغرب, حتى نصبح مثله أو أندادًا له). وتحقيقًا لهذا الشعار راح الإمبراطور المستنير يسن القوانين الإصلاحية الجديدة, ويرسل البعثات العلمية إلى الخارج, إلى الغرب وجامعاته الشهيرة في برلين ولندن ونيويورك وواشنطن وباريس. ومما يذكر أن الإمبراطور المستنير في توجيه لطلبة البعثات العلمية الذاهبين إلى الخارج, قال: (أريد كل العلم الغربي, أريدكم أن تفهموا كل شيء, وأن تنقلوه إلى اليابان لكي نستفيد منه, ونبني عليه نهضتنا المقبلة, فنحن ينبغي أن نلحق بهؤلاء الأوربيين المغرورين بأنفسهم, والذين يحتقرون الآسيويين ويعتبرونهم همجًا وأنصاف متحضرين).

          بالطبع, لم تمض طموحات الإمبراطور المستنير في مسارات سلسة, فالطبقة الإقطاعية المرتبطة بالشوغن لم تعجبها الإصلاحات التي اتخذها الإمبراطور المستنير, ولم تتقبل فقد امتيازاتها ونفوذها, فثارت على الإمبراطور مرتين عام 1874 وعام 1877, لكن الجيش الإمبراطوري انتصر في المرتين, ومن ثم أصبح للإمبراطور (الميجي) مطلق الصلاحيات في البلد, وألغى منصب (الشوغن) الذي كان ينافسه, وكان يلعب دور الإمبراطور الفعلي للبلاد بدعم الإقطاعيين وقهرهم لأبناء الشعب. ومن ثم تواكبت رغبة (الميجي) في التحديث مع إطلاق حرية الشعب الياباني, واستعادته لإنسانيته, التي كانت مهدرة. وتفجرت إبداعات اليابانيين في كل المجالات: الزراعة, والصناعة, والتسليح, والصحة, والبناء, وكان التعليم على رأس هذه القائمة بالطبع.

          استطاعت سلالة الميجي المستنيرة أن تحدّث اليابان في وقت قياسي, لم يتجاوز أربعة عقود من حكمها, الذي استمر من سنة 1868 إلى سنة 1912, حققت اليابان خلالها رفاهية مشهودة - وإن اتسمت بمظهر غربي - وهو ما أدى فيما بعد إلى ردة فعل معاكسة, فتعالت النداءات بالعودة إلى التقاليد اليابانية الأصيلة, وراحت موجة التمسك بالتقاليد تجابه موجة التهافت على المظاهر الغربية, وهو صراع لايزال حيًا في اليابان حتى اليوم, لكنه صراع هوية لم يقض على منجزين أساسيين حققتهما اليابان وهما: الديمقراطية, والتفوق العلمي والتقني, ذو المردود الاقتصادي الذي ينافس أقوى اقتصادات العالم.

          غني عن القول, إن اليابان نتيجة الصعود المتسارع والجبار لحركة التحديث, أفرزت - بين ما أفرزت - جيشًا قويًا أغراها بالتورط في حرب مدمرة ومكلفة, لكن هذه الحروب جعلت اليابان الجديدة تستقر على يقين إصلاحي جديد, بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية, فتنبذ مقولة التحديث من أجل العسكر, وتتبنى بشكل قاطع مقولة التحديث من أجل الرفاه, وهو ما يعكس نفسه فيما يمكن تسميته بدولة الرعاية وإبداع الإنسان الذي يتمتع بقدر وافر من الحرية. وهذه المرحلة الأخيرة يسميها البعض مرحلة النهضة اليابانية الثانية, لكنها دون شك قد قامت على إيجابيات النهضة الأولى وتجاوزت سلبياتها بإصرار اليابان على أن تظل - حتى الآن - دولة مسالمة ومعادية للحرب, بشكل يوشك أن يكون مطلقًا.

          لقد أراد الكاتب الإنجليزي أن يوحي بأن النهضة اليابانية كانت اختراعًا غربيًا, وقد تكون للغرب تأثيرات واضحة في تجربة الإصلاح والنهوض اليابانيين, لكن عندما يتفوق الاختراع على مخترعه, فهذا مؤشر على أن الاختراع اخترع نفسه في حقيقة الأمر, وإن استخدم معطيات البداية ممن يزعم أنه المخترع.

نظرة إلى الغرب

          لقد أجلت الحديث عن التجربة الغربية, وابتدأت بتجارب في الشرق, ليس مراعاة للعواطف العامة والمزاج السائد في هذه اللحظات الملتبسة من التاريخ العربي, ولكن للتأكيد على أن الإصلاح ضرورة اجترحتها شعوب مثلنا, بل واكبت انطلاقاتها محاولات مماثلة لدينا, أخفقت, مثل تجربة محمد علي في مصر. ولأن الغرب تجربة كبرى في تاريخ النهضة البشرية, فإننا لا يمكن, ولا يصح أن نتجاهل تجربته, ونحن نتلفت حولنا لنعرف من أين بدأ الآخرون إصلاحاتهم.

          إن التجربة الغربية, والتي تقف أوربا في قلبها - القديم والحديث على السواء - بدأت مسيرتها الإصلاحية منذ نهاية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة. وهناك من يقسم نهوض أوربا والغرب عمومًا - بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية - إلى مراحل ثلاث, وصولاً إلى المرحلة الحالية التي يصفها البعض بمرحلة الحداثة, ويصر البعض على أنها تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وأيا ما كانت فهي مرحلة تتسم بحريات ديمقراطية واسعة, ومرجعيات قانونية مستقرة محترمة, وضمانات معيشية لمواطنيها, حدها الأدنى يمثل حلما لدى قطاعات كبيرة من أبناء العالم الثالث, فالذي يعنينا من التجربة الغربية هو منجزاتها في الحرية السياسية, واحترام القانون والتفوق العلمي والصناعي, ومردود ذلك كله على الأوضاع الاجتماعية والإنسانية للبشر.

          تعود المرحلة الأولى في الإصلاح الغربي إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر بعد الخروج من ظلمات العصور الوسطى, إلى ما يسمى بعصر النهضة (Renaissance), والذي يعني حرفيًا عصر الإحياء والميلاد الجديد, وهو ميلاد جديد بالفعل بعد العصور السوداء, التي غرقت فيها الكنيسة في الفساد والاستبداد, وأغرقت حياة الناس بالقسوة والرعب والجمود. وضعت الكنيسة شئون البشر في صناديق لاهوتية مغلقة, ومظلمة, وأغلقت أبواب الاجتهاد والمعرفة والإبداع - واضطهدت كل مخالفيها, ومن تشتبه في مخالفتهم لها - بألوان من التنكيل أقلها الحرق.

          ولم تكن المخالفة تعني الاختلاف الديني فقط, بل مجرد التفكير في أي اكتشاف دنيوي جديد. ولم يكن ممكنًا الخروج من هذه الظلمات والمظالم إلا بتغيير شامل وانقلاب على كل ممارسات العصور الوسطى. وبدأت حركة النهضة الأوربية من إحياء التراث الفكري والفلسفي اليوناني - الروماني القديم, ومن هنا برزت العقلانية في تسيير حياة البشر على الأرض, ومن ثم تراجعت الخرافات والأساطير, التي تسلطت بها كنيسة العصور الوسطى على الناس. وتم وضع خطوط فاصلة بين ترهات الماضي, ونزعات الحاضر والمستقبل في مجالات السياسة والفكر الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي. وكانت إحدى السمات الأساسية لهذا العصر هي ظهور وتفجّر حركة الإصلاح الديني على يد كل من (مارتن لوثر) و(كالفن), والتي كان أبرز مافيها: رفض الوساطة بين الله والإنسان, ونقل مستوى المعرفة إلى التجربة الإنسانية والجهد العقلي, كل ذلك أدى إلى ظهور العصر الجديد المسمى بعصر الأنوار, الذي مثل خطوة نوعية وأساسية في صيرورة تكوين المرحلة الحالية في الغرب, ويعبر عن ذلك هيجل بقوله: (إن مبدأ العصور الحديثة هو عمومًا الحرية الذاتية), بمعنى أن العلاقة بالذات على المستويين المعرفي (عقلانية الوعي), والعلمي (ممارسة الحرية). ومن هذه الحرية انطلقت حرية العقل والنقد, حتى عرف هذا العصر بـ(قرن النقد), وهو نقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسسات والمفاهيم, وبإخضاع كل هذه الموضوعات لمحك العقل.

          بموازاة ذلك ترسخ الاعتقاد بأن للتاريخ هدفًا معينًا, وهو التقدم إلى الأمام باستمرار. كل ذلك أدى إلى عقلنة الطبيعة, وعقلنة التاريخ وعقلنة المجال السياسي, وبذلك حل العقل محل اللاهوت في تفسير ومحاكمة الأشياء والمفاهيم.

          وبالرغم من أن عصر التنوير وفلاسفته كان لهم فضل في إبداع واكتساب مكاسب مشرقة لا تحصى للإنسانية, فإنهم بالغوا في التطرف في تمجيد وتقديس العقل, وإطلاقه على اعتبار أنه لا ينتج أي شيء سوى التقدم والسعادة للإنسان! - على حد تعبير الكاتب علي كريم في بحث له على شبكة الإنترنت - (فبمرور الزمن, أصبح العقل نفسه مصدر أزمات ومشاكل للإنسان والمجتمع والطبيعة, فكان الاستعمار للشعوب التي كانت تقع خارج دائرة الغرب, ونهب ثرواتها, وعمليات الإبادة الجماعية, واستخدام العلم والمنتجات العلمية والتكنولوجية باتجاه تدميري, وبهدف إبادة الشعوب, وشن حربين عالميتين, دليل قاطع على ذلك, ودليل على نسبية العقل, وإدراكه وقدرته, ودليل على وهمية أهداف المتنوّرين في بعض المجالات, هذه الوقائع دفعت الفلاسفة والمفكرين الغربيين - فيما بعد - إلى محاكمة عقلية للعقل التنويري بوجهة نظر نقدية, وكان من أبرزهم فلاسفة ومفكرو مدرسة فرانكفورت, بجانب كل من (نيتشه) و(ميشيل فوكو)).

          أما المرحلة الثالثة في تجربة الإصلاح الغربي, فتتمثل في عصر الثورة الصناعية والثورة الفرنسية. وتكاد كتب التاريخ الأوربي تجمع على أن الحداثة تعود في نشأتها إلى أصلين اثنين في القرن الثامن عشر:

          الأول: اقتصادي, والثاني: سياسي. وهذان الأصلان, أو الحدثان, قد وضعا الغرب - بعد التحوّلات التي جاء بها عصر النهضة والإصلاح الديني - على طريق من التطور, مخالف نوعيًا لما ظلت عليه بقية مجتمعات العالم.

          الحدث الأول هو (الثورة الصناعية في بريطانيا), والثاني: هو (الثورة الفرنسية), وأثرها في (الثورة الأمريكية). فبعد الثورة الصناعية لا نبالغ إذا قلنا إن إنجازات هذه الثورة بكل المقاييس وفي كل أبعاد المجتمع, تتجاوز ما أنجزته القرون السابقة مجتمعة, وأصبح معها المستقبل والجديد مهمين بشكل جذري, ومن ثم أخضعت الماضي للحاضر والمستقبل.

          إن الثورة الصناعية, أنتجت مدنًا كثيفة بالسكان, وصناعة نموذجية, وثبتت مبدأ الفردية, وبنت العلاقات على أساس العمل والمنفعة بدلاً من الانتماءات التقليدية, والعمل في المؤسسات, وفق منطق القانون والمصلحة العامة, وخلقت جوًا ملائمًا لتفعيل دور الفرد في المجتمع السياسي (كمواطن), وأيضًا حركية اقتصادية وروحًا استهلاكية عالية.

          إن الثورة الصناعية مثلت ركيزة أولى, بنى عليها المجتمع الغربي حداثته, ثم جاءت الثورة الفرنسية لبناء ركيزتها الثانية, وكانت الثورة الفرنسية قد مثلت تغيرًا شاملاً, ورد فعل بوجه كل الظلم والاستبداد, فأنشأت الدولة القومية التي تقوم على مبدأ العقل والقانون, ومن أهم إنجازاتها إعلان حقوق الإنسان, وإقامة نظام دستوري ديمقراطي في شكله المعاصر, وتوزيع السلطات كما نراه في الديمقراطيات الحديثة.

وماذا بعد?

          لقد حاولت أن أجيب عن سؤال: من أين نبدأ الإصلاح العربي, فوجدتني أطرح سؤالاً تاليًا هو: من أين بدأ غيرنا? وفي استعراضي لتجارب أساسية في تاريخ الشعوب المعاصرة لم أحاول التعليق, بل كانت التعليقات تضمينات من بحوث متاحة, فلم يكن السعي يستهدف الإجابة القاطعة, بل اقتراح دروب مختلفة مما سلكته الشعوب في الشرق والغرب, نقبل بعضها ونرفض بعضها الآخر, تبعًا لما تحتّمه اختلافات الهوية والثقافة والتجربة التاريخية. فالإصلاح عملية نوعية, لكن بها الكثير مما نشترك فيه مع غيرنا من شعوب الأرض. أما العودة إلى السؤال الأول, فهي تتطلب حديثًا آخر.

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات