حالة التمزق ليست قدرًا

حالة التمزق ليست قدرًا

مازالت وحدة الصف العربي حلمًا يراود أبناء شعبنا من المحيط إلى الخليج منذ زمن طويل جدّا, ذلك لأن وحدة الأمة ضرورة تاريخية, ولأن (الكيانات الكبيرة الموحّدة هي وحدها القادرة على استيعاب التحديث والحضارة) مثلما ورد في مقدمة مقال د.محمد جابر الأنصاري (سيبقى هذا التعثر, إن لم ينجز هذا التحوّل) المنشور بـ (العربي) العدد (539) أكتوبر 2003 والذي يختتمه بالدعوة إلى الدفع باتجاه التحول التاريخي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث قبل أن نحرث في البحر بحثا عن تنمية تحتاج إلى أرض صلبة من التحديث. كلام جميل ولا شك, ظللنا نردده منذ زمن طويل, ودار لقمان لاتزال وستبقى على حالها, أي ستبقى صفوفنا ممزقة وقوانا مشتتة, ولو أخرجَنا الاستعمار نهائيا من دائرة اهتماماته, وتوقف عن التآمر علينا وتعطيل عملية التنمية في بلادنا, لأن جرثومة التخلف والتمزق قد عشّشت في مجتمعاتنا عبر قرون من المناهج التربوية المشوهة التي أفرزت مختلف أنساق الحكم التقليدية والراديكالية, ومختلف أنساق المعارضة على السواء, والتي أسماها د.الأنصاري بالهيمنة الأبوية. ولم يسلم من هذه الجرثومة التي جعلت مجتمعاتنا ذات قابلية كبيرة للتخلف والتمزق, حتى أصدقُهم وطنية وأكثرهُم راديكالية وأشدُّهم غيرة على إنقاذ السفينة من الانحدار إلى الأعمق, فما هي ملامح هذه القابلية للتخلف وتمزّق الصفوف التي ورثناها عن عهود الانحطاط, ومازالت آثارها مترسّبة في واقعنا تُذكّرنا في كل لحظة أنّنا أمة متخلفة تغطّي سوءاتها برداء للحداثة على غير مقاسها? إنهما ملمحان:

1 - لايزال فكرنا يحمل بصمات التخلف, فكر عصور الانحطاط, ومن أهمّ مواصفات هذا الفكر التي مازالت تعمل على شق الصفوف: المبالغة: وتعني عدم الدقة في إعطاء الأشياء حجمها الحقيقي, فيُنفخ في أحداث صغيرة تافهة حتى تُصبح هائلة, ويقلّل من شأن أشياء كبرى ويهوّن من أمرها, حتى لتكاد تختفي, وهو الأمر الذي سهّل دخولنا المعركة مع أكثر من عدوّ, وجعلنا نفترق ونرفع السّلاح في وجوه بعضنا البعض لأتفه الأسباب, وأبقانا عاجزين عن تحديد الأولويات في أعمالنا وتوجّهاتنا.

إن الذاتية المسرفة تعني أن نقيس الأشياء بمقدار قربها أو بُعدها عنّا, ونحكم على الأشياء من منظورنا الخاص, دون أن نستطيع الفصل بين ذاتنا والموضوع الذي نخوض فيه, وهو الأمر الذي حوّل القضية من مشكلة أفكار تخطئ وتصيب إلى مشكلة الاختلاف على أشخاص وظّفت لهم الأفكار وفصّلت عليهم الأحكام,وتحوّل النقد من الفكرة إلى صاحبها لتُكشف عوراته وتصنف خطاياه, وظهرت تبعا لذلك الحزبية الضيقة التي تجعل أفعال الزعيم وأقواله هي المقياس للصحيح والخطأ.

خشية الحوار

2 - مازالت الأحزاب السياسية في الوطن العربي بكل توجهاتها تعاني قصورًا فادحًا في المنهجية التي تربّي عليها أتباعها ومنخرطيها, ويتمثل هذا القصور في سيادة نمط من التفكير مشبع بمثالية عصر الانحطاط, لا يصل بالواقع إلاّ من خلال نصوص تجمّد فهمها في ضوء مقولات ومفاهيم تبلورت في عصور تختلف إلى حدّ كبير عن عصرنا, وفي ظروف مباينة تمامًا لظروفنا, حتى غدا المواطن العربي بهذه العقلية المثالية مصابًا بما يشبه العطالة في فهم واقعه واستيعاب تطوراته والقوى المحركة لذلك الواقع والطاقات المختزنة فيه.

فغياب النقد الذاتي من أكبر الأخطاء التي أصابت العاملين في القطاع الحزبي السياسي, رفضُهم المناصحة, أو ما يسمّى بالنقد الذاتي, خوفا من تمزق الصفوف واضطراب العمل وكشف أخطائهم للغير, وهو تخوّف في غير محلّه, ذلك أن الصف الذي يخشى من الحوار ويخاف من المناصحة صفّ لا يوثق به, ولا يستحقّ البقاء, ولا يستأهل حمل راية الوطنية, لأن فاقد الشيء لا يعطيه, بل إنّ الاعتراف بالخطأ وتصويبه وتقويمه هو سلامة في البناء وصلابة في القاعدة, وإنّ التستّر عليه والسكوت عنه بحجّة التشويش في الوسط وعدم الخلخلة في الصف مجرّد أوهام, فالتناصح والاعتراف وسيلتان لاستقامة البناء المتين, والتستر لون من الخداع والمخادعة والورم الكاذب, ومع غياب النقد الذاتي تكرّس الخطأ واتسعت رقعته حتى استحال معه الرجوع إلى الوراء عندما أريد إصلاحه, وانقلب العمل التحرري/ التنموي إلى لون من الكهانة, وضرب من التحزّب المتعصّب, ساهم في الإبقاء على الأخطاء وحماية الانحراف, ومع غياب النقد الذاتي داخل المجتمع الواحد تذوب شخصية الفرد, ويتحوّل إلى ببغاء يردّد رأي الزعيم, دون أن يساهم في بلورته أو مناقشته, ويسود المجموعة جوّ من الاستبداد الفكري الذي يكرّس الفردية ويقدّس الزعامة وينشر الخوف والصمت واللامبالاة, ويغيب كل إبداع, وتموت كل المبادرات, وتتحوّل هذه الطاقات المكبوتة إلى سوس ينخر الصف ويبدّد قواه.

إننا نعاني غياب أدب الحوار بين العاملين في الحقل السياسي العربي بمختلف اتجاهاته, فنحن إذا تعرّضنا لمحاورة رأي مخالف, كانت أوصاف الخيانة والانحراف والعمالة هي عملة التعامل, ويتحوّل البحث عمّا في رأي المخالف من حقائق, إلى الكشف عن عورات صاحب الرأي لتعريتها وفضحها والتشهير بها, فتتجهّم النفوس وتحلّ الهواجس والظنون والكراهية والبغضاء, محلّ المحبة والثقة والاطمئنان والتعاون, ويتعطل الحوار الذي يعتبر العنصر الأساس في حلّ كبرى المشكلات وتقريب وجهات النظر المختلفة, وتجهض بالتالي كل المشاريع الوحدوية قبل أن ترى النور.

لقد آن الأوان, إذا كنّا صادقين في إرادتنا لبناء وحدة تجمع الشتات وترصّ الصفوف لنضمن لأنفسنا مكانا في عالم لا يعترف بالكيانات الصغيرة والضعيفة, أن نهيئ الأرضية السليمة لهذا البناء حتى لا ينهار أمام أول هبّة ريح آتية من شرق أو من غرب.

وأول الشروط لتهيئة هذه الأرضية, أن تعيد الحركات والأحزاب السياسية في الوطن العربي بجميع فصائلها وتوجهاتها النظر في برامج ومناهج تكوين أتباعها الحالية, التي تزرع في قلوب العاملين جرثومة الحزبية البغيضة فتطرد عاطفة المحبة, وفكرة التعاون والعمل العقلاني, وتفسح المجال واسعًا للدوائر المتربصة لتزيد الخرق اتساعًا.. وأن تضع حدًا لهذه الحرب الدائرة بين أبناء الوطن الواحد والعقيدة الواحدة والثقافة الواحدة, وتطوي صفحة تحمل كثيرًا من البقع السوداء في سجلّ العلاقات العربية, سادت فترة غير يسيرة, لتفتح صفحة مشرقة من الأخوّة, وتوفّر مناخًا من التعايش الحضاري, يمكّن من الارتقاء بالمشروع الوحدوي التنموي إلى مستوى التحديات باستيعاب مشكلات الواقع وتقديم الحجة القاطعة أنّنا أمّة قادرة على الحياة. أي - بلغة أخرى - أن نبادر بمعالجة القابلية للتخلف والتمزق التي تعشش في كيان مجتمعنا.

محمد الصالح عزيز
تونس