برنارد لويس.. هل كانت دوافعه موضوعية?

برنارد لويس.. هل كانت دوافعه موضوعية?
        

          تحدثنا في عدد ماض عن أهم أفكار برنارد لويس. والسؤال الآن: أكان لويس مؤمنًا حقًا بكل ما قدمه? وهل كان الدافع لما قدمه هو التعاطف والتضامن مع الأمريكيين في محنتهم, أوالشعور بالزهو والاستمتاع بأنه يسهم في تشكيل سياسة أكبر دولة في العالم?

          قد يكون كل هذا أو بعضه صحيحًا, لكن الأعمال التي نشرها لويس في ذلك الوقت, والآراء والنصائح التي تضمنتها, لم تكن علمية ولا موضوعية. وأنا أربأ بذكاء لويس وتاريخه وحنكته أن يكون قد خدع ببعض أقوال أحمد الجلبي, أو (بعض الأصدقاء العرب) الذين لفتوا نظره إلى المشاكل الأخرى الكثيرة في الشرق الأوسط, بجانب قضية فلسطين. ولا أتفق مع (مايلز) على أن عدم تمكن لويس من الإقامة, أو العمل في العالم العربي قد يكون مسئولاً عن (تحليله المشوه) لمشاكل الشرق الأوسط السياسية بوجه خاص بسبب (نقص خبرته الميدانية العربية).

          (إن التحليل المشوه) الذي قدمه لويس في كتبه ومقالاته واجتماعاته, كان في الواقع بمنزلة عملية (استشهاد) علمي - ولا أقول (انتحارًا) - لخدمة هدف كبير. وما من شك في أن مكانة لويس العلمية التي كانت محترمة لدى كل الدارسين العرب والمسلمين الذين تخصصوا في أي حقل من حقول الدراسات العربية (الأدب, واللغة والتاريخ والفنون والحضارة الإسلامية بعامة), في جامعات بريطانيا - على الأقل - قد اهتزت أمامهم - بعنف - تلك المكانة  العلمية المهيبة التي كانت للويس في نفوسهم (وبينهم كاتب هذه السطور). والشيء نفسه حدث للكثير, إن لم أقل لمعظم المهتمين بالدراسات العربية في أوربا, وإلى حد كبير في أمريكا.

          وما أظن أن لويس كان غافلاً عن نتائج ما كتبه. وإنما هو وازن بين ذلك وبين الإسهام في تحقيق أمل غال ولهفة مستميتة لدى الإسرائيليين لتحطيم العراق, وتحجيم دور إيران وسورية, أو تحطيمهما أيضًا لو أمكن, من جهة, وأسوأ من ذلك, في إشعال نار الرغبة في الانتقام والبغضاء ضد العرب والمسلمين من أمريكا ومن شايعها من الغربيين من جهة أخرى. ورأى لويس أن تحقيق هذا كله يستحق من أجله التضحية بمكانته العلمية عند من سيدركون ذلك, قلوا أم كثروا. في مقال له في مجلة (النيويوركر) يتساءل بوروما عن سبب تخلي لويس عن تحفظاته السابقة عن أسلوب تدخل الغرب في المنطقة ثم يجيب: (البعض يرى أن السبب هو الصهيونية: يقال إنه عضو في اللوبي الإسرائيلي, وأن هدفه هو ضمان أمن إسرائيل). وفي رأيي أن هذا هو التفسير الوحيد المقنع والمعقول.

          ومن سوء حظ لويس أيضًا أن الحرب التي دعا إليها في العراق قد لقيت صعوبات جمة, ولا يعرف أحد متى أو كيف ستنتهي. يعلق مايلز على ما ذكرته الـ(وول ستريت جورنال) من أن سياسة أمريكا قامت في الواقع على أيديولوجية لويس فيقول: (وإنها لمأساة أن عالمًا مثيرًا للإعجاب مثل لويس قد لا يتذكره الناس إلا بفضل سياسة سيحكم عليها التاريخ غالبًا بسوء التصور, ومجافاة القانون, والفشل باهظ الثمن). ويعلق دالريمبل على الحكم نفسه فيقول: (وإذا كانت هذه السياسة قد اتضح للعيان الآن أنها معيبة بعمق, ومبنية على مجموعة من الافتراضات الخاطئة, فإن لويس بالتالي, رغم كفاءته العلمية, يفهم دقائق الأمور في العالم الإسلامي المعاصر على نحو معيب ومحفوف بالمخاطر).

          وتعليق دالريمبل هذا ورد في مقاله في الـ (نيويورك ريفيو أوف بوكس), وفيه يناقش دالريمبل خمسة كتب عن حقيقة المسلمين بينها كتاب لويس الذي ناقشناه. وآراء دالريمبل في كتاب لويس وتعليقاته عليه لا تختلف كثيرًا عن آراء وتعليقات مايلز, لكنه يسلط الضوء على الملمح المعيب في منهج لويس العلمي, منهج نصف الحقيقة, الذي أسماه مايلز (فقدان التوازن القائم أساسًا على الحذف). ويضرب مايلز مثلاً بمقال (الدين والقتل في الشرق الأوسط), الذي يركز فيه لويس على الاغتيالات والإرهاب في العالمين العربي والإسلامي, (مع أن هذا الفصل كان بحثًا ألقي في مركز إسحق رابين. ورابين نفسه قتله إسرائيلي. كما أنه لم يقل شيئًا عن الإسهام المهم لعصابتي أرجون وسترن في تاريخ الإرهاب).

          والجديد الذي يفعله دالريمبل في مقاله هو أنه يركز على (صراع الحضارات) عند لويس, الذي يختزل العلاقة الإسلامية - المسيحية إلى صراع بلغ حتى الآن نحو أربعة عشر قرنًا: (بدأ من ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي واستمر تقريبًا حتى اليوم, وتألف من سلسلة طويلة من الهجوم والهجوم المضاد, والجهاد والحروب الصليبية, الفتح وإعادة الفتح).

الصليب والهلال: المسيحية والإسلام

          يضع دالريمبل نظرة لويس, غير الموضوعية, للعلاقة الإسلامية - المسيحية التي سبق أن أوضحناها, بجانب نظرة ريتشارد فلتشر الموضوعية والمتوازنة في كتابه: (الصليب والهلال: المسيحية والإسلام من عهد محمد إلى عصر الإصلاح الديني) (2003).

          وعن هذا الكتاب تقول كارن أرمسترونج إنه (تاريخ موجز ومتميز للعلاقات المسيحية - الإسلامية في العصر الإسلامي المبكر). والكتاب في رأيها (يتخلص بهدوء وفاعلية من الخرافة الذائعة بأن الإسلام عقيدة تحوي في طبيعتها العنف والتعصب, وفي الوقت نفسه يوضح أن المسيحيين لا يمكن أن يتوقع منهم أن يروا الإسلام إلا في هذه الصورة. وهو يثبت بوضوح أن الحكام المسلمين الأوائل - على عكس ما يُظن بهم - لم يفرضوا عقيدتهم على رعاياهم بحد السيف, بل إنهم لم يشجعوا على اعتناق الإسلام. ويبدو أن (مناقشات متحضرة) كانت تدور بين المسيحيين والمسلمين في الشرق الأوسط, لأنه بعد قرون من الاضطهاد البيزنطي, ازدهرت الطوائف الكنسية المختلفة (تحت الحكم الإسلامي) على نحو لم يحدث من قبل).

          ومن جهة أخرى, يذكر فلتشر أن مناطق مختلفة من العالم المسيحي شهدت صراعًا أو توترًا, القسطنطينية مثلاً كانت تهاجم كثيرًا أيام الأمويين, وقد تحسن الموقف بعد نقل الخلافة من دمشق إلى بغداد. والفتح الإسلامي لشمال إفريقيا أدى إلى اضطراب الأمور, واضطر رجال الدين المسيحيون - على ما يبدو - إلى الهجرة لإيطاليا أو فرنسا. وكذلك حدث بعض التوتر بعد فتح الأندلس, قبل أن يتعايش اليهود والمسيحيون والمسلمون سويًا, فضلاً عن فترات طويلة من الحروب السافرة بين الطرفين, مردها إلى أن كلا الطرفين لم يكن مهتمًا إطلاقًا بمعرفة الديانة الحقيقية للطرف الآخر.

          وبتعبير فلتشر: (عاش المسيحي والمسلم جنبًا إلى جنب, في حالة كراهية دينية متبادلة. وفي ظروف كهذه إذا أثيرت المشاعر الدينية, فإن المواجهات عادة ما تكون عنيفة)... إلى أمور أقل أهمية من ذلك.

          وعلى الصعيد الإيجابي يوضح فلتشر جوانب كثيرة في العلاقات المسيحية - الإسلامية: يقتبس من القرآن مثلاً الآية الكريمة: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}. ومحمد لم يقل إنه يؤسس ديانة جديدة. وهو والمسلمون آمنوا بالأنبياء السابقين, ومنهم إبراهيم وموسى وعيسى.

          والإسلام يقبل الكثير مما جاء في التوراة والإنجيل. ويقرر القرآن أن النصارى هم أقرب الناس {مودة للذين آمنوا}). والشاميون والمصريون استقبلوا جيوش المسلمين بالترحاب لعلمهم أنها ستحررهم من اضطهاد الكنيسة البيزنطية, وازدهرت بالفعل كنائسهم كما سبقت الإشارة. والقديس يوحنا الدمشقي - وهو من آباء الكنيسة ومعلميها الأوائل - تربى في البلاط الأموي وكان والده وزيرًا للمالية في وقته - وهو يعتبر الإسلام فرقة من الفرق المسيحية أقرب إلى النساطرة.

          أما العلاقات التجارية فقد كانت مزدهرة, حتى إبان الحروب الصليبية,وبخاصة في فينيسيا (البندقية) وغيرها من المدن الإيطالية. وأما الترجمة والثقافة والعلوم, فيعد الحديث عنها - في رأي النقاد - من أمتع فصول الكتاب. ويتجلى فيها بوضوح فضل العرب على الحضارة الغربية كاملاً غير منقوص. كما تتجلى فيها سماحة الإسلام والمسلمين مقارنة بغيرهم (حبذا لو ترجم هذا الكتاب إلى العربية):

          يذكر فلتشر أنه في عام 949 قدّم وفد بيزنطي أعمال الطبيب اليوناني دايو سكريديس إلى بلاط قرطبة. لكن الأندلسيين في ذلك الوقت لم يكن بينهم من يعرف الإغريقية, فلما علم البيزنطيون ذلك, أرسلوا راهبًا يونانيًا عام 951, وانضم إليه عالم مسلم من صقلية يعرف الإغريقية. وقام الرجلان بشرح النص لمجموعة من العلماء الإسبانيين, كان من بينهم علماء مسلمون أندلسيون من مثل ابن جلجل, الذي كتب فيما بعد شرحًا لدايو سكريديس, والطبيب اليهودي المتميز ابن شبروت, والأسقف المستعرب Recemond of Elvira, مؤلف ما يعرف بتقويم قرطبة. ثم يعلق فليتشر: (وكان حقًا تجمعًا دوليًا متعدد الطوائف من العلماء).

          ثم يقارن فلتشر بين هذا الوضع, وما حدث للمسلمين بعد استعادة المسيحيين للأندلس, فقد تم طردهم من كل إسبانيا ,وتُرك من آثر البقاء منهم وتنصر, لمحاكم التفتيش تفعل بهم الأفاعيل. والشيء نفسه حدث في صقلية بعد فترة من التعايش المتسامح تحت حكم النورمان ثم أُمِر المسلمون أن يتنصروا أو يرحلوا. وإذا كانت المعايير الحديثة لا ترضى كثيرًا عن معاملة الذميين كمواطنين من الدرجة الثانية, فقد كان هناك على الأقل - كما يقول فلتشر - (نوع من التعايش معًا, وهو ما لم يوجد له نظير في البلاد المسيحية).

          وفي الكتاب الكثير والكثير من الجوانب المشرقة في حضارة العرب والمسلمين, مع ذكر الجوانب السلبية أيضًا, ومن حسن الحظ أنها قليل كمًا وكيفًا بالمقارنة بما فعلته الحضارة الغربية, أو بما تمارسه هذه الأيام. لكن المجال لا يتسع للمزيد.

سقطة كبيرة

          ولويس - بالقطع - كان يعلم كل الجوانب الإيجابية التي يضمها كتاب فلتشر, وربما أكثر.

          ولا أدل على ذلك من التصرف الذي لو أقدم عليه باحث صغير في جامعة إقليمية نائية لما تُقبل منه.

          فقد قام لويس - كما يخبرنا بوروما - بحذف فقرة (وأي فقرة?!) من مقال قديم سبق نشره, قبل أن يعيد طبعه في الكتاب. والفقرة المحذوفة هي قول لويس: (الإسلام دين من أعظم الديانات. ولأكن صريحًا حول ما أعنيه بذلك أنا المؤرخ - غيرالمسلم - للإسلام. لقد جلب الإسلام الراحة والطمأنينة لملايين لا تحصى من الرجال والنساء. ومنح المعنى والكرامة لمن يحيون حياة الكآبة والحرمان. وعلم المختلفين أجناسًا أن يعيشوا في أخوة, والمختلفين عقيدة أن يعيشوا جنبًا إلى جنب, بقدر معقول من التسامح. واستحيا حضارة عظمى عاش فيها الآخرون بجانب المسلمين معيشة خلاقة ومفيدة, ومنجزاتها جعلت العالم كله أكثر ثراء).

          أبعد هذا الكلام الصادق, والبليغ أي شك في أن منهج لويس العلمي قد أصبح يقوم على نصف الحقيقة? أوليس أمرًا مؤسفًا, وغير أمين أن يحذف لويس هذه الفقرة من مقال سبق نشره, (وقرئ على نطاق واسع) كما يحدثنا بوروما, حين وجد لويس أن نشرها في الكتاب سيفسد عليه هدفه من استثارة أمريكا لمعاداة العرب والمسلمين, خدمة لإسرائيل?!

كتب نبيل مطر

          أما الكتب الثلاثة الأخرى في مقال دالريمبل, فهي للدكتور نبيل مطر, أستاذ ورئيس قسم اللغة الإنجليزية في معهد فلوريدا للتكنولوجيا: وهي (في بلاد المسيحيين: أدب الرحالة العرب في القرن السابع عشر, تقديم وترجمة), (2003) و(الأتراك والمغاربة والإنجليز في عصر الاكتشاف), (1999). (ترجمه إلى العربية د.محمد عصفور), (والإسلام في بريطانيا 1558 - 1685) (1998), ترجمه بكر عباس, القاهرة (2001).

          ويرى دالريمبل أن هذه الكتب الثلاثة تدحض مزاعم لويس بأن المسلمين (في القرنين السادس عشر والسابع عشر) لم يكن لديهم أدنى رغبة في معرفة التطورات التي كانت تحدث في أوربا, وأنه لم يكن هناك مسلمون يتطوعون بالسفر إلى أوربا إلا في القليل القليل, وأنه حتى الأسرى الذين أُخذوا عنوة إلى أوربا, نتيجة الحروب غير المتناهية, لم يكن لديهم ما يقولونه بعد عودتهم, وربما لم يكن هناك من يستمع لهم. (إن كل أدب الرحلات الإسلامي إلى أوربا لا يتجاوز بعض الملاحظات والشذرات).

          ويعلق دالريمبل على عبارة لويس الأخيرة, بأن هذه المزاعم كان يمكن أن تقبل (عندما كان الوعي بما تحويه المكتبات الإسلامية مفتقدًا. لكن ما اكتشف في العقود الثلاثة الأخيرة أثبت أن الفجوة الظاهرية كانت نتيجة لعدم القيام بالبحث الوثائقي من جانب لويس وغيره, ولم تكن من جانب الكتاب المسلمين).

          أما نظرة لويس غير الموضوعية للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين الغربيين, القائمة على الحروب وصراع الحضارات, فتنقضها كتب نبيل مطر الثلاثة, كما يرى دالريمبل, الذي يمتدحها, ويخبرنا بأن نبيل مطر قضى العقود الثلاثة الأخيرة باحثًا ومنقبًا في الوثائق والمكتبات عبر العالم الإسلامي.

          فكل من كتابي مطر: الإسلام في بريطانيا, والأتراك والمغاربة والإنجليز في عصر الاكتشاف يثبت كيف اختلط المسلمون والمسيحييون الغربيون, بل وامتزجوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

          أما كتابه عن أدب الرحالة المسلمين إلى أوربا فهو ضربة مباشرة إلى زعم لويس بأن (الاهتمام الحقيقي للمسلمين بأوربا لم يبدأ بحق إلا في القرن التاسع عشر). فالكتاب يقدم سلسلة متتابعة من كتابات الرحالة العرب الذين سافروا إلى أوربا في القرن السابع عشر. (كاتب بعد كاتب يصف اهتمامه المركز وانفعاله بالعلم الغربي وبالأدب وبالموسيقى وبالسياسة وحتى بالأوبرا).

          يقول مطر في مقدمة الكتاب: (تكشف الكتابات التي يضمها هذا الكتاب عن أن العابرين والوفود والسفراء والتجار ورجال الدين العرب كانوا مولعين بتوجيه الأسئلة حول بلاد النصارى, وبتسجيل الإجابات ثم تحويل انطباعاتهم إلى وثائق. وكل منهم يكتب بدقة وبفكر ثاقب ويقدم (بشكل غير مباشر) معلومات تفصيلية, قائمة على التجربة, حول الطريقة التي ينظر بها غير الأوربيين إلى الأوربيين, في بدايات العصر الحديث (أي في القرن السابع عشر). ولم يترك أي شعب غير مسيحي - سواء في ذلك الهنود الحمر, وأفارقة جنوب الصحراء, والآسيويون - وراءه وصفًا شاملاً لأوربا, أو للأمريكتين, مثلما فعل الكتّاب العرب).

          وباختصار فإن كتب مطر - كما يلاحظ دالريمبل - مليئة بالمفاجآت لكل من يعتقد أن العلاقات الإسلامية - المسيحية كانت دائما علاقات مواجهة وحروب, فملك المغرب مثلاً يطلب من الملكة إليزابيث الأولى أن تشترك جيوشه مع جيوش بريطانيا في طرد الإسبان من أمريكا, على أن تنقل السفن البريطانية قوات الجيشين. وكانت إسبانيا في ذلك الوقت عدوًا مشتركًا لكلا الطرفين, وكان البابا يعتبر الملكة إليزابيث حليفة للعثمانيين. ويعلق دالريمبل على ذلك بأن تحفظات الإنجليز على الإسلام لم يكن لها قيمة, مقارنة بكراهيتهم للكنيسة الكاثوليكية.

          وبجانب معاهدات التجارة والصداقة قام الإنجليز والمغاربة بغزوات مشتركة على مدينة قادش الإسبانية. وكانت هناك تحركات شعبية كبيرة بين البلدين. وشهدت لندن تكوين جالية مسلمة مؤلفة من أسرى سابقين وتجار أثرياء, من الأتراك, وحرفيين من المغرب وغير حرفيين. وفي المقابل كان هناك الكثير من الإنجليز الذين شغلوا وظائف عثمانية مهمة, وأقامت أعداد كبيرة منهم في المغرب. ويحكي نبيل مطر حكايات شائقة عنهم.

          ويعقب دالريمبل على ذلك بقوله: (إن هناك نقطة خطيرة وراء مثل هذه الحكايات, لأنها تثبت أن المسلمين والمسيحيين في كل عصور التاريخ تبادلوا التجارة, وتعلموا وتفاوضوا وأحبوا, مخترقين حدود الفوارق الدينية, القابلة (بطبيعتها) للاختراق. تأمل علاقات الحضارتين في أي حقبة تاريخية, وستجد أن الكتل الحضارية, التي تخيلها كتاب من أمثال برنارد لويس أو صمويل هنتنجتون, سرعان ما تفتتت).

          أطلت قليلا فيما اقتبسته من كتاب لويس, وذلك لكي نفهم المنطق الذي يحكم (أو يبرر) سياسة بوش الجديدة, وأطلت إلى حد أقل, فيما اقتبسته من ردود الكتّاب الغربيين الموضوعيين على مزاعم لويس, وبخاصة حول تصوره الزائف - عن عمد - للعلاقات الإسلامية - المسيحية أو ما أسماه هو: (صراع الحضارات). وقد جاءت هذه الردود بصور عملية في شكل أربعة كتب نشر أولها ريتشارد فلتشر, أستاذ تاريخ أوربا في أوائل العصر الوسيط ورئيس قسم التاريخ بجامعة يورك حتى عهد قريب. ونشر الثلاثة الباقية الكاتب الفلسطيني المسيحي ورئيس قسم اللغة الإنجليزية (لاحظ أوجه الشبه بينه وبين أستاذه إدوارد سعيد) بمعهد فلوريدا للتكنولوجيا. وهناك كتاب خامس عنوانه: (الإسلام: تاريخ موجز) لكارن آرمسترونج, لم نناقشه لأننا تقيدنا بالكتب التي وردت في مقال دالريمبل. وقد اقتبسنا كذلك من بعض المقالات التي ناقشت كتاب لويس - وعلى الأخص من مقالي المستعرب مايلز, سفير بريطانيا السابق في ليبيا, ودالريمبل المهتم بوضع المسيحيين المعاصرين في الشرق الأوسط, بالإضافة إلى بوروما وآرمسترونج.

توصيات

          وكل هؤلاء فازت كتبهم بجوائز متنوعة باستثناء (نبيل مطر) لسبب غير واضح, وأوليفر مايلز لأنه دبلوماسي أساسًا. لكن صفة بارزة تنسحب عليهم جميعًا هي أنهم يمتلكون ضمائر حية, ويناقضون فكرة لويس المشئومة, عن صراع الحضارات, وفي الوقت ذاته يقدمون لنا حججًا دامغة لدحض مزاعم لويس حول هذه الفكرة, وحول مبرراته الفكرية لسياسة بوش والمحافظين الجدد.

          والسؤال الآن: هل نستطيع أن نعبر عن تقديرنا لهؤلاء الكتاب (ولأمثالهم) بأسلوب متحضر, يتوقف عند حد التقدير ولا يهبط إلى مستوى الرشوة? والجواب: نعم.

          وأعتقد أن أول ما يجب عمله هو ترجمة هذه الكتب, التي أنصفت الحضارة الإسلامية, إلى اللغة العربية, فهذا من شأنه أن يقدم للقراء العرب رؤية موضوعية وعلمية لحضارتهم, أعمق مما يقدم لهم عادة من كلام أجوف مليء بالمخالفات والتعميمات, وننشر بذلك شيئًا من الوعي بحقيقة هذه الحضارة, وبأهمية دراسة التراث, الذي يوشك أن يندثر تمامًا في ظل أوضاع التعليم السائدة. وأنا هنا أهيب بمشاريع الترجمة العربية أن تسارع إلى ترجمة كتابي فلتشر وآرمسترونج وأمثالهما, ونشر أعمال نبيل مطر على نطاق واسع, وسريع. فهذه الكتب مع أهميتها البالغة, علمًا وتعليمًا لباحثينا الشباب, فهي, من ناحية أخرى تشعر مؤلفي هذه الكتب وأمثالها بأننا نقرأ أعمالهم ونقدرها. وللسبب الأخير نفسه, أوصي بأن تشتري مكتباتنا المختلفة في كل البلاد العربية وبخاصة في الجامعات, وأقسام التاريخ والعلوم السياسية والمعاهد الدبلوماسية نسخًا من هذه الكتب وأمثالها في لغاتها الأصلية. حتى يشعر الناشرون أيضًا بأن أمثال هذه الكتب لها جمهور عريض قارئ, ويقبلوا على نشر أمثالها.

          وبالمناسبة فقد استضاف قسم الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية أوليفر مايلز - لمدة أسبوعين - لإلقاء بعض المحاضرات العامة بالإنجليزية والعربية في شهر مارس الماضي, واستجاب الرجل شاكرًا. ويا ليتنا كنا دعونا هؤلاء الكتّاب وأمثالهم إلى عقد ندوات مختلفة عن الحضارة العربية في معرض فرانكفورت. ولو فعلنا ذلك لحققنا المزيد من النجاح. وشيء آخر يمكن للجامعة العربية برعاية الأمين العام المثقف, عمرو موسى, القيام به. وهو تقديم عدد معقول من المنح الدراسية كل عام (تسهم في تمويلها كل الدول العربية القادرة), لطلاب الدراسات العليا في جامعات أوربا وأمريكا سواء كانوا عربًا أم أجانب, لدراسة موضوعات من مثل: العلاقات الدبلوماسية بين العالمين الغربي والإسلامي في العصور الوسطى, وتاريخ العلم عند العرب, وتاريخ الفكر الإسلامي, وإسهام العرب في حفظ موروث الحضارات السابقة وتطويره ونقله إلى أوربا, فضلاً عن بعض الدراسات المقارنة ومنها مثلاً: الجهاد في الإسلام وفي المسيحية.. إلى غير ذلك.

          وبعد فلا أستطيع أن أنهي هذا المقال دون الترحم على المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد الذي أحدثت دعوته تحولاً كبيرًا في دراسات الحضارة الإسلامية في الخارج. وليهنأ إدوارد سعيد بذلك, وبأنه قد فارقنا وهو عالم محترم, مأسوفًا عليه في كل أرجاء العالم المثقف والمنصف على عكس غيره.

 

حمدي السكوت   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات