الغرب الإسلامي وحوار الثقافات

 الغرب الإسلامي وحوار الثقافات
        

          الحوار بين الثقافات أو الحضارات أو الديانات المختلفة يدخل في إطار وجوب أن يخاطب الإنسان أخاه الإنسان, من أجل التعارف والتعاون, واحترام الإنسان لرأي الغير, ومعتقدات الغير, وعادات وتقاليد الغير, إلى غير ذلك. كما أن الحوار البنّاء يساهم في التقدم, وغيابه نتائجه مأساوية.

          الاختلاف بين الناس والشعوب حكمة إلهية, ونعمة من نعمه على البشر, من أجل أن تكون هذه الدنيا أجمل وأعمق تفكيرًا وإحساسًا, فشكر الإنسان لخالقه, هو أن يقيم هذا الإنسان حوارًا مع مَن يختلف معه.

          لقد كان الحوار دائمًا المبدأ الأساسي في معاملة المسلم لغيره في الغرب الإسلامي, إنه حوار يقوم على المجادلة بالتي هي أحسن, وعلى الإقناع بالمنطق السليم الذي لا يستسيغ الربط بين الثقافة أو الحضارة والصدام, لأن الصدام يجب ألا يكون مبادرة المسلم, فهو يؤدي إلى الدماء والدمار, بينما الثقافة والحضارة معناهما تهذيب الأخلاق, وتقويم السلوك, والسلام والعمران, ونورد في هذه السطور عينات من حوار الثقافات في الغرب الإسلامي.

  • سفارة الشاعر يحيى الغزال إلى شمال أوربا ودوره في حوار الثقافات:

          كان يحيى بن الحكم الملقب بالغزال (ت 250هـ/864م) لجماله, فقد كان جميلاً في شبابه, وسيمًا في كهولته, وعمَّر طويلاً حتى أدرك خمسة من الأمراء الأمويين بالأندلس, هم: عبدالرحمن الداخل (138-172هـ), وابنه هشام (172-180), والحكم الرّبضي (180-206هـ), وعبدالرحمن بن الحكم (206-238هـ), ومحمد بن عبدالرحمن (238-273هـ), وقد ذكر الغزال ذلك في أرجوزته التاريخية, حيث قال:

أدْركْتُ بالمِصْر مُلوكًا أرْبعَهْ وخَامِسًا هذا الّذي نَحْنُ مَعَهُ


          والمعلومات التي بين أيدينا عن صباه وفتوّته قليلة جدًا, وما وصلنا منها تصفه بأنه كان شابًا ذكيًا, ملازمًا لحلقات المؤدبين والعلماء في قرطبة, وذكر ابن دحية أنه عمّر حتى قارب المائة, وقيل أربى عليها, وكان شاعرًا محسنًا ومحدثًا بارعًا, وعارفًا بمداراة الناس واستئلافهم, له خاطر حاد, وبديهة سريعة, وتمرّس بأساليب الدخول والخروج من كل باب من أبواب الكلام.

          وبسبب هذه الصفات التي كان يتحلى بها أرسله الأمير عبدالرحمن الأوسط (206-238هـ), رابع الأمراء الأمويين في الأندلس في سفارتين على الأقل, إحداهما إلى القسطنطينية, ويبدو أن سفارته إلى القسطنطينية كانت في أيام ملك الروم ثيوفيلوس (829-842م).

          أمّا سفارة يحيى الغزال التي تحدث عنها كثيرًا, والتي فصّل المؤرخون أخبارها, فهي سفارته إلى شمالي أوربا: إلى بلاد الدانمارك أو جزيرة إيرلندا إحدى الجزر البريطانية.

          ويرى المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال (ت1956م) أن سفارة الغزال كانت إلى بلاد البيزنطيين في القسطنطينية وليس له سفارة إلى شمال أوربا, غيرأن يحيى الغزال نفسه يذكر هذه السفارة إلى الدانمارك أو إلى جزيرة إيرلندا.

          وقد علّق د.شوقي ضيف - رحمه الله - على هذه المسألة, قائلا: (والحقيقة أنه أرسل إلى النورمان الشماليين من بلاد الدانمارك). ويؤيد هذا ابن دحية ضمنيًا في التفصيلات التي أوردها عن الرحلة, ولم يشك بصحة قصة هذه السفارة المستشرق الهولندي دوزي, وكذلك د.إحسان عباس, حيث يرى (أن ثمة سفارتين للغزال, إحداهما لدى ملك الروم في القسطنطينية, والأخرى لدى ملك النورمان), وقد اعتمد هذا الرأي أيضًا د.محمد رضوان الداية, وأكّد ذلك الأستاذ محمد عبدالله عنان, حيث أشار إلى أنّ الغزال أوفد في سفارتين مختلفتين, إحداهما إلى القسطنطينية والأخرى إلى الدانمارك. 

  • حوار ووئام بين العناصر والأديان:

          لقد كان المجتمع الأندلسي - بعد الفتح - مؤلفًا من عناصر بشرية شتى, وهم: العرب, والبربر, والنصارى, واليهود, والصقالبة, والمستعربون, والمستعجمون, والغجر...وغيرهم, وسنحاول فيما يأتي, اختصار دور بعض هذه العناصر, في الحوار والوئام, وفي نقل الثقافة والحضارة الأندلسية إلى الغرب المسيحي.

          أ- النّصارى:

          كان النصارى إبان الفتح الإسلامي يؤلفون أغلب سكان إسبانيا, وكانوا على جانب من الانتظام أكثر مما كانوا عليه في بقعة إسلامية أخرى, وقد جرى بينهم وبين الفاتحين من الاختلاط والتأثير المتبادل الطويل ما لم يجر مثله في أي صقع إسلامي آخر. وقد أظهر الإسلام تجاههم كثيرًا من التسامح على خلاف ما عاملوا به العرب الفاتحين عندما زال سلطان الإسلام من تلك البلاد.

          وتكثر الأدلة على التسامح العظيم الذي أبداه المسلمون نحو نصارى الأندلس, فقد تركوا لهم حرية العقيدة والتعبّد منذ الفتح الإسلامي, وظل العهد الذي أخذه عبدالعزيز بن موسى بن نصير على نفسه قبلهم من حرية العبادة والحفاظ على معابدهم قائمًا طوال عصور المسلمين في الأندلس, فقد كانوا يرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين, ويقفون عند شروطهم معهم, وما إلى ذلك من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية في أوربا أخيرًا.

          ومن مظاهر هذا التسامح والوئام بين العناصر والأديان في الغرب الإسلامي, وهو يدعو للإعجاب: المثال الذي يقدّمه أولاغي المؤرخ الإسباني من قرطبة, حيث يقول: (فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة).

          ويستشهد بما كتبه القديس (إيلوج), وكان مسيحيًا متعصّبًا عايش تلك الفترة, فهو يقول: (نعيش بينهم دون أن نتعرض إلى أيّ مضايقات, فيما يتعلق بمعتقدنا).

          لقد بهرت الثقافة الإسلامية جماعة المسيحيين الذين عاشوا في كنف المسلمين, فقلدوهم في كثير من مظاهر ثقافتهم, فاتخذوا أزياءهم ولغتهم, ونمط حياتهم في كثير من الأحيان,  على الرغم من  احتفاظهم بدينهم, وقد برز من شعراء النصرانية بالعربية في الأندلس (ابن المرعزّى الإشبيلي), شاعر المعتمد بن عبّاد.

          ب - اليهود:

          وكذلك فقد كان العنصر اليهودي كبيرًا في الأندلس, وقد استقبل اليهود الفاتحين المسلمين كمحرّرين, لأن القوط كانوا يسومون اليهود أنواع العذاب, فكان (ملوكهم يعاملونهم بالسوء نفسه, الذي يعاملهم به أهل سائر البلدان النصرانية في أوربا, بل إن العامة كانت تعاملهم بمنتهى القسوة, وكان القائمون على الكنيسة وحكام الدولة ينهبون ويتلقون أموالهم بلا حياء ولا رحمة). ولهذا فقد كان إحساس اليهود صادقًا عندما توقّعوا خيرًا على أيدي المسلمين الفاتحين, فقدّموا لهم المساعدة, وقد كان تأثير الثقافة العربية الإسلامية في اليهود واضحًا وجليًا, وقد لعبوا دورًا مهمًا في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, حيث تمتّع كثير منهم بالجاه والمناصب السامية, وقد تولّى ثلاثة من اليهود الوزارة في الأندلس على الأقل, (ولعل أولهم الوزير الشاعر الكاتب حسداي بن يوسف بن حسداي, وكان وزيرًا للمستعين أحد الملوك الأمويين الذين عاشوا زمن الفتنة, وقد تولّى المستعين إمرة الخلافة مرتين خلال سنتي 400و407هـ, ولقّب حسداي نفسه بأبي الفضل بعد أن صار وزيرًا, وله شعر جميل يذهب في بعضه إلى الصورة الزاهية, ويعمد في البعض الآخر إلى الصنعة البديعية الغالية. والوزير اليهودي الثاني الذي تولى الوزارة في الأندلس هو ابن نغرالة - وذكره المقري تحت اسم نغدلة, والاسم الأول هو الأصوب - تولى ابن نغرالة الوزارة في غرناطة لباديس بن حبوس الذي ولي أمرها سنة (429هـ) بعد أبيه, وجعل من ابن نغرالة هذا وزيرًا له, ولكن ابن نغرالة لم ينس أنه يهودي, ولم يكن أمينًا للمنصب الذي وكّل إليه, أو أهلاً للثقة التي وضعت فيه, فأخذ يقرّب قومه ويكيد للمسلمين ويوقع بهم, ولم يعزل باديس الوزير اليهودي (حتى) تولى الناس بأنفسهم إزاحته من طريقهم بثورة اهتزّت لها جنبات غرناطة سنة (459هـ). ومن (الشعراء) الوزراء اليهود أيضًا إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الذي كان شعره مثالاً للرقة, وموشحاته نموذجًا لأناقة هذا الفن وطرافته).

          ومن اليهود الشعراء الذين هيّأ لهم التسامح وحوار الثقافات والأديان في المجتمع الأندلسي الظهور والنجاح إلياس بن مدور الطبيب الذي عاش في صدر القرن الخامس الهجري في منطقة إشبيلية.

          ومنهم أيضًا إسحاق بن شمعون القرطبي الذي برع في الموسيقى, وظل ملازمًا ابن باجة الفيلسوف لفترة طويلة, وكان حسن العزف, رقيق الشعر.

          وكان منهم أيضًا يهوذا بن ليفي الطليطلي, المتوفى سنة 547هـ, الذي يذكره العرب باسم أبي الحسين, وقد اشتهر بنظم أشعاره في قوالب وموضوعات عربية.

          ومن الشعراء اليهود أيضًا الذين لمع نجمهم في عالم الأدب من شعر ونثر موسى بن عزرا المتوفى سنة 532هـ, وهو شاعر يهودي من أهل غرناطة, له ديوان شعر, وله كتاب آخر اسمه (المحاورة والمذاكرة), ضاع أصله العربي, ولم تبق لنا إلا ترجمته العبرية, وهو رسالة في فن الكتابة, وتاريخ شعراء اليهود من أهل الأندلس وآثارهم, كما له أيضًا كتاب قيم للغاية هو (الحديقة في معنى المجاز والحقيقة).

          بالإضافة إلى هؤلاء الشعراء اليهود الذين نبغوا بالعربية في المجتمع الأندلسي المتسامح, فإننا نجد من بينهم بعض الشاعرات مثل قسمونة بنت إسماعيل اليهودي, التي ذكرها المقري بين مجموعة من شعراء اليهود, ثم قال عنها: (وكان أبوها شاعرًا, واعتنى بتأديبها, وربّما صنع من الموشحة قسمًا فأتمّتها هي بقسم آخر).

          أنشد أبوها ذات يوم, هذا البيت من الشعر:

لي صاحبٌ ذُو بهْجَةٍ قَدْ قابَلَتْ نُعْمَى بِظُلْمٍ واستحلّت جُرْمَهَا


          ثم قال لها: أجيزي, ففكّرت الشاعرة غير كثير, وقالت:

كالشّمْسِ مِنْهَا الْبَدْرُ يَقبِسُ نُورَهُ أبَدًا وَيَكْسِفُ بَعْدَ ذَلِكَ جُرْمَهَا


          فلما سمع أبوها إجازتها قام كالمختبل, وضمّها إلى صدره, وقبّل رأسها, ثم قال: (أنت والعشر كلمات أشعر منّي), يشير بذلك إلى الوصايا العشر التي يؤمن اليهود بها, ويقسمون بها, وقد يكون المقصود كلمات البيت التي قالتها, لأنّها عشر.

          ج- الصقالبة:

          وهناك طبقة اجتماعية أخرى, ظهرت في المجتمع الأندلسي الإسلامي, لعبت دورًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا مهمًا, ولاسيما في قرطبة (وهم أولئك الموالي المتحدرون من أصل أجنبي, الذين كان يسمّيهم العرب الصقالبة. وهذه التسمية التي كانت تدل على الشعوب التي كانت تقطن الأراضي الممتدة بين الأستانة وبلاد المجر, بدأت تأخذ معنى خاصًا في إسبانيا. ويظهر أنها كانت تشمل في الأندلس الأسرى الذين كانت تأسرهم الجيوش الجرمانية ثم تأتي بهم, فتبيعهم إلى مسلمي إسبانيا, ولكن في عصر ابن حوقل (الذي زار الأندلس في القرن الرابع الهجري) كان يقصد بهذه التسمية (الصقالبة) جميع العبيد الأجانب الأوربيين الذين دخلوا في عداد جنود الخليفة, أو أنّهم قُبلوا للقيام بخدمات في البلاط...).

          وقد أخذ عددهم في الازدياد بسرعة حتى بلغوا حين وفاة عبدالرحمن الناصر سنة (350هـ) 3750 من الفتيان وستة آلاف وسبعمائة وخمسين من النساء.

          وقد اعتنق كثير من هؤلاء الصقالبة الإسلام, واستطاع فريق منهم أن يتحرر من العبودية, ويشغل مكانًا لائقًا في الحياة الاجتماعية, ومنهم مَن استطاع أن يكوّن ثروات طائلةً, ويمتلك العبيد, والأراضي الشاسعة, وترى الكثير منهم قد وصل إلى مناصب الرئاسة في الدولة.

          وقد تهذبت طباعهم بالاحتكاك بالحضارة الأندلسية, فنبغ من بينهم بعض الأدباء والشعراء والمؤلفين من أمثال حبيب الصقلي من صقالبة هشام المؤيد, وقد وُصفَ بالأدب, كما أنه قد ألف كتابًا يعدّد فيه مناقب الصقالبة سماه (كتاب الاستظهار والمغالبة على مَن أنكر فضائل الصقالبة), وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم.

          د- المستعربون:

          يُعد المستعربون من أهم العناصر التي عملت على نقل حضارة الأندلس وثقافتها إلى أوربا, وساهمت مساهمة فعّالة في حوار الثقافات بين الغرب الإسلامي والغرب المسيحي, وهم النصارى واليهود الذين كانوا يمارسون في الأندلس أشغالاً علمية وعملية مختلفة, ربّما أهّلت بعضهم إلى أن يصبحوا من ذوي النفوذ, وكانوا يتنقلون بين الأقاليم الإسلامية والمسيحية, وقد هاجر عدد كبير منهم إلى الإمارات المسيحية في فترات تقوية الوجود الإسلامي في الأندلس, وبخاصة أيام حكم المرابطين والموحدين, ونقلوا معهم الثقافة العربية الإسلامية إلى تلك الإمارات.

          هـ ـ المستعجمون:

          لم يكن دور المستعجمين أقل مما نهض به المستعربون, وكانوا في مرحلة أولى يمثلون الإسبان الذين يعرفون العربية ويكتبونها بالإسبانية, ثم يمثلون الموريسكيين, وهم من العرب الذين بقوا في إسبانيا يتكلمون الإسبانية, ويكتبونها بالعربية إلى أن تمّ إخراجهم من الأندلس سنة 1614م.

          وكان هؤلاء المستعجمون ذوي ثقافة أهّلتهم إلى أن يؤلفوا في مختلف العلوم, ويقولوا الشعر في موضوعات دينية, متخذين له قالب مقطوعات قائمًا على نظام (الرومانشس) المتأثر بنظام الموشحات والأزجال, وكان من أبرز شعرائهم محمد الطرطوشي, وإبراهيم البلغاوي, ومحمد ربضان.

          و- الغجر:

          حاول الغجر أخذ مكان المستعجمين في الوظائف والمهن التي كانوا يقومون بها, ومنها الموسيقى والغناء والرقص. كذلك حاول بعض الإسبان والبرتغاليين الذين كانوا يتنقلون في المناطق المختلفة ترديد الألحان والأناشيد على طريقة المورسكيين.

          ولولا حوار الثقافات والأديان - الذي كان محترمًا في المجتمع الأندلسي, الذي لم يعرف التعصب الديني من جانب المسلمين طوال حكمهم في الغرب الإسلامي - لما استطاع هؤلاء الذميون أن يعيشوا الأمن والاستقرار, ويتمتعوا بحرية العقيدة والتعبّد منذ الفتح الإسلامي لإيبيريا. 

  • ابن رشد فيلسوف قرطبة ودوره في حوار الثقافات:

          ليس في تاريخ الفكرالإنساني مفكر ترك على التفكير الغربي (الأوربي) أثرًا, مثل أثر ابن رشد, ولا أستثني أرسطو, فإن فلسفة أرسطو نفسها لم تكن تفهم في مطلع العصور الحديثة إلا من خلال شروح ابن رشد عليها. وحسبك أن تعرف أن الفكر الأوربي قد خضع لأثر فلسفة ابن رشد أربعة قرون كاملة متوالية: كان الفكر الأوربي قرنين كاملين يذهب مذهب ابن رشد, ثم جاء قرنان كاملان أيضًا نصبت الكنيسة الكاثوليكية في أثنائهما لابن رشد عداء شديدًا, ومع ذلك, فإننا نتبين في الفكر الأوربي إلى اليوم ملامح من فلسفة ابن رشد, وإن كان هؤلاء المفكرون لا يقولون إنهم أخذوا من ابن رشد.

          كان ابن رشد يرى أن الفلسفة شيء, وأن الدين شيء آخر, ولو كان الدين هو الفلسفة, لما كان لهما اسمان, ولكان لهما اسم واحد, غير أن ابن رشد قال: إن المرء محتاج إلى الدين (وهو السلوك العملي في الحياة الدنيا ليعيش الفرد والمجتمع سعيدين نافعين), ثم هو محتاج أيضًا إلى الفلسفة (وهي التفكير النظري في المدارك العامة). وبينما نجد الدين - كما يقول ابن رشد أيضًا - فرضا على جميع الناس, نجد الفلسفة خاصة بطبقة من الناس, بلغ أفرادها من الاستعداد العقلي مبلغًا يمكنهم من البحث النظري من غير أن يضر بحياتهم العملية. هذا الأخذ الكامل بما يوحيه الدين إلى جانب الأخذ المتفاوت من الفلسفة (بالمقدار الذي يحتاج إليه كل فرد بحسب استعداده العقلي), قد سمّاه ابن رشد (الجمع بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين)), ثم جاء نفر من الغربيين ومن العرب أيضًا فسمّوا هذا (الجمع) توفيقًا, تسمية خاطئة.

          ولقد كان للمغرب - ولحكم الموحدين في المغرب - أثر في هذه الحركة الفكرية التي عمّت العالم, أكبر من الأثر الذي كان للأندلس نفسها. ومع أن ابن باجة وابن طفيل وابن رشد أندلسيون من حيث المولد, فإنهم كانوا (مغاربة) من حيث الجو الذي نشأت فيه آراؤهم, ثم تطورت, ثم تركت آثارها الواضحة على الفكر الأوربي خاصة. ويحسن أن نشير إلى أن فلسفة هؤلاء لم تترك على الفكر العربي إلا أثرًا ضئيلاً جدًا. 

  • ابن طفيل ودوره في حوار الثقافات بين الغرب الإسلامي والمسيحي:

          كان ابن طفيل من جبابرة الفكر في العصور الوسطى (في الشرق وفي الغرب, وفي الإسلام وفي النصرانية). وقد ترك الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا منه - وهو قصة حي بن يقظان - أثرًا بالغًا في الفكر الإسلامي, وفي الفكر المسيحي, إنه القصة الفلسفية الأولى (أعني الفلسفة التي عولجت في قصة عن طريق الرمز, لأن التصريح بعدد من الحقائق الفلسفية - في رأي ابن طفيل, وفي رأي ابن خلدون وفي رأينا أيضًا - يتلف الوازع الاجتماعي, ويبطل عمل الإصلاح, حيث تكون الحاجة إلى الإصلاح) - لقد نقلت (قصة حي بن يقظان) على أنها قصة بارعة إلى عدد من اللغات, ثم قلّدها نفر من مشاهير رجال العلم والأدب. وتحسن الإشارة, في ذلك هنا إلى كتاب (إميل) للكاتب الفرنسي جان جاك روسو, وإلى قصة (روبنسن كروزو) للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو. هذه القصة قد حملت كثيرين من اليهود والنصارى على أن يلجأوا في الدين إلى ما سمّوه (التوفيق): أرادوا أن يحتالوا للقول إن الفلسفة لا تخالف ما جاء في التوراة أو في الأناجيل. و(التوفيق) بهذا المعنى ليس معروفًا في الإسلام, ولقد أشار ابن رشد إلى الجمع بين الحكمة والشريعة على ما رأينا في النص السابق.

 

سعد بوفلاقة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات