لا أدري

لا أدري
        

في عالمنا العربي, ما بين مثقفين وساسة, وخاصة وعامة, لا يمكن أن يصل بنا التواضع لأن يجهر الواحد منا أمام السائل قائلاً: لا أدري.

          من أعظم فضائل الغربيين, وبخاصة الأمريكان, والتي لم نقتبسها, فضيلة التواضع والإقرار بالجهل, وعدم الخوض فيما لا نفقه, أو لسنا على ثقة من معلوماتنا فيه.

          (لا أعرف) هذه, تسمعها مرارًا من العديد, وربما كل الناس والطلبة والأساتذة, بل وأهل الاختصاص في الولايات المتحدة. وترى أن آخر مَن ينبغي أن يقولها لك, يعترف بها في الفصل بكل تواضع. وفي أحيان أخرى يقول مستدركًا: دعني أراجع المصادر, أما نحن, أهل ثقافة الحفظ والارتجال وإفحام المجادل بأي ثمن, فلا نتردد في أن نواصل الخوض في الحديث والاعتماد على مبدأ (قيل هذا وقيل غيره), و(مَن أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران), وغير ذلك من مبادئ في الحوار نستخدمها في الحق والباطل دون مراجعة.

          لا يقول المثقف أو أستاذ الجامعة عندنا (لا أعرف), لأن صورة رجل العلم والثقافة في تراثنا ووعينا الجماعي, صورة قارئ متبحّر بَقَر بطون الكتب, وأتى على علوم الأولين والآخرين, وصار يعرف كل شيء, وبخاصة في مجال شهرته. صورة مفكر عبقري يكاد أحيانًا يصرخ في الناس (سلوني قبل أن تفقدوني). فكيف يقر مثل هذا (المثقف الكبير) أو (الأستاذ الدكتور) بأنه (لا يعرف), أو أنه بحاجة كالآخرين, إلى مراجعة الكتب والدفاتر?

          بل نحن كجمهور نؤمن بوجود (المفكر الكبير) في حياتنا الثقافية, ممن يملك جوابًا لكل سؤال, وحلاً لكل مشكلة, نفس إيماننا بوجود (المستبدّ العادل) في حياتنا السياسية, الذي يحاول أن يفرض العدل على الجميع, وينتهي بفرض الاستبداد على المجتمع! ألا يقول المثل الشعبي: (ظلم بالسّويّة, عدل بالرعية), فإذا عمّ الظلمُ الجميع...ساد العدل!!

          ولا نتصور عادة (ثقافة الاختصاص), أو مقدار تراكم المعلومات في كل شهر وعام, وانهيار النظريات, وتقادم الكتب الجامعية والشهادات. ولا نصدق كذلك أن تخلّف الأستاذ الجامعي يبدأ يوم تخرّجه, وجهل المثقف لحظة إغلاقه أو إنهائه الكتاب الذي بين يديه.

          كان بعض فلاسفة اليونان يقول باستحالة السباحة في النهر نفسه مرتين, لأن مياهه دائمة الجريان.

          وهذا ما يحدث اليوم للمعارف البشرية, ومع هذا فلاتزال معارك بعض أساتذة الجامعات لدينا مع طه حسين والعقاد, والعامية والفصحى, ولا وجود لشيء لم يعتادوا على القراءة عنه, مهما تراكمت الكتب والبحوث حول العقاد وطه حسين, أو عُقدت من ندوات.

          تجنُّبُ كلمة (لا أدري) وصلت كذلك إلى الفقه والفتوى, وبخاصة في برامج التلفاز, على الهواء, فتتوالى الأسئلة من القاهرة والرياض, وهولندا وألمانيا, واسطنبول وكراتشي, ولكل سؤال جواب, ولكل قضية مستعصية فتوى! متى سمعت أخيرًا أحد رجال الدين يقول على الشاشة (لا أدري), أو (أمهلوني لأراجع كتب الفقه) مثلاً?

          المشاركون من الكتّاب والساسة والفنانين في البرامج الحوارية, لا يقلون عن الفقهاء ثقة بالنفس والعلم, وترى الواحد منا يجيب في المجال الذي كتب أوعمل فيه, فإذا شعر المحاور بملل المشاهد, سأل ضيفه عن العولمة والقضية الفلسطينية ومشاكل الوحدة العربية و(حقائق) الوضع الدولي ومشاكل المرأة العربية والكثير الكثير خلاف ذلك. وهنا أيضًا نجيب عن كل سؤال إجابة الباحث الخبير, الذي لا تكاد تفوته آخر الدوريات!

          شاهدت حوارًا مفتوحًا عبر الأقمار الصناعية بين مجموعة من الطلبة والطالبات الخليجيين والأمريكان, وفي حين حصر الأمريكان أنفسهم في حدود ما يعرفون ويدرسون ويدركون, انطلق طلبة وطالبات الخليج كالببغاوات في ترديد الاتهامات التي يسمعونها في أجهزة الإعلام وأشرطة الإسلاميين ومانشيتات الصحف حول أهداف السياسة الأمريكية والنفط والمؤامرة الدولية واحتلال المنطقة. بالطبع, لم يطالع هؤلاء الطلبة والطالبات على الأرجح أي كتاب في هذه المواضيع خارج إطار الكتاب المقرر, وبرامج التلفزيون الإخبارية!

          ولو سأل طالب أمريكي طالبًا خليجيًا: كيف عرفت المعلومة الفلانية, أو سأله هل طالعت التقرير الفلاني, أو هل تعرف بعض العوامل التي تتحكم بأسعار النفط وارتفاع وانخفاض الدولار, لما سمع منه كلمة (لا أدري) البسيطة, التي يستخدمها الأمريكي والغربي بكل تلقائية!

          ثم إن الأوربي والأمريكي يحاول قدر المستطاع أن يحصر جوابه بمساحة محدودة وقضية معينة ومسألة واحدة. أما نحن, فلا يهنأ لنا بال إذا لم نعمم ونتناول الصغائر والكبائر, ونجيب عن كل ما جرى في التاريخ من سيدنا آدم, إلى كارثة تسونامي!

          كنت أطالع كتاب (قضايا الفكر) للكاتب المصري (وديع فلسطين), الصادر عام 1959. فرأيته يقارن بين كاتب الأمس وكاتب اليوم, ويقول: (الكاتب الحديث عجلان لا يصبر ولا يتأنى. لا يكاد يلم به خاطر حتى يسطرهُ على الورق...والقارئ بدوره عجلان, يتخطّف ما تدفعه الطابعة فيقرأه قراءة عجلى, ثم يطرحه في بحر من النسيان, فنحن اليوم في عصر السرعة وعصر الإنتاج الدافق الكاسح وعصر الجماهير).

          هذا كلام الرجل عام 1959, قبل نحو نصف قرن.

          ثم يضيف: (الكاتب الحديث على وجه عام يتسم بتوتر الأعصاب وسرعة الانفعال, فلا يتسع وقته لإنعام الفكر أو لتقليب الرأي, الكاتب الحديث يغلب عليه طابع الادّعاء العريض, ادّعاء المعرفة بكل شيء, فكل كاتب حجة ثبت لا يرقى شك إلى ما يصدر عنه. ومفروض في القارئ أن يصدق كل ما يقرأ, بلا سؤال أو استفهام. حتى لقد ذهب الباحثون إلى حد الاستغناء عن إيراد المراجع استغناءً تامًا. وهذا كبيرهم عباس محمود العقاد لا يذكر مرجعًا واحدًا في ما يصنّفه من كتب. والكاتب اليوم قليل القراءة, ولكنه كثير الإنتاج. وكان من نتيجة ذلك أن فشت السطحية بين الكتاب). (ص75-81).

          نحن كذلك معجبون بأنفسنا أيّما إعجاب. ولعلنا من الشعوب والثقافات القليلة التي تخصص في الشعر بابًا للفخر والتفاخر. وهات يا مبالغات!

          يقول الأبشيهي في كتاب المستطرف: (كان كعب بن زهير - صاحب قصيدة بانت سعاد - إذا أنشد شعرًا قال لنفسه أحسنتَ وجاوزتَ واللهِ الإحسان. فيقال له: أتحلف على شِعرك? فيقول: نعم, لأني أبْصَرُ به منكم. وكان الكميت إذا قال قصيدة, صنع لها خطبة في الثناء عليها, ويقول عند إنشادها: أيّ علم بين جنبي, وأيّ لسان بين فكَّيّ)!!

          اكتشفت, عجبًا, أن أهل الاختصاص لا يعرفون بالضرورة تخصصاتهم. فكم من حملة شهادة دكتوراه في الكهرباء لا يحسنون تركيب (رأس البلاك), وكم من أستاذ في الإلكترونيات لا يحسن التصرّف إذا بدأ الميكرفون في الندوة - وما أكثر ما يحصل هذا - بإصدار أغرب الأصوات وأزعجها, وكم من محام تسأله على التلفون حول قضية ما أو قانون من القوانين فيعطيك رأيًا جازمًا في المسألة, مثل فقيه التلفاز, لتكتشف بعد ذلك في جوابه الخطأ والنقصان. ولهذا يقول الأمريكان: المحامي هو الشخص الوحيد الذي لا يُعاقب على جهله بالقانون!

          الحكومات في بلداننا تنافس الرعية في مجال الادّعاء! فما من مسئول يعترف بجهله, ولا وزير يقرّ بأن دراسته وتخصصه في واد, ووظيفته السياسية, الرفيعة, الحكومية...في واد. ولا أحد منا يدري, حقيقةً, ما الذي يجري في وزارات ومؤسسات وهيئات العالم العربي بسبب هذا التعيين السياسي للوزراء, توزيعًا للمغانم أو تجنّبًا لشرور الأحزاب والجماعات, أو مجرد شراءٍ للولاء!

          إنني لا أستثني من الداء نفسي...أو حتى القارئ. فمن يدرك أنه معلول لا يشفى بالضرورة.

          فهل سنبرأ بعد قراءة هذا المقال?

          لا أدري!

 

خليل علي حيدر