بزوغ علم المستقبل

بزوغ علم المستقبل
        

          هل يمكن دراسة المستقبل على مستوى تجربة الإنسان في الحياة اليومية, مثلما ندرسه على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي? إن نظرة الإنسان للمستقبل مرتبطة أشد الارتباط بنظرته للزمن, ولهذا فإن دراسة المستقبل هي في حقيقة الأمر تحليل لثقافة الزمان في المجتمعات الإنسانية.

          تعتبر دراسة المستقبل أحد الموضوعات الجديدة في الفكر الفلسفي المعاصر, بجانب الموضوعات الأخرى التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين, وذلك تلبية لحاجة الإنسان إلى تعميق بحثه حول قضايا ترتبط بوجوده وسط متغيرات سياسية واجتماعية وعلمية عديدة, وقد غيرت التطورات التي مرت بها المجتمعات الإنسانية من نظرة الإنسان إلى ذاته, وإلى وضعه في الكون, وإلى طبيعة علاقته بالآخر, مما دفع الفكر الفلسفي إلى استحداث موضوعات جديدة, كما نجد هذا واضحا في الدراسات الأخلاقية التي تفرعت إلى فروع جديدة مثل الأخلاق الطبية, وأخلاق الهندسة الوراثية, أخلاقيات علوم الحياة, وأخلاقيات عالم المال والأعمال, وهذه الفروع الجديدة من علم الأخلاق  ظهرت حين تم تجاوز النظرة الشمولية التي تهمل التفاصيل المختلفة, وكل ميدان من ميادين الأخلاق السابقة أصبح يطرح أسئلة مختلفة عن الإنسان والموت والحياة ومعنى القيمة, وهذه الأسئلة مرتبطة بالأوضاع المختلفة التي يعيشها الإنسان, ولم تعد الكتابات والنظريات الأخلاقية القديمة كافية للإجابة عن الأسئلة التي تطرحها وضعية الإنسان المعاصر.

          ومن الموضوعات الجديدة التي ظهرت أيضا موضوع (الفلسفة المقارنة) التي تقارن الفكر الإنساني بين الحضارات المختلفة, وأيضا (علم الأفكار) الذي يدرس تنامي الأفكار الإنسانية عن الكون والإنسان خلال الحضارات المختلفة منذ الفكر الشرقي القديم الذي يقدم لنا بدايات التفلسف في الحضارات الشرقية القديمة حتى الآن.

          وينطبق هذا الأمر على مجال التفكير الفلسفي في المستقبل, وهذا الموضوع ليس جديدا في الفكر الفلسفي, فنجد في الحضارات الشرقية وفي الفكر اليوناني نظرات عن المستقبل, لكن الموضوع - المستقبل - اتسعت جوانبه وتفرعت قضاياه لدرجة أصبح لزاما على الدراسات الفلسفية أن تجعل له مبحثا جديدا يتجاوز النظرة الكلية العابرة إلى البحث الدقيق في تفاصيل تصور الإنسان عن المستقبل, لهذا فقد ظهرت مجموعة من الدراسات في الفكر المعاصر تهتم بدراسة المستقبل من مختلف الجوانب, فقد اهتم الفكر الفلسفي بتقديم تصورات عن المستقبل إما في صورة يوتوبيا Utopia: ومعناها الحرفي الحلم بمدينة غير موجودة في مكان ما تتحقق فيها العدالة بكل أشكالها, ويختفي فيها الظلم والفقر ويسود فيها الحق والخير والجمال, وأشهر الصور اليوتوبية نجدها في محاورة (الجمهورية) لأفلاطون, ويوتوبيا توماس مور  (1478 - 1535) حيث قدم صورة لمجتمع مثالي, وهناك يوتوبيا أخرى وضعها الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561 - 1626) وسماها (أطلنطس الجديدة) وبين فيها أن المجتمع المثالي يقوم على المعرفة والعلم, كأداة للسيطرة على الطبيعة وتحسين أحوال البشر, أو في صورة نظريات في فلسفة التاريخ, تهتم بدراسة تاريخ الإنسانية, وتتنبأ بما قد يؤول إليه التاريخ البشري.

نظرتان للمستقبل

          والجديد في الدراسات المستقبلية المعاصرة أنها تتجاوز النظرة المطلقة لمستقبل البشرية بعيدا عن التفاؤل والتشاؤم, وتبحث في ممكنات المستقبل في ميادين بعينها مثل السياسة, والاقتصاد, والبيئة, وعلوم الفيزياء, وموقع الفن في الحياة المعاصرة ونظرية المعرفة, والعلوم السلوكية وعلوم الأعصاب, فتبحث هذه الدراسات في صورة الحاضر والاحتمالات التي يتطور باتجاهها. وقد أكدت هذه الدراسات أن الإنسان أصبح جزءاً من عالم شديد التعقيد والتركيب, وبالتالي فإنه أصبح يُنْظَر للإنسان بوصفه تعبيراً عن علاقات ليست بسيطة, وبوصفه نتيجة لما يحيط به من شروط اجتماعية, وما يستخدمه من أدوات ينتج حياته من خلالها, وهناك نظرتان للمستقبل, النظرة الأولى ترى المستقبل نتيجة لما يحدث في الماضي والحاضر, وبالتالي ترى في دراسة الماضي ضرورة لإدراك المستقبل, والنظرة الثانية ترى أن التغيرات التي حدثت في العالم تجعل من المستقبل مختلفا عن الماضي والحاضر, لأنه حدثت ثورة في مجال العلم والتكنولوجيا والاتصالات والسوق الاقتصادية.

          ولا يعني البحث في المستقبل تجاهل الحاضر, أو تجاهل (هنا, الآن, نحن/الأنا), وإنما نريد أن نبحث في قضايا الحاضر من خلال منظور مستقبلي, ذلك لأن أي معالجة للقضايا الراهنة والمشكلات التي نعيشها في عالم اليوم لها آثارها المترتبة عليها في المستقبل, وبالتالي فهي دعوة لاتساع نظرة الرؤية للحاضر, ونفكر من خلال ثقافة الزمن بأبعاده الثلاثة,والفلسفة تهتم بالمستقبل من خلال ثلاث زوايا هي: تحديد موضوع المستقبل, ودراسة المناهج المستخدمة في دراسة المستقبل, وإبراز الجانب القيمي في دراسة المستقبل وبالتالي فإن دراسة المستقبل. لا تعني تبني صيغة واحدة للمستقبل التي تقدمها أجهزة الإعلام, والانبهار بها, والتي تغفل الإنسان بما هو طاقة إبداعية. فمن الملاحظ أن هناك نموذجا يتم الترويج له كلما ارتبط الأمر بالمستقبل وهذا النموذج يسعى إلى سيادة ثقافة واحدة تتميز بالنفوذ والسيطرة, ولا تسعى إلى إبراز التعدد الثقافي في اكتشاف صور المستقبل.

          والدراسة الفلسفية تسعى إلى إبراز البعد النقدي في دراسة المستقبل ومقاومة التصورات الشائعة التي تجعل الإنسان عاجزا عن المشاركة في صنع المستقبل, ومقاومة عزل الإنسان الذي تمارسه الأجهزة السياسية والتكنولوجية على الفرد وتحاصره بالبرامج المتعددة التي تقلل فرص التواصل الإنساني ليحل محله التواصل عبر الأدوات التكنولوجية وتحول دون الاتصال بأشكاله الإنسانية الحية, مما يؤدي إلى تشيؤ الإنسان واستلابه وهذا يؤدي إلى سهولة السيطرة عليه وتدجينه وتحريكه دون وعي منه.

مفهوم الزمان في كل ثقافة

          يمكن أن أتساءل هنا: هل هناك (فلسفات للمستقبل) أم توجد (فلسفة واحدة للمستقبل)? إن هناك أكثر من فلسفة وأكثر من رؤية للمستقبل, وليس هناك فلسفة واحدة يمكن أن تدعي امتلاك حقيقة المستقبل البشري ومحاولة دراسة المستقبل في الثقافات والحضارات المختلفة, ذلك لأن مفهوم الزمان في داخل كل ثقافة هو الذي يحدد نظرتها للمستقبل, ولذلك, فإن البحث في المستقبل هو نتيجة مترتبة على مفهوم الزمان داخل كل ثقافة بشرية.

          ودراسة المستقبل بوصفه تحليلا لثقافة الزمان في المجتمعات الإنسانية, لأن تصور الزمان لا يحكم الأفراد في أفعالهم وحسب ولكن يؤثر هذا التصور أيضا في دينامية المجتمعات البشرية  وتغيرها, وقد برز الاهتمام بالزمان نتيجة للتغير السريع, الذي يطلق عليه (التغير الاختلاجي) لكي يتم ربط التغير بالسرعة التي يدرك بها الإنسان معدلات هذا التغير ويربط بينه وبين التغير بمفهومه الحيوي والعضوي في جسم الإنسان, وقد لاحظت من خلال القراءة الأدبية والفلسفية, أن السرعة التي نتصور بها الأشياء تتغير عبر الحضارات, ولذلك فإن (الفيمتوثانية) - وهي جزء من الثانية التي تحدث عنها العالم أحمد زويل - قد بينت اكتشاف سرعة ما تتيحها أدوات جديدة, وهي الكاميرا التي تسجل هذه التغيرات في الخلية - وهي تعبير عن السرعة الجديدة التي يتصور بها العلم البشري تغير الأشياء, وهذا مرتبط بتطور الزمان في الحضارات البشرية, وعلاقة تصور الزمان بالقيم. ولذلك فليست هناك حضارة ما لم تهتم بالمستقبل, بل لكل حضارة مفاهيمها حول المستقبل, لأن هناك ارتباطا بين المستقبل والزمان, لأن الحاضر ليس له وجود دائما, إنما هو معبر مؤقت نحو المستقبل, ومن هنا فإن دراسة الزمان تكشف لنا عن رؤية المجتمعات للماضي والحاضر, فالماضي مرحلة يتم تصورها ذهنيا قد تمت منذ ثوان قليلة, والحاضر هو ثوان في الماضي وثوان في المستقبل, ولذلك فإن نظرة المجتمعات للماضي وعناصر استمرار الماضي انهما اللذان يحددان نظرتها إلى المستقبل.

          وفي الثقافة الإسلامية فإن مفهوم المستقبل للوقائع التي نعيشها ينتمي لعالم الشهادة, ولا ينتمي لعالم الغيب, لأن الغيب لا يعلمه إلا الله, وهو اليوم الآخر الذي ينتمي لعالم العقيدة, لكن عالم الشهادة الذي يمارس الإنسان تأثيره فيه هو ما يطلعنا على الصورة المبدئية للمستقبل, ولهذا فإن ثقافة الزمان في الإسلام توضح معنى المستقبل, وفي الحياة اليومية يعبر الإنسان بشكل بسيط ودال على قلقه نحو المستقبل حين يردد: كيف أعيش بقية حياتي? فهو هنا يسأل عن المستقبل الذي قد تكتنفه مفاجآت أو توقعات, ولذلك ظهرت دراسات عديدة في العلوم الإنسانية عن طبيعة (المفاجأة), واهتمت علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة بدراسة وسائل (التوقع) التي تكشف لنا عن الوسائل التي تجنبنا الكوارث التي يمكن أن تحدث في الواقع.

          ولا بد أن أشير مرة أخرى إلى أن دراسة المستقبل ليس معناها الهروب من الحاضر أو وسيلة لكي نتجنب ما ينبغي أن نفعله الآن, بل هي في حقيقة الأمر دراسة لممكنات الحاضر التي يمكن أن يؤول إليها, فما نخطط له الآن, ونعمل فيه هو ما يتحقق في المستقبل.

          والدراسات المستقبلية ليست مجرد إحصاءات فحسب, وإنما هي دراسة ذات طابع قيمي, لأنها تهتم بدراسة مستقبل الإنسان ونوعية حياته, وتحسين الطريقة التي يعيش بها, والغريب في الأمر أن الشركات العالمية العابرة للقارات والمتعددة الجنسية, التي أصبحت تحكم العالم سياسيا بعد تضاؤل دور الدولة, هي التي اهتمت بالدراسات المستقبلية, لأنها أدركت أهميتها على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية, ونوعية الحياة التي يجب أن تواكبها هذه الشركات (قامت إحدى الشركات العالمية التي تنتج الأدوات الاستهلاكية وكثير من المؤسسات العسكرية بتعيين مدير عام خاص بمراكز الأبحاث المتخصصة بالدراسات المستقبلية, ونهجت الطريق نفسه شركات البترول), ونلاحظ أن الدول الغربية تقدم من خلال هذه الشركات حلولا ذات طابع ظرفي لحل المشكلات الراهنة في العالم العربي والعالم الثالث, لأن كل تركيزها يكون على توظيف إمكاناتها البشرية والمادية في شكل يجعل الدول النامية تستعين بالخبراء الأجانب لحل مشكلاتها دون أن تساهم هذه الدول في خلق كوادر وطنية لحل مثل هذه الإشكاليات في الآفاق القريبة.

          وينبغي أن نوضح أن المستقبلية لها بعدان, أولهما بعد شمولي كوني, وهذا مستمد من مفهوم البيئة والأرض بوصفها الفضاء الإنساني الذي ينبغي أن يظل صالحا اليوم وغدا لحياة الإنسان, وثانيهما البعد الوطني الذي يتمثل في الاستراتيجية الوطنية لحل المشكلات التي يعاني منها القطر العربي الواحد, وهذا البعد يفترض مسئولية أبناء الوطن عن مستقبله, ولا يمكن استيراد الحلول لمشاكل ذات طابع ثقافي وديني وسياسي, وهذا يعني أن الحرية والديمقراطية هما إطار التجديد والابتكار والاجتهاد على المستوى الوطني للتفكير في قضايا المستقبل, ولذلك فإن أزمة التفكير في المستقبل لدينا تنتج عن استيراد الحلول من الخارج, وهي أيضا أزمة أيديولوجيا, لأنه لابد أن تكون هناك صيغة لنسق القيم في المجتمع العربي تسمح بالحوار والتعدد في طرح الرؤى حول المستقبل.

المستقبل بين الفلسفة والعلم

          إن الفرق بين دراسة الفلسفة للمستقبل ودراسة العلوم المختلفة, هو أن الفلسفة تهتم بدراسة المستقبل بشكل كلي, بينما تقدم العلوم دراسة تفصيلية لاحتمالات المستقبل في مجال التخصص, ودراسة الفلسفة للمستقبل هي نوع من الوعي بالمصير, والفلسفة تهتم بدراسة الجانب القيمي, فهي تهتم بدراسة الجوانب الأخلاقية المترتبة على تبني تصوّر ما عن المستقبل, كذلك تهتم الفلسفة بمناهج البحث وبنماذج التفكير المستخدمة في دراسة المستقبل, وهذا كله لا يتطرق إليه العلم بشكل مباشر, والفلسفة تستفيد من إنجازات العلوم والحقول المعرفية المختلفة عن المستقبل في تقديم رؤاها.

          إذا كان المستقبل هو أحد أبعاد الزمان الثلاثة, الماضي والحاضر والمستقبل, فإن الفكر الفلسفي قد اهتم بدراسة الماضي في فلسفة التاريخ, أي تفسير الماضي والمستقبل من خلال الأفكار والنظريات التي قدمها الفلاسفة لتفسير نشأة الحضارات وانهيارها, واهتم أيضا بدراسة الحاضر في صورة فلسفات تفسر لنا الحياة والطبيعة في ضوء تطور الفكر الإنساني, ولكن لم يهتم بدراسة المستقبل بشكل مستقل إلا في العصور الحديثة, ولكن هذا لا يعني أن القدماء لم يهتموا بالمستقبل, فقد اهتموا به في ضوء ثقافتهم وحضارتهم, ومن خلال الأدوات التي يستخدمونها لإنتاج حياتهم اليومية, ويمكن أن نبين أن ظواهر العرافة والكهانة والتنجيم التي تميزت بها الحضارات القديمة مثل  المصرية والبابلية واليونانية والهندية, تدل على مدى اهتمام الإنسان منذ أقدم العصور باستطلاع المستقبل من خلال الوسائل المتاحة.

          ولما كان الخيال قاسماً مشتركاً بين العلماء والفلاسفة والمؤرخين (حيث يمدهم بالقدرة على تصوّر الفترات التاريخية البعيدة التي يؤرخون لها) والشعراء, فلهذا نجد صورة من صور المستقبل لدى الشعراء, مثل هوميروس وجلجامش, ونجد اجتهاداً خاصاً لمحاولة تصور المستقبل من خلال بناء قيمي وفلسفي لدى أفلاطون وتوماس مور. وإذا أردنا أن ندرس المستقبل في الملاحم القديمة, فإننا ندرك رؤيتها للمستقبل في إطار رؤيتها للزمان, ونلاحظ في الملاحم البابلية واليونانية أن هناك صراعا بين الزمان النسبي (الزمان الإنساني) والزمان المطلق (الزمان الإلهي), والملاحم تصور لنا التاريخ بوصفه تجليا زمنيا للدراما الكونية, ففي ملحمة جلجامش نجد بطل الأسطورة ملك أوروك يصارع القوى الطبيعية والإنسانية بغية بلوغ هدف مستحيل وهو التحرر من ربقة الزمان والموت, فالموت هو الذي يضع حداً للزمان الإنساني على المستوى الفردي, وهذا يبين أن الإنسان يتطلع لزمان آخر يجعله آمنا على غده, ونجد هذه الرؤية أيضاً في الإلياذة والأوديسا, فهذا الغموض المرتبط بعدم التمييز بين الزمان والأزلية هو الذي جعل استطلاع المستقبل مرتبطا بمفهوم كوني أو حركة الأجرام السماوية, وارتباط معرفة مصائر البشر بالعلاقات الفلكية المختلفة, ولهذا سادت الكهانة والعرافة والغيب والتنجيم.

          أما مفهوم الزمان في العهد القديم والأناجيل, فهو بناء عقائدي للخلق وصيرورته, وبالتالي فإن تناول الزمان كان يجعل الزمان البشري وما يحدث فيه وسيلة ومدخلاً للزمان الأزلي في الآخرة, وهذا التصور للزمان هو تصور كلي وشامل, وهذا يختلف عن الزمان في العصور الحديثة التي تربط الزمان بالمكان, وتنظر للزمان من خلال أبعاده الثلاثة, لذلك ظهرت فلسفات زمانية تبين التقدم في الوجود والذي يتمخض عن أشكال جديدة من الحياة, وهذا ما نجده في فلسفة ليبنتز (1646-1716) , فالإنجاز هو الخروج من مفهوم الدوران الزماني إلى فكرة (التقدم), التي استند إليها هيجل (1770-1831) والذي اعتمد في فلسفته على مبدأ الصيرورة والتغير والتحول الزماني, وبين لنا عبر فلسفته أن التغير والتحول هما سمتا الوجود الجوهريتان بجميع أشكاله, ابتداء من المادة ومرورا بالحياة وانتهاء بالعقل أو الروح, وساهمت فلسفة هيجل في الخروج من الفكر الذي يقوم على الثبات والتكرار, وبالتالي أصبح الزمان له دور فعال في بناء الحاضر والمستقبل.

          وفلسفة التقدم تعني أن المستقبل يكون أفضل من الماضي, وأن البشرية تتقدم نحو عالم أفضل في ميادين الاقتصاد والعلم والاجتماع والسياسة, وقد لا يكون التقدم على النحو نفسه في مجال الأخلاق. وقد أثرت فلسفة التقدم على فلسفات التاريخ في رؤيتها للمستقبل, التي حاولت التنبؤ بالمستقبل على ضوء هذه الفلسفة التي ترى أنه يمكن من خلال قوانين التقدم أن نفسر المستقبل.

          ورغم كثرة ما كتب عن (المستقبل), فإن القليل منها الذي يتوقف عند تعريف المستقبل كمصطلح يعبر عن الوجود, وبوصفه موضوع التجربة البشرية, ولذا يجب أن نحدد بعض التعريفات التي يمكن تقديمها للمستقبل الذي ندرسه, فالمستقبل يشير إلى ما يأتي في الزمان والمكان, ولذلك فإن اللفظ بذاته (المستقبل) لم يرد في القرآن الكريم, ولكن وردت الألفاظ والأفعال الدالة عليه, آت, جاء, قبل, بعد, غداً وغيرها من الكلمات الدالة على الزمن, فالمستقبل الذي نتحدث عنه هنا مستقبل التجربة البشرية, وهو أفق هذه التجربة بمعنى أنه البعد الثالث من أبعاد الوجود الزماني للإنسان, (الماضي - الحاضر - والمستقبل), فالمستقبل يدرس الوجود الممكن للتجربة البشرية - التي لم يتمخض الزمان عنها بعد, وهذا الوجود ينقسم إلى قسمين رئيسيين:

          أولهما: الممكن بشرط, وهو الفعل الإرادي الذي يقوم به الإنسان. وثانيهما: الممكن بغير شرط, وهو الموجود الضروري, فالممكن المرتبط بالشروط يشير إلى المستقبل الإنساني المرتبط بما يسلكه من أفعال, بينما الممكن بغير شرط ينبثق عن الموجودات الطبيعية مثل شروق الشمس, فهو لا يرتبط بأي حادث معنوي على الأرض. وهذا التقسيم للممكن يساعدنا في التمييز بين دراسة المستقبل في التجربة البشرية, ودراسة المستقبل في العلوم الطبيعية, فهما مجالان مختلفان رغم أن الوجود البشري يرتبط بالوجود الطبيعي لكنه لا يسلك المسلك الضروري نفسه, فالإنسان قد يصحو من نومه ولا يذهب للعمل لسبب ما, بينما الشمس لا تتأخر عن الشروق لأسباب ذاتية, وإنما فعلها ضروري.

 

رمضان بسطاويسي محمد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات