حِكَاياتُ الكتب: العِقْدُ الفَرِيْدُ

حِكَاياتُ الكتب: العِقْدُ الفَرِيْدُ

أسند أحمد بن محمد بن عبد ربه رأسه إلى كفه وهو ينظر من شُرفة بيته المُطل على حديقة غنّاء تجمعت فيها شتى الألوان وغردت على أغصان أشجارها مختلف الطيور، أزفر زفرة مؤرقة كشفت عن حيرته الشديدة، قرر أن يخرج من ضيق الجدران إلى رحابة الخَلاء، فتح باب دارته الأندلسية برفق كي لا يزعج زوجته الحبيبة، امتطى جواده الأشهب وربت بيده على عنقه وكأنه يسر إليه بسره الخطير، فهم الأشهبُ مغزى لمسات صاحبه الحانية، تحرك بسرعة وتوجه إلى أجمل مواقع مدينة قرطبة العظيمة.

هكذا اعتاد ابن عبد ربه أشهر أدباء المدينة أن يفعل كلما مرت به ضائقة أو حيرَّه أمرٌ، اعتادت زوجته كذلك على غيابه ليلة أو ليلتين، كانت في بداية زواجهما تزعجها هذه العادةُ الغريبة عليها، يهجر الجميع ويعيش في الخلاء لمدة يوم أو اثنين، ولكنها أدركتْ فيما بعد أنها اقترنت بمبدع كبير، لا يقنع بقيد المنازل، كما لا يرضى بقيود التفكير.

(مَشْهَدٌ لَيْلِيٌّ خَارِجِيٌّ)

انتقى أحمد موضعًا تحت الشجر الظليل الذي تشتهر به قرطبة، بدأ يجيل النظر في القمر الذي كاد أن يكتمل، طالما حيرته فكرة الاكتمال التي يليها النقصان، لماذا لا يظل القمر مكتملاً؟ لماذا لا يظل ضوءه الساطع ينير الطرقات لنا؟ نعم خُلقتْ الطرقاتُ للرحلات لا للنهايات، جاءته الإجابةُ سريعة عندما تذكر لحظة ميلاد ظبيته المرقشة الصغيرة، كانت لحظة مؤلمة لم تتحملها الأم فلفظت أنفاسها، حينها أدرك قيمة التتابع والنقصان بغية الاكتمال، لابد أن ينتهي الربيع ليأتي الصيف، ليمنح الربيع الجديد ميلادًا جديدًا تتجدد معه بشارة السعادة، هز رأسه بعنف، وكأنه يخليها من هذه الأفكار، تذكر أنه جاء هنا لهدف محدد، البحث عن فكرة يصوغ من خلالها كتابه الجديد، إطار مبتكر لمؤَلَّف عظيم، كان قد استقر على طبيعة الكتاب، كتاب ذو طابع أدبي موسوعي يحوي المعارف الأدبية المختلفة من شعر ونثر وخطب ووصايا ورسائل، كما يحوي معارف الفقة والحديث والتاريخ والعروض واللغة والأخبار، لم يكن ابن عبد ربه الأندلسي المولود بقرطبة سنة 246هـ يدرك أن هناك رجلاً يجلس جلسته في بغداد يحيره الأمر نفسه، كان الأصفهاني في بغداد يبحث عن فكرة يجذب بها متعاطي الأدب لكتابه، فلماذا أكتب إذا انصرف الناسُ عن متابعة مكتوبي؟ ألا نكتب لكي نعبِّر ونتواصل ونؤثر؟ كان الأصفهاني ذا حظ عاثر، سيحتاج الأمر إلى أسبوع كامل كي يصل إلى فكرته المبتكرة في تأليف كتاب يحمل عنوان «الأغاني»، كتابٌ يجعل من الأغنية أيقونة عصره الزاهي مدخلاً للحديث في الأمور الأدبية المتعددة، أما ابن عبد ربه فقد كان حظه أفضل بكثير، لن يحتاج سوى لغفوة.

(مَشْهَدٌ سَرْمَدِيٌّ رَائِقٌ)

بعد أن غلبه النوم، شاهد في المنام جارية فائقة الجمال تقترب منه، كان مدهوشا من فرط جمالها، فعلى الرغم من امتلاكه العديد من الجواري الحسان, إلا أن هذه الجارية كانت تملك ما شده إليها، وجعله يتفحصها بدقة، باغتته بقولها وقد تسمرت عيناه على العقد الذي طوق غيدها (عنقها).

الجارية: أيعجبك العقد يا قرطبي؟
ابن عبد ربه: من أين حصلتِ عليه؟
الجارية: ولمَ السؤال؟
ابن عبد ربه: أريد أن أحوز مثله.
الجارية: هذا العقد لم يصنع منه سوى هذه النسخة الفريدة.
ابن عبد ربه: هل تبيعيه لي؟
امتعضت الجاريةُ وهي ترد بقسوة: «هذا العقد ليس للبيع، إنه من صنيع هاتي البنات» وأشارت بيديها إلى عدد من البنات القادمات من بعيد.
التفت ابن عبد ربه للبنات، وعندما أعاد رأسه لم يجد الجارية، فعاد لينظر للبنات فلم يجدهن.

(مَشْهَدٌ نَهَاريٌّ خَارِجِيٌّ)

استيقظ من نومه وقد ملأ نور الشمس الدنيا، وبدأ الأشهب يهز ذيله علامة على جوعه، أعد له صاحبه وجبته الصباحية، وظل شاردًا يفكر فيما رآه في غفوته، هل كان حلمًا، أم حقيقة؟ فجأة نظر للأشهب ثم قفز قفزة عالية وهو يعانقه ويصرخ: «العقد .. العقد يا أشهب وجدتُها يا أخي» لم يشغل الأشهب باله واكتفى بصهيل يشارك به صاحبه فرحته الغامرة.

(مَشْهَدٌ داخليٌّ نَهَاريٌّ/ لَيْلِيٌّ)

فور دخول ابن عبد ربه البيت قبل زوجته وناداها يا مليكة قلبي وقد كست ملامحه بشارات السعادة، أيقنت زوجته أنه قد وجد ضالته في خلاء قرطبة الحبيبة، لأنه لم يكن يناديها بهذا اللقب إلا عندما يكتمل مشروعه الإبداعي الجديد في ذهنه، وفي المساء التقى صديقه محمد الوراق في بيته، ولأنهما أصدقاء منذ زمن طويل فقد علم الوراق أن صاحبه سيشرع في مشروع ضخم، سأله فأجابه «العقد» لم يفهم الوراق ما عنى ابن عبد ربه، «العقد لقد فهمتُ مغزى الحلم، كانت الجارية الجميلة هي اللغة العربية، وكان ما يطوق عنقها هو جواهر الكلم، أروع ما أنتجت اللغة العربية، أما البنات فهن بنات أفكاري».

(الوَرَقَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ كِتَابِ العِقْدِ الفَرِيْدِ)
(الطبعة الأولى بولاق 1292هـ)

«ألفتُ هذا الكتاب وتخيرتُ نوادر جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان وسميته بالعقد؛ لما فيه من مختلف جواهر الكلام مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتاباً، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءاً، قد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، فأولها كتاب «اللؤلؤة في السلطان»... أما الباب الثاني من الكتاب فقد كان «الفريدة في الحروب» وبعد ذلك الباب الثاني عشر «المجنبة في الأجوبة»، فباب الواسطة في الخطب وبعد ذلك تبدأ أبواب الجانب الآخر بباب المجنبة الثانية، فالعسجدة الثانية حتى تنتهي أبواب الكتاب كما بدأت بباب اللؤلؤة الثانية في الفكاهات والملح وبذلك يكتمل العقد».

هذا نص ما ذكره ابن عبدربه في مقدمته، فكرة رائقة أثارت دهشة صديقه وإعجابه، كتاب تتوالى فصوله كما تتوالى جواهر العقد، ولكنه عقدٌ خالدٌ لن يضاهيه عقد آخر، فهو العقد الفريد الذي صنعته بناتُ أفكاره، مع ملاحظة أن إضافة لفظة «الفريد» هي من صنع المتأخرين، فابن عبد ربه سمى كتابه «العقد» فقط، ولكن من فرط إعجاب النقاد بكتابه ورغبتهم في إظهار فرادته أضافوا نعت الفريد للكتاب، وصاحب هذا الوصف هو الأبشيهي (محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي المنسوب إلى قرية أبشويه بمحافظة الغربية بمصر ت852هـ)، وذلك في مقدمة كتابه الشهير «المُستطرف في كل فن مستظرف».
---------------------------------
* كاتب من مصر.

 

علاء عبدالمنعم إبراهيم*