النار والرماد في رحلة أطول من الأبدية.. ربع قرن في المنفى فاضل العزاوي

النار والرماد في رحلة أطول من الأبدية.. ربع قرن في المنفى

(أملأ كيسي رملا وأؤسس في المنفى وطني). ماذا يعني ذلك? هل يمكن للطريد أن يبني وطنه في المنفى? أكانت تلك القصيدة التي كتبتها عام 1972 نبوءة بما سينتظرني?

ألفى نفسي وأنا في عز ظهيرة حياتي, كما كتب دانتي ذات مرة في افتتاحية كوميدياه الإلهية, تائها في واد بلقع لا أعرف حتى كيف وصلت إليه? ولكن إذا كان دانتي قد قطع واديه ذاك, عابرا الجحيم إلى الجنة في لحظة حلم بين العتمة والنور فإن عبور وادي منفاي استمر ستة وعشرين عاما, حتى من دون حلم في الوصول إلى الجنة. غادرت الوطن شابا وهأنذا أفكر بالعودة إليه, خائفا من نفسي ومنه, مفرغا من الأوهام, مضعضع القلب والجسد, كما عاد يولسيس ذات مرة من ضياعه الطويل في بحار العالم. لكن ما منح يولسيس هذه المرة تلك القدرة على التحمل ليس الحنين إلى بنيلوب الجميلة التي ظلت تنتظره بصبر وتوق, فيما يحاصرها عشاقها الأجلاف, وإنما لأنه كان قد حمل إيثاكا, معه على كتفه الواهية في ذلك الكيس الذي ملأته له رملا ذات يوم بعيد.

وماذا يهم إن كانت حوريات البحر قد غنين لأنفسهن, كما يقول ت.إس. إليوت في قصيدته (أغنية حب إلى بروفرك) وليس لي?

(سمعت الحوريات يغنين لبعضهن.
لا أعتقد أنهن كن يغنين لي).

ربما لم يكن يغنين لي حقا, لكن يكفيني أنني تحديت وضعيتي, مكتشفا السر كله في ذلك الغناء الآسر المهلك لحوريات البحر المستلقيات على صخرتهن السحرية. وهذا وحده يعني الكثير.

تبدأ فكرة المنفى مع أسطورة الخليقة نفسها, تلك الأسطورة التي ترويها جميع الأديان السماوية: المنفى كعقاب. فحين رفض إبليس الجاحد أن يسجد لآدم لاعتبارات ذكرها القرآن طرده الله من الجنة إلى الجحيم وحرمه من العودة إليها. ثم تتكرر القصة ثانية مع آدم وحواء. فقد جعلهما الله يعيشان في الجنة (الوطن الأصلي), ناهيا إياهما عن أمر واحد فقط وهو أن يأكلا من ثمرات الشجرة المحرمة (شجرة المعرفة) التي غالبا ما تصور في الأعمال الأدبية والفنية كشجرة تفاح. لكن فضولهما المعرفي وتمردهما على الممنوعات وتوقهما إلى حرية الإرادة من أجل المعرفة جعلهما يعصيان أمر الله ويأكلان من الثمرة المحرمة. وهكذا أخرجهما الله من الجنة إلى الكرة الأرضية التي هي دار تجربة وعقاب لهما. فإذا ما أثبتا هناك وسط الأهوال والمصاعب حسن سلوكهما فإنهما سيعودان ثانية إلى الجنة.

وهنا نجد أنفسنا أمام فكرة إلهية سامية في النظر إلى الصراع, أي صراع يمكن أن يقوم في العالم, تنسف كل الأساس القمعي الذي يلجأ إليه البعض باسم الله أو الدين أو أي اعتبار مقدس. فحين عصى إبليس الله ذا القوة والجبروت كان في إمكان الله القادر على كل شيء أن يزيله من الوجود في لحظة واحدة, بل وحتى قبل أن يعلن بيان عصيانه, لكنه منحه كامل الحرية والحق في أن يبين موقفه من خلق آدم. هذه الفكرة تشكل في الحقيقة أساس وجوهر كل ديمقراطية في العالم: فمهما كنت شريرا, حتى لو كنت الشيطان نفسه فإنني أضمن لك الحق في أن تعمل ضدي وتتحداني فكريا وعمليا, بل إنها أكثر إنسانية وتسامحا حتى من ذلك, فمهما كان الحاكم عظيما فإنه لن يبلغ شأو الله بالتأكيد, ومهما كان المعارض شريرا فإنه سيظل أقل شرا من الشيطان.

الخروج الكبير للمنفى

بعد الوصول الثاني للبعثيين إلى الحكم في انقلاب 1968 شمل الضغط كل الفئات السياسية الأخرى, من اليساريين وحتى الإسلاميين والمستقلين, ثم راح يتزايد ويتخذ أشكالا مختلفة, حتي في ظل الجبهة التي تشكلت في العام 1973 بين البعثيين والشيوعيين والأكراد. فقد لجأ في البداية عدد من القوميين والشيوعيين (القيادة المركزية) والمثقفين المستقلين إلى حركة المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان بصورة خاصة: قيس السامرائي, إبراهيم زاير,شريف الربيعي, جمعة اللامي, جاسم الزبيدي, عمران القيسي, زهير الجزائري, هناء الشيباني... الخ. وبعضهم قصد أوربا مثل أنور الغساني وعبدالقادر الجنابي وفاضل عباس هادي. أما البعثيون من الجناح السوري فقد قصدوا سوريا ومن بينهم الشاعرة آمال الزهاوي وزوجها عداي النجم. وهكذا شهدت أعوام الجبهة تسربا تدريجيا إلى المنفى باتجاه أوربا لمختلف الأسباب: صلاح فائق, هيفاء زنكنة, فيصل لعيبي, صلاح جياد, فاضل عباس هادي. وقد خرجت أنا وزوجتي سالمة صالح أيضا في هذ الفترة, بدعوى مواصلة الدراسة, ولكن السبب الحقيقي كان هو أنني وجدت استحالة الإبداع في ظل الحكم البعثي القائم, وكنت أتوقع العاصفة ولا أريد الوقوع في الفخ نفسه الذي وقع فيه المثقفون في العام 1963, والذي كنت أنا نفسي واحدا من ضحاياه, حيث حكم علي بالسجن لمدة ثلاثة أعوام, أمضيتها متنقلا بين مختلف المعتقلات والسجون.

ثم جاء الخروج الكبير بعد انهيار الجبهة الوطنية في العامين 1979 و1980 ووصول صدام حسين إلى الرئاسة في حفلة دموية قطع فيها رءوس العشرات من رفاقه, فخرج عدد كبير من المثقفين اليساريين والمستقلين, غالبا باتجاه سوريا ولبنان. وهنا حدث تطور نوعي في مفهوم الخروج إلى المنفى. فقد كان الوجود في المنفى قبل ذلك نوعا من الهروب الشخصي من دون فاعلية ثقافية عامة أو بفاعلية محدودة, غالبا ضمن الإطارات الحزبية الضيقة, أما هذه المرة فقد بادر المثقفون العراقيون الموجودون في المنفى إلى تشكيل معارضة ثقافية - سياسية منظمة للدكتاتورية, حيث انعقد في بداية العام 1980 في بيروت المؤتمر التأسيسي لرابطة الكتّاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين وحضره حوالي 40 مثقفا يعيشون في مختلف البلدان, مثلما قررت الرابطة إصدار مجلة معارضة للدكتاتورية بعنوان (البديل). وحينما انعقد المؤتمر الثاني للرابطة في العام 1987 في دمشق كان عدد أعضاء الرابطة قد بلغ أكثر من 860 عضوا مع فروع في كثير من البلدان العربية والأوربية.

فإذا كانت هذه هي الموجة الكبيرة الأولى في الخروج إلى المنفى فقد أعقبتها موجتان أخريان: موجة الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات, وموجة ما بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الذي استمر حتى انهيار نظام البعث ودخول القوات الأمريكية إلى العراق في التاسع من أبريل 2003.

هذه الموجات المتتابعة أدت إلى نزوح أبرز المثقفين العراقيين إلى الخارج, بل إن عددهم فاق عدد الموجودين في الداخل, حيث قدر عدد العاملين في مجال الثقافة من شعراء وكتّاب ومفكرين ورسامين وممثلين وسينمائيين وموسيقيين ومعماريين وصحفيين بما لا يقل عن بضعة آلاف, موزعين في كل قارات العالم ومشكلين طاقة ثقافية كبيرة لا يملكها الكثير من البلدان.

وتقوم فكرة المنفى على ثنائية العلاقة بين المنفى والوطن من جهة وعلاقة المنفي بالبلدان الغريبة التي يقيم فيها وبظروفها من جهة أخرى. فالمنفي يحول العلاقة بالوطن ويغيرها, إذ يصبح المنفى هو الوطن (ولو مؤقتا) فيما يتحول الوطن إلى أرض غريبة محرمة عليه, ولذلك فإن أي فهم للمنفى لا يقوم إلا على فهم ظرف الوطن الذي يقود المرء إلى المنفى وظرف الحرية الذي يتيحه المنفى للعمل الثقافي والسياسي من أجل إلغاء الظرف المسبب للمنفى. وهذا يعني ضرورة تحليل القسوة الاجتماعية والسياسية التي ترغم المنفي على أن يتخلى عن كل شيء ويتركه وراءه, لاجئا إلى المنفى.

العثور على أجوبة عن مثل هذه القضايا يتطلب منا فهما أعمق للكارثة السياسية التي حلت بالعراق, فالأمر لا يتعلق فقط بدكتاتور فرض سيطرته على البلد وحكمه بالحديد والنار, وإنما بالبنية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي سمحت بحدوث مثل هذا الأمر, وفي كل الأحوال فإن الدكتاتورية لا تهبط من السماء وإنما تكمن في التطور الخطأ الذي يسلكه مجتمع ما من المجتمعات في فترة ما من تاريخه. ولذلك سأحاول هنا أن أبين هذا الخطأ ومصدره الحقيقي.

تكمن مشكلة الدولة العراقية منذ تأسيسها في بداياتها, فقد ظهرت الدولة العراقية نتيجة لسقوط الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى والاحتلال الإنجليزي للعراق وسقوط بغداد في 11 مارس 1917, الذي رافقه هجوم العشائر على بغداد وسلبها وحرق سوق السراي, ذلك الأمر الذي تكرر مرة أخرى بعد 86 عاما ولكن بطريقة أسوأ هذه المرة, مع دخول القوات الأمريكية إلى بغداد وسقوط نظام صدام حسين في 9 أبريل 2003, وهو في الحالين يدل على مدى الخراب الذي كان قد لحق بأرواح العراقيين. فإذا كانت الخلافة العثمانية قد حولت العراق إلى بلد متخلف ولم تترك وراءها سوى الرماد فإن النظام البعثي هدم كل أساس ممكن للتطور في الحاضر والمستقبل.

تشويه الديمقراطية

كان الجيل الأول الذي حكم العراق عمليا حتى ثورة 14 يوليو 1958 يشعر بارتباط مصيري بالإنجليز من جهة ويمتلك ثقافة عثمانية قمعية من جهة أخرى. لقد قامت ثورة العشرين في الأساس من منطلقات دينية ضد الحكم الإنجليزي, ولكن الاحتلال الإنجليزي تمكن من احتواء شيوخ العشائر الإقطاعيين والكثير من رجال الدين, فيما عدا الدعوة إلى حكم وطني لم تكن الثورة تملك أي تصور للدولة المنتظرة. لقد كان ثمة ما يوحد العراقيين ضد الإنجليز بالتأكيد, ولكنه كان توحيدا عاطفيا ورمزيا قبل أن يكون توحيدا فكريا مؤسسا, توحيدا يكاد يشبه الوحدة الرمزية التي تتحقق أحيانا بين مؤيدي فرق كرة القدم.

لقد تضمن الدستور العراقي الذي وضعه الإنجليز أو الذي وضع تحت إشرافهم الكثير من عناصر الدولة الحديثة: حرية الأحزاب والنقابات والجمعيات, البرلمان, الانتخابات, حرية القضاء, ضمان حقوق الإنسان... الخ. بل إنه كانت هناك عناصر اشتراكية في بنية الدولة العراقية ولكن الرعيل الأول من الحكام, ذوي الثقافة العثمانية القمعية من جهة والتبعية المطلقة لسلطات الانتداب من جهة أخرى حول كل هذه الحقوق إلى صفر وألغى كل تطور ديمقراطي محتمل للمجتمع.

ولعل الرجل الأول الذي أفسد الدولة العراقية وانتهك كل ما في الدستور وصاغ الدولة على طريقته الخاصة هو نوري السعيد الذي شكل وزارته الأولى في العام 1930.

لم يكن لنوري السعيد مفهوم معين في تكوين المجتمع المدني ودوره في إدارة التنظيم الاجتماعي وعلاقة هذا كله بالدولة. فهو عسكري وإداري حازم وخلفيته المعرفية ترجع إلى مفهوم السلطة الأبوية العثمانية, مما يدل على أن الفئة الحاكمة التي كان يقودها نوري السعيد ظلت تعتبر أفراد المجتمع عامة رعايا لا حقوق لهم خارج إرادتها وهيمنتها ووصايتها عليهم.

وربما كان سبب ذلك هو أن معظم هؤلاء وفي طليعتهم نوري السعيد لم يكونوا يملكون سندا حقيقيا داخل المجتمع. كل قوتهم كانت تكمن في رضا الإنجليز عنهم. وكان الإنجليز يعولون على من يخدمهم ويحفظ مصالحهم, بغض النظر عن سياسته الداخلية, بدعوى الظروف الخاصة لهذه البلدان. لقد أثر أشخاص من أمثال نوري السعيد في كل التطور اللاحق للعراق. فقد بدأ الرجل حياته في ظل الانتداب مديرا لشرطة بغداد, ثم صار رئيسا لمجلس الأعيان ورئيسا للوزراء مرات عدة, مقدما أسوأ صورة ممكنة للنظام الديمقراطي: انتخابات مزورة دائما أو مفروضة, برلمانات لا تستمر أحيانا سوى أسابيع أو أيام, منع الأحزاب, اعتقالات مستمرة وممارسة أبشع أشكال التعذيب, قضاء تابع للحكومة, صحف تعطل بأمر وزاري.

لقد قدم النظام الملكي في العراق عن نفسه أسوأ صورة ممكنة وشوّه بذلك فكرة النظام الديمقراطي وخان دستور دولته هو بالذات.

في مواجهة هذه السياسة كان هناك اتجاهان:

- الاتجاه الأول الذي تمثل بصورة خاصة بالحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يقوده كامل الجادرجي والذي يقوم على القبول بالنظام, ضمن الكفاح ضد إفساده والعودة إلى الدستور وضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان.

- الاتجاه الثاني الذي مثله الشيوعيون بصورة خاصة, إضافة إلى القوميين والبعثيين, قام على رفض فكرة إمكان إصلاح النظام وعمل من أجل قلبه لتشكيل نظام آخر يقوده الثوريون ويقوم على الديمقراطية الشعبية المحققة للعدالة الاجتماعية في نظر الشيوعيين والدولة القومية في نظر البعثيين. ولم يكن هذا الاتجاه معنيًا كثيرًا بالنظام الديمقراطي الذي يوفر الفرصة لجميع الاتجاهات, بدعوى قطع الطريق أمام القوى الرجعية والإقطاعية وتلك المرتبطة بالاستعمار.

وهكذا يمكن القول إن انتصار ثورة 14 يوليو 1958 شكل انتصارا للاتجاه الثاني الذي ألغى النظام الملكي القديم وأعلن الجمهورية ببيان خلا من أي إشارة إلى الديمقراطية أو البرلمان أو حقوق الإنسان أو المجتمع المدني أو عودة العسكر إلى ثكناتهم.

هذا الاتجاه الذي فرض نفسه بالقوة المسلحة ظل مسيطرًا طيلة 45 عاما وأخفق تماما في وضع أي أساس سياسي أو قانوني لتشكيل دولة عصرية بديلة عن النظام الملكي الذي أسقطه, وسبب المزيد من الدمار والخسارة للعراق وللأمة العربية, وزاد من حدة التناقضات التي ظلت تعصف بالناس دون انقطاع. بل إنه أبقى البلاد طيلة ما يقرب من نصف قرن دون دستور ودون أي شرعية للحكم, مثلما أخضع الحكم للعسكر من جهة, وللدكتاتورية الفردية والحزبية من جهة أخرى ضمن دولة بوليسية لا حدود لبطشها وعسفها. وبالطبع فشل هذا الاتجاه في تحقيق أي شعار من شعاراته التي رفعها, سواء ما تعلق منها بالعدالة الاجتماعية أو الوحدة القومية.

امتلك هذا النظام في عهوده الثلاثة التي مرّ بها (حكم عبدالكريم قاسم, حكم الأخوين عارف, الحكم البعثي) قاعدة شعبية واسعة نسبيا, بالقياس إلى الحكم الملكي الذي كان بلا قاعدة شعبية تقريبا. هذه القاعدة ارتكزت في بداية عهد قاسم على المثقفين من سكان المدن والعمال والفلاحين والطلبة والموظفين والعسكريين. ثم ضعفت هذه القاعدة تدريجيا, تحت وطأة الدكتاتورية الفردية من جهة, والانقسام الذي حدث بين الأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة من جهة أخرى. بحيث أفلحت فئات من هذه القاعدة في إسقاط حكم قاسم وتدبير واحدة من أكبر المجازر في تاريخ العراق الحديث ضد منافسيها السياسيين, ولكن هذه الفئات انشطرت مرة أخرى على نفسها, فأسقطت 8 فبراير الفاشي. ثم انسحبت بقايا هذه الفئات من القوميين من الحكم بحيث كاد يفقد كل قاعدة له, باستثناء بعض العسكر المتحدرين من الرمادي. ولذلك سقط الحكم حتى دون إطلاق رصاصة واحدة في انقلاب البعثيين المتربصين في العام 1968.

البعث والحكم

لم يكن البعثيون يملكون حين وصولهم الثاني إلى السلطة سوى قاعدة ضيقة وصغيرة لا تكاد تذكر. ولذلك لجأوا في البداية إلى اجتذاب قاعدة الفئات الأخرى إليها مثل الشيوعيين والقوميين عن طريق المزايدة في الشعارات الثورية وبخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي السابق والمعسكر الاشتراكي والتحالف مع الشيوعيين والاعتراف الاسمي بالحقوق القومية للأكراد والتركمان وتأميم النفط...إلخ. مثلما استخدموا سياسة التقرب من المثقفين, مع التلويح بالإغراء تارة, والتهديد تارة أخرى. لكنهم عملوا أساسا للسيطرة على الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات.

دأبوا منذ الأيام الأولى على منح الرتب العسكرية الكبيرة للفاشلين في الدراسة وسائقي التاكسيات والعاطلين عن العمل مثلما عيّنوا الكثير من المجرمين العاديين في أجهزة الأمن والمخابرات, كما اعتمدوا على العلاقات العشائرية وعملوا على ترييف المدينة وفرض القيم الريفية المتخلفة على الطبقة الوسطى المتنورة والقضاء على استقلالية كل المرجعيات التي تقوم عليها الفكرة التنويرية في العراق عن طريق الهيمنة عليها: السيطرة على الاتحادات الثقافية والفنية والمهنية والنقابية. السيطرة على الجامعة والتعليم, السيطرة على الصحافة والإذاعة والتلفزيون, محاولة السيطرة على الأحزاب الوطنية, شراء ذمم رجال الدين أو اغتيالهم وإخضاع خطبة الجمعة للرقابة, محاولة شراء الكتاب والصحفيين العرب والقادة السياسيين في محاولة لخلق مرجعية عربية بعثية الهوى...إلخ.

ومع الزمن انحدرت الطبقة الوسطى إلى الحضيض, فيما صعدت من أسفل قعر في المجتمع فئة ذات أصول ريفية في الغالب, تمتلك طابعا طبقيا هجينا وتستمد قوتها من انتهازية الانتماء إلى حزب البعث وانعدام الشخصية والسيطرة على الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات من جهة, ونهب الثروات النفطية عن طريق المكرمات والعطاءات والرواتب والامتيازات الخاصة ومصادرة أموال وأملاك المعارضين, فضلا عن احتكار المقاولات والمتاجرة بالسوق السوداء من جهة أخرى .

لينجُ من يستطع

هذا التمزيق الشامل للمجتمع العراقي أثر بدوره على حركة الهجرة إلى المنفى, فإذا كان المنفى في العهود السابقة وحتى حرب الخليج الثانية في العام 1991 قد اتسم بالمعارضة السياسية المباشرة, فإن ما بعده اتسم بحركة هجرة جماهيرية, سواء أكان الشخص مطاردا أم غير مطارد. بحيث صار الشعار (لينج من يستطع النجاة بجلده!). لم يعد الأمر يقتصر على الجوع أو الوضع الاقتصادي الصعب, وإنما بفقدان الناس الثقة بأي مستقبل لهم أو حتى بإمكان الحياة في ظل النظام البعثي. كما امتد الأمر إلى القاعدة البعثية نفسها. فالألوف من الذين كانوا محسوبين على النظام تدفقوا إلى الخارج, معلنين القطيعة مع الدكتاتورية بهذا الشكل أو ذاك.

قد لا يكون من المبالغة القول إن ذلك أدى إلى ظهور ما يكاد يكون شعبين عراقيين: شعب في الداخل وآخر في الخارج, ولعل شعب الخارج كان أكثر تعبيرا عن حقيقة الشعب العراقي, بقوة الحرية التي امتلكها, دون أن يعني هذا أي انتقاص من قيمة مبدعينا الآخرين الذين لم يكفوا عن الحلم بالجنة حتى وهم داخل جحيم الشيطان, فإذا كان بعضهم قد اختار الصمت, كأسلوب معروف في مقاومة الدكتاتورية, يطلق عليه في الأدب الألماني اسم (الهجرة الداخلية) فإن ثمة بعضا آخر منهم كان يهرب أعماله بهذه الطريقة أو تلك إلى الخارج, فتفلت من قبضة الرقابة المحتكرة للفكر والإبداع. ففي حين اختنقت الثقافة البعثية تحت وطأة الأحادية الفكرية والسياسية عكس إبداع الخارج الطبيعة المتنوعة والمتعددة, سياسيا وثقافيا وقوميا للعراقيين. وفي حين انحدر الركام الثقافي والفكري والأدبي والفني الرسمي المنشور في الداخل إلى الحضيض, ذلك الأدب الذي ظل يحرض دون خجل على الحروب ويرفع وحشا دمويا مثل صدام حسين إلى مصاف الآلهة, تألق إبداع الخارج, محافظا على اسم العراق وشرفه كبلد طليعي مجدد في الثقافة العربية, رغم كل العقبات التي اعترضت طريق المبدعين العراقيين الذين واجهوا في منفاهم أشكالا متعددة من الحصار:

1- حصار النظام العراقي الذي كان يمنع وصول كتب مبدعي المنفى إلى داخل العراق, مصدرا العقوبات القاسية على من كان يمتلكها ومحرما الكتابة عن مبدعينا الحقيقيين لفرض النسيان على أسمائهم, وفي أفضل الأحوال شتمهم والانتقاص من قيمتهم.

2- تواطؤ الكثير من دور النشر العربية والاتحادات الأدبية الرسمية والمجلات والصحف مع النظام العراقي حتى حرب الخليج الثانية على الأقل في مقاطعة أدباء وكتّاب المنفى العراقيين وتهميشهم.

3- انتهاز الكثير من الأدباء والصحفيين العرب الفرصة ضمن المنافسة القطرية التاريخية القائمة للنيل من الإبداع العراقي وإغفاله وإهماله وإبراز أسماء ثانوية عربية لا قيمة حقيقية لها. وهنا أريد الإشارة إلى كلمة إنصاف نشرها الشاعر عباس بيضون, المحرر في جريدة السفير قبل عامين يقول فيها: إن كثيرا من الكتاب العرب يغفلون عمدا الكتابة عن الإبداع العراقي, رغم أنهم في مجالسهم الخاصة يشيدون بإنجازاته ويتحدثون عنها بإعجاب شديد: وهو ما انتبه إليه الرسام ضياء العزاوي أيضا, حين كتب وهو يتحدث عن معرض عراقي أقيم في لبنان أن أحد النقاد جاء إليه وقال له: إنه معرض عظيم حقا, ولكنه عراقي مع الأسف.

4- واصلت المعارضة العراقية السياسية الموجودة في الخارج بكل أجنحتها سياسة النظام نفسها تقريبا تجاه الأدباء والكتّاب والمبدعين الموجودين في الخارج, إما أن تكون معي أو أن أكون ضدك. لم يفكر أي تيار بالمثقفين والمبدعين كدعامة وطنية عامة, وإنما كوجه دعائي فحسب, قابل للبيع والشراء, ثمة أمثلة كثيرة مؤسفة على مثل هذه النظرة الضيقة التي لم تكن تتردد حتى في اللجوء إلى تشويه الحقيقة في حربها ضد المثقفين العراقيين والضغط عليهم لتحويلهم إلى جنود أنفار يخوضون حروبها الخاصة بها في طريق سلطتها القادمة.

هذا السلوك أضر كثيرا بالإبداع الثقافي العراقي في المنفى وجعله يتسم بالفردية, كل شخص يسعى ليكون وحده النجم الأول في ظل الانعدام التقريبي للمرجعيات الثقافية المؤسسة أو المعترف بها وهيمنة النظرة الحزبوية الأحادية إلى الثقافة. كل فئة تنفخ في المنتسبين إليها وتبرزهم إعلاميا ولا تكاد تقرأ لمن ليس منها. فالقيمة هنا لا تتحقق من خلال البناء الثقافي الوطني أو القومي وإنما من خلال التبعية السياسية والفائدة الآنية وهو موقف كان يتطابق تماما مع الموقف الرسمي للسلطة الدكتاتورية في علاقتها بالمثقفين.

5- أخفقت المعارضة العراقية الرسمية في خلق أي علاقة متطورة مع المفكرين والشعراء والأدباء والفنانين, ولم تقدم لهم أي دعم مادي أو معنوي حتى في حدوده الدنيا, رغم أن بعض أجنحتها كان يتسلم الملايين من الدولارات من أمريكا ودول شتى أخرى, مثلما لم تفكر في يوم من الأيام حتى باستشارتهم أو تأسيس دار نشر لهم مثلا أو العمل على توثيق صلاتهم مع المنظمات الثقافية العالمية الأخرى. بل إن بعضها لجأ حتى إلى السطو على اسمائهم الثقافية, عن طريق إقدامها على تشكيل منظمات ثقافية لا قيمة لها مكوّنة من بضعة أنفار لمجرد الاستفادة الشخصية من الدعم الذي تقدمه بعض الدول الأوربية والغربية للثقافة. وهو دعم لم يكن يذهب بالطبع إلى المثقفين, وإنما يجري الاستحواذ عليه وسرقته بطريقة مقرفة. كما بادرت مجموعات سياسية معينة في المنفى حتى إلى تأسيس ما أطلقت عليه اسم اتحاد الأدباء العراقيين الرنان, للاستفادة من الأموال الأمريكية التي كانت مخصصة لمشروع تحرير العراق, دون أن تضم حتى شاعرا أو كاتبا معروفا واحدا, مسندة رئاسته, كبديل عن الجواهري فيما مضى, إلى مَن لا علاقة له بالأدب أو الكتابة.

معجزة المنفى

ومع ذلك ورغم كل هذه القيود السياسية والنفسية والحياتية التي واجهها المبدعون والمثقفون العراقيون طيلة ربع قرن من وجودهم في المنفى, فإنهم حققوا ما يشبه المعجزة, فقد أفلحوا في الولوج إلى نسيج معظم الثقافات العالمية الأخرى التي وجدوا أنفسهم على تماس معها, حيث ترجمت أعمال عراقية متميزة إلى الكثير من اللغات الأخرى, كما أنهم فرضوا حضورهم في معظم المهرجانات الثقافية العربية والعالمية, كروّاد حقيقيين داخل الثقافة الإنسانية, ومع موجات الهجرة الكبيرة انهدمت في النهاية معظم الجدران السابقة, إذ ما يكاد المرء يفتح جريدة أو مجلة حتى يندهش للوجود العراقي فيها.

شكّلت ظاهرة المنفى العراقية, وبالذات خروج كل هذا العدد الكبير من المثقفين والمبدعين العراقيين إلى الخارج وإعلانهم القطيعة مع الدكتاتورية واحدة من أبرز الظواهر الثقافية في القرن العشرين ليس على المستوى العربي فحسب, وإنما على المستوى العالمي أيضا. وهي ظاهرة تكاد تخلو من أي مثيل لها في المقاومة السياسية والثقافية في كل التاريخ العربي. فقد ضرب العراقيون مثلا مضيئا لكل الآخرين في رفضهم لكل ما يعادي الإبداع وحرية ثقافتهم, وضحوا بحياتهم نفسها من أجل ذلك.

كانت هنالك قبلهم حركة المهجر في أمريكا, ولكنها لم تكن أكثر من حركة صغيرة مؤلفة من بضعة كتاب وشعراء لبنانيين وسوريين, خرجوا للتجارة والتكسب دون أي قطيعة سياسية أو ثقافية مع الأنظمة القائمة في بلدانهم ولم تتخذ حركتهم أي طابع سياسي أو مقاوم.

***

لقد شهد القرن العشرون حركات انشقاق ثقافية عدة, وخروج إلى المنفى, أهمها:

- انشقاق بعض الكتّاب والفنانين الروس في زمن الاتحاد السوفييتي السابق وبروز بعضهم على المستوى العالمي مثل نابوكوف وسولجنستين الذي حاز جائزة نوبل. ولكن عددهم ظل محدودا جدا بالقياس إلى عدد الكتّاب الروس الذين فضّلوا البقاء في الداخل.

- حركة المنفى الألمانية في ظل النازية التي تشكّل الانشقاق الأكبر والأوسع في تاريخ الثقافة الأوربية, حيث ترك الكثير من الكتّاب والفنانين ألمانيا الهتلرية, وعاشوا في ظل ظروف أسوأ بكثير من ظروف المنفى التي عاشها العراقيون وفي مقدمة هؤلاء مبدعون ومثقفون كبار مثل توماس مان وهاينريش مان وبرتولد بريشت وأينشتاين وأنا سيغرز.

- حركة المنفى الإسبانية في ظل الفاشية الفرانكوية, حيث اضطر العديد من المبدعين المعادين للفاشية إلى الهجرة وأبرز هؤلاء الشاعر رافائيل البيرتي والكاتب فرناندو أرابال والرسام بابلو بيكاسو.

ومع ذلك فإن تجربة المبدعين العراقيين أكثر مرارة وقسوة وشمولية. فالحكم النازي في ألمانيا لم يستمر سوى 12 عاما. وفاشية فرانكو, باستثناء مرحلة الحرب الأهلية, لم تحاول استيعاب الحركة الثقافية أو ملاحقة الكتّاب المستقلين أو إعدامهم أو قتلهم. وقد ظل معظم الكتّاب الإسبان الكبار في الداخل. وكانت ثمة دور نشر كثيرة تنشر لهم, ومن هؤلاء الشاعر الكبير خيمينيث الذي حصل على جائزة نوبل عن ديوانه الشهير (بلاتيرو وأنا).

أما في تجربة المنفى العراقية فقد كان الأمر يتعلق بالتحريم الكامل لأي إبداع حر في الداخل, متحرر من قبضة السلطة, مع احتمال تعرض الكاتب للموت إذا ما خرج على مفهوم الأدب البعثي الذي طالما روّجت له الدكتاتورية. وهكذا خرج معظم مبدعينا الكبار إلى المنفى: الجواهري, البياتي, الحيدري, نازك الملائكة, غائب طعمة فرمان, سعدي يوسف, نجيب المانع ومئات الأسماء الأخرى من كل الأجيال, من مستقلين ويساريين وقوميين وإسلاميين. وأثبتت الدكتاتورية البعثية العراقية أنها الأكثر غباء بين كل الدكتاتوريات التي شهدها التاريخ الحديث. فهذا الانشقاق الكبير لم يحول العراق إلى مجرد خرابة ثقافية ينعق فيها البوم وإنما فضح حقيقة دعاواها الكاذبة أكثر من أي عمل أخرق آخر قامت به.

وفي كل الأحوال, ومهما كان حجم الخراب الذي حل بالعراق, فإن المنفى العراقي بملايينه العديدة استطاع الإسهام بصورة عميقة في إسقاط النظام الدكتاتوري وتشكيل صورة أخرى للعراق القادم الجديد الذي طالما حلمنا به. فرغم كل الآلام التي ارتبطت بمنفانا الطويل الذي بدت أعوامه بلا نهاية. حتى لكأننا عشنا الأبدية ذاتها, فإن خروج العراقيين على نظام القمع شكل ذخيرة ثقافية وسياسية وفكرية احتياطية كبيرة للعراق المتحرر من الدكتاتورية, ذخيرة لا يكاد يملكها أي شعب آخر في المنطقة. إنها ذخيرة الأمل بعراق جديد ناهض من الرماد, سوف يعرف كيف يعيد الاعتبار ثانية إلى الحياة.

 

فاضل العزاوي 




فاضل العزاوي القاص والشاعر العراقي





جولة في واحدة من المدن الاوربية الكثيرة التي تجول فيها فاضل العزاوي بحثا عن مستقر





إحدى روايات فاضل العزاوي





انتظار في المنفى وأمل في وطن حر