مختارات من: (تجديد الفكر العربي) زكي نجيب محمود

مختارات من: (تجديد الفكر العربي)

مواضع الزلل الفكري عند الإنسان لا تكاد تقع تحت الحصر, يهمّنا منها الآن موضع واحد, هو أن يتفق الناس على معان مجرّدة, فيحسبوا أنهم قد اتفقوا بذلك على التفصيلات الجزئية التي تقع تحت ذلك التجريد. فالناس جميعا متفقون - مثلا - على ضرورة (الطعام), حتى إذا ما أخذوا يعدّون لأنفسهم صنوفه اختلفوا ميلا ونفورا إلى أبعد درجات الاختلاف, حتى ليتقزّز منهم نفر مما يجعله نفر آخر موضع الاحتفال والتكريم... وقل شيئا كهذا في كل شيء: تقول للناس (فن) فلا تجد منهم أحدا ينفر من الفن, وكيف ينفر والفن في ثيابه وأواني طعامه وعلى جدران داره? لكن ادخل معهم في تفصيلات ما يعدّ فنّا وما لا يعد, تجد منهم عجبا, فالفن التجريدي - مثلا - أو السريالي أو غيرهما من ضروب الفن الحديث, لا يلقى عند كثرة من الناس إلا هزَّ الأكتاف الهازئة وإلا الضحكات المتعجبة الساخرة. وخذ ما شئت من معاني الدين والسياسة والاجتماع, تجد من الناس اتفاقا لا استثناء فيه ولا تردد, لكن ابدأ في ذكر التفصيلات والشروح التي تحملها تلك المعاني, فعندئذ تجدهم قد تفرقوا فرقا يباعد بينها ما يباعد بين القطبين, فإذا كان المجال مجال الدين كفَّر بعضهم البعض الآخر, أو كان مجال السياسة قاتل بعضهم البعض الآخر, أو كان مجال أوضاع اجتماعية اتهم بعضهم البعض الآخر بالرجعية من فريق وبالانحلال من فريق آخر.

وذلك لأن الفكرة المجرّدة من شأنها أن تمحو الفواصل والفوارق التي تميّز المفردات العينية الجزئية المندرجة تحت الفكرة, فالقط والكلب والسبع والنمر والحمار والحصان والجمل... كلها (حيوان), والبرتقال والتفاح والتمر والرمّان والموز والبطيخ... كلها (فاكهة), فقد تجد رجلين يتفقان - مثلا - على قيمة معينة يتصف بها الحيوان كله, أو تتصف بها الفاكهة كلها, حتى إذا ما نزلا إلى تفصيلات الحياة العملية وجدت أحد الرجلين يقتني في داره كلبا ووجدت الآخر ينفر من نجاسة الكلب, أو وجدت أحد الرجلين يأكل البطيخ على اشتهاء, ووجدت الآخر يجتنبه لما يصيبه من نفاخ, والحديث في هذا الباب أوضح من أن نمضي فيه.

وإنه ليندر جدا أن يكون الانتقال الفكري من عصر إلى عصر, انتقالا في المعاني العامة المجردة. كما تدل عليها ألفاظ عامة يتداولها الناس فيما بينهم من أحاديث ومعاملات, وإنما يكون الانتقال الفكري في تغير المضمونات التي يقصد إليها المتحدثون والمتعاملون بتلك الألفاظ العامة والمعاني المجرّدة, وبعبارة أوضح نقول إنه لو كانت الألفاظ العامة والمعاني المجرّدة كئوسا ومضموناتها هي الشراب داخل تلك الكئوس, أو لو كانت أطباقا ومضموناتها هي الطعام في تلك الأطباق, فإن الكئوس أو الأطباق ليست هي التي تتغير من عصر فكري إلى العصر الذي يليه, وإنما الذي يتغير هو الشراب في الكئوس أو الطعام في الأطباق, وإلا فقلْ لي متى كان العصر الذي يتنكر (للفضيلة) بمعناها العام, أو (للعدالة) أو (للحرية) أو (لكرامة الإنسان) أو غير ذلك من المعاني الداخلة في هذا المضمار? فهذه ألفاظ تبقى ولا تزول, تجيء حضارة وتذهب حضارة, وتجيء ثقافة وتذهب ثقافة, وتجيء عقيدة وتذهب عقيدة, لكن تبقى ألفاظ (الفضيلة) و(العدالة) و(الحرية) و(الكرامة).. إلخ مرفوعة الأعلام, فما الذي يتغير إذن بحيث نقول: ذهبت ثقافة وجاءت ثقافة? الذي يتغير هو المضمون الذي نعنيه, فقد تعني العدالة في عصر فكري معيّن أن يقتصّ المظلوم من ظالمه متى استطاع ذلك بشخصه, ثم يتغير العصر فتصبح العدالة أن يقف بين الطرفين قاض محايد, وهكذا في سائر المعاني.

ولهذا لن تجد في حياتنا الفكرية المعاصرة معنى مجردا واحدا, نشير إليه بلفظة عامة, إلا أن تجد ذلك المعنى المجرد نفسه وتلك اللفظة العامة نفسها - أو ما يرادفها - واردين في تراثنا الفكري القديم, فهل يكون معنى ذلك أن فكر المعاصرين هو نفسه فكر الأقدمين? - سوف يكون الجواب أن (نعم) عند من يكتفون من الشراب بالكئوس الفارغة, ومن الطعام بأطباقه الخاوية, وهذا على أفضل الفروض, لأن الكأس الفارغة والطبق الخاوي أفضل منهما وقد امتلآ بما لم تعد النفس تشتهيه, سيكون الجواب أن (نعم) عند من لا يفطنون إلى تيار الزمن كيف يجرف من العصور المتوالية لبابها الفكري, وإن أبقى لها القشور والأوعية التي كانت تحمل لها ذلك اللباب, وهو إذ يجرف ما يجرفه, فإنما يفعل ليجيء أبناء العصر الجديد فيضعوا في الآنية القديمة لبابا جديدا.

أقول ذلك وأنا على علم بمدى التحفّز الذي يتحفّز به كثيرون, دفاعا عن تراثنا الفكري, ظنّا منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا في صحائف الأقدمين فأخرجوا لفظا من هنا ولفظا من هناك, وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك, ليثبتوا أن قِيَم هذا العصر الجديد - وأعني القِيَم المحمودة الشريفة - قد وردت كلها في تراثنا, وليس بنا حاجة إلى لغو المحدثين. فإن قال المحدثون (حرية) و(مساواة) و(علم) و(عدل), أجبناهم في انفعال: صح نومكم يا هؤلاء, لقد سبقناكم بكذا قرنا من الزمان إلى (الحرية) و(المساواة) و(العلم) و(العدل) وغيرها من القِيَم الرفيعة, ويفوتنا دائما أن نتروّى حتى نستوثق من أن كئوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم, ولم تستبدل به شرابا جديدا, به وحده تسرى في أجسادنا روح العصر وبغيره نتخلّف لنعيش مع الأقدمين لفظا ومعنى, وشكلا ومضمونا.

عصر العلم والعمل

ولأضرب مَثَلين في شيء من التفصيل, لأوضح ما أريد:

إن من علامات هذا العصر المميزة, أنه عصر (العلم) المقترن (بالعمل) حتى لتجد فلاسفة عصرنا منصرفين بكثير من عنايتهم وجهدهم نحو تحليل العلاقة بين العلم والعمل تحليلا ينتهي ببعضهم إلى القول إن العلم والعمل موصول أحدهما بالآخر, فإذا وجدت (علما) مزعوما لا يجيء بمثابة الخطة الدقيقة لعمل يؤدَّى, فقل إنه ليس من (العلم) في شيء إلا باسم زائف, وأن هذا الفريق من الفلاسفة المعاصرين لينكرون أشد إنكار أن يكون هناك ما يجوز تسميته (بالعلم النظري) الذي لا صلة له بدنيا التطبيق, بل إنهم ليتطلبون من العلماء إذا حددوا مصطلحاتهم العلمية, أن يحدّدوها بما يسمونه (تعريفا إجرائيا), أي أن يحدّدوها بالجوانب العلمية التي تنطوي عليها تلك المصطلحات, فإذا وردت في لغتهم ألفاظ رئيسية لا تشير إلى (إجراءات) فعليّة معيّنة رفضوا مشروعيّتها من الناحية العلميّة, وإننا لنقول عن عصرنا إنه عصر (التقنيات) (التكنولوجيا), وما الأجهزة التقنية هذه إلا (الأفكار) العلميّة وقد برزت إلى دنيا العمل.

فإذا قال قائل عن عصرنا إنه عصر (العلم) و(العمل) كان لقوله معنى محدّد بمضمونات العصر ومفهوماته, (فالعلم) - من ناحية - هو العلم الطبيعي, و(العمل) - من ناحية أخرى - هو تطبيق العلم بالأجهزة التقنية على اختلاف مجالات العلوم وتطبيقاتها. إن كلمة (علم) بهذا المعنى المحدّد لم تدخل اللغة الإنجليزية نفسها إلا في الثلث الأول من القرن الماضي (وأعني كلمة Science), مما يدل على أن ما قد سبق ذلك من علم لم يكن به كل المقومات التي تميز علم العصر الراهن, وإني لأذكر في هذا الصدد - وعلى شفتي ابتسامة إشفاق وأسف - أن أحد كتّابنا المرموقين قد وقع على هذه الحقيقة الغريبة في بعض ما قرأ - وكان ذلك منذ أعوام قلائل - فأسرع إلى صحيفته يكتب مفاخرا هذا العصر المتعجرف المغرور بتراثنا, فمنذ كذا قرنا من الزمان - هكذا قال الكاتب - وتراثنا مليء (بالعلم) اسما ومسمّى, وها هي ذي انجلترا لم تعرف (العلم) إلا منذ أقل من مائة وخمسين عاما. ولو تريّث كاتبنا لحظة ليراجع معنى الكلمة في الحالتين, لوجد الفرق بين المعنى الذي كان والمعنى الذي استحدث هو - كما قلت - كالفرق بين القطبين, فاللفظ واحد - في العربية - والمضمون مختلف.

ميزان العمل

وأعود إلى تراثنا العربي, وبين يدي لفظتا (علم) و(عمل) الدالتان على جانبين يميّزان العصر الحاضر وثقافته, فأجدني مع أبي حامد الغزالي في كتابه (ميزان العمل) وأقرأ, فإذا هو يبدأ فيضع الأساس الذي يريد أن يقيم عليه البناء, وهو أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل... ولو تعجّلت النتائج كما يتعجّل المتعجّلون, لقلت من فوري: الله أكبر! ماذا أبقى القرن الحادي عشر للقرن العشرين من علامات ومميزات? لكني تريّثت حتى أرى بأي المعاني استُخدمت كلمة (العلم) وكلمة (العمل)? ثم لا ألبث أن أجدني في مجال من القول لا يتصل أدنى صلة بما يراد اليوم حين يقال (علم) و(عمل), وحسبي أن ألخّص النتيجة التي انتهى إليها الغزالي من بحثه, وهي (أن العلم المقصود هو العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وملكوت السموات والأرض وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية, من حيث إنها مرتّبة بقدر الله, لا من حيث ذواتها - فالمقصود الأقصى العلم بالله) وأما العمل فمقصود به - أساسا - (مجاهدة القوى, حتى تزول الحوائل التي ربما أعاقت الإنسان عن العلم بالله).

تلك هي النتيجة, وذلك هو مجال القول, وإنها لنتيجة وصل إليها الغزالي بعد سلسلة من الحجاج على درجة عالية من الاستدلال المحكم المتين, ولكنها كذلك داخل مجالها من القول, إنها نتيجة تلزم لزوما قاطعا عن المقدمة التي وضعها الغزالي, إذ ذكر في حديثه أن السعادة التي يبحث لها عن علم وعمل يحققانها هي (السعادة الأخروية), وهي سعادة قد تقتضي من الساعي إليها ترك اللذات الدنيا واحتمال عنائها, (فإن المدة في احتمال التعب منحصرة... واللذات الدنيوية منصرمة منقضية, والعاقل يتيسر عليه ترك القليل نقدا, في طلب أضعافه نسيئة).

وما دامت هذه هي السعادة المقصودة, فما على المفكر أولا إلا أن يثبت الحياة (الأخروية) إثباتا عقليا يُفحم به منكريها, حتى إذا ما أيقن القارئ بصحة الفكرة, انطلق منها إلى ما يترتب عليها من علم وعمل يؤديان إليها, فكانت له النتيجة التي أسلفنا ذكرها.

لست أظنني بحاجة إلى التوكيد أن المقصود بهذه التفرقة بين طريقتين في استخدام لفظتي (علم) و(عمل) ليس هو أن نجعل إحدى الطريقتين أعلى من زميلتها, بل هي تفرقة لمجرّد التفرقة, كما أفرّق في دنيا المواصلات - مثلا - بين السيارة والطيارة, وكل ما يعنيني من هذه التفرقة هو ورود الألفاظ في سياقها الحديث, ثم ورودها هي نفسها في سياقها القديم. إلا إذا حللنا المراد بتلك الألفاظ فإذا هذا المراد واحد في الحالتين.

أين السعادة

فقد أتصور مفكرا معاصرا يقابل الغزالي في زمنه, ويتصدى لبحث مثل بحثه, ليدل معاصريه على (ميزان العمل) المؤدي إلى (السعادة). أقول إنني قد أتصور مفكرا معاصرا يبدأ بداية أخرى غير البداية التي بدأ بها الغزالي ورتّب عليها نتائجه. فأولا هو يتفق مع الغزالي في أن (السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل). لكنه يمضي ليقول إن السعادة التي يقصد إليها, هي سعادة الإنسان هاهنا على هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا, وإن هذه السعادة (الدنيوية) التي هي مقصد - لا السعادة (الأخروية) التي كانت هي كل شيء عند الغزالي - إنما تُنال بالعلم والعمل. ولكن أيّ علم وأيّ عمل? ربما وجد هذا المفكّر المعاصر أن العلم المقصود هو العلوم الطبيعية بمعناها الحديث من فيزياء وكيمياء وما إليهما, وأن العمل المقصود هو من قبيل ما يجري في المعامل من تجارب من شأنها أن تخلق لنا من الوسائل والأدوات والأطعمة والأشربة والثياب والمساكن والمواصلات ما لم يكن للعصور السابقة عهدٌ بمثلها.

وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد? كان الطريق إلى الجواب واضحا, وهو أن أستخدم الألفاظ - التي هي في الحقيقة دالّة على رءوس الموضوعات - استخداما يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون, لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة.

مطلب الحرية

وأنتقل إلى مثل آخر, هو فكرة (الحرية).

ولعلي في هذه المرة في غنى عن كثير من الشرح الذي اضطررت إلى ذكره في الفقرة السابقة, لأن التناول طريقته واحدة, فلا يكفي أن أجد على صفحات التراث كلمة (الحرية) مذكورة, لأصرخ في وجه القائلين إن (الحرية) مطلب يشغل عصرنا, ساخرا بهم, وزاعما أنهم يستيقظون الآن لما دعونا إليه نحن منذ كذا قرنا من الزمان! فقد تكون اللفظة واحدة ومضمونها مختلفا على ألسنة المعاصرين, عنه على ألسنة الأولين.

والحق أنه لو كان المقصود بالكلمة شيئا واحدا في الحالتين, لعجبنا بدورنا أشد العجب من هؤلاء المعاصرين الحمقى, الذين يجعلون من فكرة (الحرية) هذه مدارا لجزء كبير جدا من نشاطهم الفكري, سواء كان ذلك في مجال الفكر الفلسفي, أو في مجال الفكر السياسي والاجتماعي, وحسبك أن تعرف أن المطابع تخرج عشرات الكتب عاما بعد عام, ليس فيها إلا غوص في فكرة الحرية هذه, بمعناها عندما يوصف بها الفرد الواحد من الناس, ومعناها عندما يوصف بها المواطن - لا الفرد من حيث هو فرد - بل المواطن من حيث هو عضو في مجتمع واحد تحكمه دولة واحدة, ومعناها عندما ترد في ميدان المعاملات الاقتصادية, وهلم جرا, ولو قرأ قارئ كتابا واحدا لفيلسوف واحد من المعاصرين - وليكن مثلا من الفلاسفة الوجوديين, الذين عنوا أكثر من سواهم بفكرة الحرية - لأدرك عن يقين أن المشكلة ذات أبعاد وأطراف وأعماق لا يحلها أن يقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا? بل قد تجد بعد تحليل قليل أن الناس تلدهم أمهاتهم مكبّلين لا أحرارا, مكبّلين بجهاز نفسي خاص, فيه الغرائز والميول الموروثة والاستعدادات الفطرية, مما لا قبل للفرد أن يكون حرا بإزائها, أما أن يقع بصري على كلمة (حرية) في عبارة هنا أو هناك, ثم أسمع المتحدثين عن هذا العصر يقولون إن أزمة الحرية هي من أعقد الأزمات التي يعانيها المعاصرون, وإن الحرب الدائرة أرحاؤها - باردة وساخنة - إنما هي حرب على التحديد الذي تحدّد به فكرة (الحرية) ماذا يكون? أقول: أما أن يقع بصري على كلمة (حرية) في عبارة وردت في تراثنا, ثم أسمع هذا الحديث كله وأرى هذا الصراع كله في عصرنا حول (الحرية) وتحديدها وأبعادها, فأقول: صح نومكم يا هؤلاء! لقد حللنا العقدة منذ كذا قرنا من الزمان, فضرب من الخمول الفكري, لو كان ليطول معنا بقاؤه, فلا أظن أن الأمل قريب في نهوضنا نهوضا بالفعل لا بالكلام, وبالفكر الحي لا بالتثاؤب ونحن نيام.

وأعود إلى التراث, فأجد (الحرية) قد شغلت بالفعل فريقا من الفلاسفة والمفكرين, ولكن بأي معنى?

كان المعتزلة أهم من أثاروا البحث في حرية الإنسان, بحيث حرصوا على أن يجعلوا الإنسان قادرا خالقا لأفعاله, خيرها وشرها على السواء, ليكون مسئولا عما يفعل مسئولية تبرّر ثوابه أو عقابه يوم الحساب, قائلين إن العدل الإلهي يقتضي ذلك, ومرجع الإنسان في اختياره لأفعاله هو عقله.

فأنت ترى من ذلك أن المعنى الذي قصدوا إليه (بالحرية) هو حرية الإنسان في اختياره لأفعاله, وهي حرية تحدد علاقة الإنسان بربه, ولا شأن لها بالروابط التي تصل بين الإنسان والإنسان في هذه الدنيا, فهي لا تمسّ علاقة الناس بالحكومة, هل هم أحرار في إقامتها وفي عزلها, ولا تمسّ صور التبادل التجاري والاقتصادي, بل ليست هي بذات شأن في علاقة الوالد بولده ولا الزوج بزوجه, إلا من جهة أن الأفعال التي يختارها الإنسان بإرادته الحرة في كل هذه الميادين, تضعه موضع الحساب يوم الحساب.

وقد انشعبت المعتزلة فرقا كثيرة, وكان موضوع الإرادة الحرة في اختيار الفعل بين الموضوعات التي أدلت كل فرقة منها برأيها فيها: فالواصلية - وهم أتباع واصل بن عطاء - قالوا (بالقدر) ومعناه قدرة الإنسان على خلق أفعاله ليصبح مسئولا عنها, إذ لا يجوز في رأيهم أن يحتم الله على عباده شيئا ثم يجازيهم عليه.

وأما (النظامية) - وهم أتباع إبراهيم بن سيار النظّام - فقد زادوا على القول بقدرة الإنسان على اختياره لأفعاله, خيرها وشرّها, قولهم إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي, فليست هي مقدورة له, مخالفين بذلك الآخرين الذين قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها. وكان من إضافات النظام كذلك, أن حرية الإنسان في فعله محدودة بقدرته وأما ما جاوز قدرته فهو من فعل الله, مثال ذلك أن تلقي بحجر فتكون حركته نتيجة قدرتك, لكن إذا بلغت قوة الدفع غايتها, سقط الحجر بحكم طبيعته, أي بفعل الله لأنه هو الذي أنشأ في الحجر طبيعته.

وقصدت جماعة الجهمية لمعارضة المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في خلقه لأفعاله, إذ الإنسان عند الجهمية - نسبة إلى جهم بن صفوان - لا يقدر على شيء, ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على غرار ما يخلق في سائر الجمادات, فإذا نسبنا إلى الإنسان أفعاله, كان ذلك على سبيل المجاز, كما تنسب إلى الجمادات أفعالها, حين يقال - مثلا - أثمرت الشجرة, وجرى الماء, وتحرّك الحجر وطلعت الشمس وغربت, وأما الثواب والعقاب فهما جبر من الله.

وبين هذين الطرفين - المعتزلة والجهمية - جماعة وسط, هي جماعة الأشعرية - أصحاب أبي الحسن الأشعري - فقد فصلت بين الإرادة الإنسانية والفعل الذي يتبعها, فعندما يريد الإنسان فعلا معينا إرادة مخلصة يخلق الله له الفعل, وبهذا يكون الفعل مخلوقا لله, ولكنه مخلوق له عند إرادة الإنسان, لا بإرادة الإنسان.

حرية الحر

ذلك هو مجال القول عندهم في موضوع الحرية وما يحيط بها من قدرة وفعل ونتائج تترتب على الفعل, وهكذا, ولست أعرف مفكّرا عربيا واحدا تصدّى للبحث في الحرية الإنسانية بمعانيها التي هي موضوعات البحث اليوم, ولقد كان مألوفا أن يحدث التقابل بين (الحُرّ) و(العبد), فإذا وجدنا كلاما عن الإنسان الحُرّ, كان ذلك بالقياس إلى الرقيق, فهو حُرّ بمعنى أنه غير مملوك لأحد, وأما حرية هذا الحُرّ ما مداها في أوضاع الحياة الفكرية والعملية, فلا أظن أنها ظفرت بالنظر, ولذلك لا أذكر أن الحرية قرنت إلى (الفكر), ولا كانت حرية الفكر مشكلة تُثار, الذي أثير دائما, هو موضوع حرية (الفعل) على النحو الذي بيّناه, وقد يكون ذلك لأن مصدر التشريع - من حيث معيار السلوك - نزل وحيا أو ورد سنّة عن رسول الله, فكانت مهمة الفكر عندئذ هي تحليل النص, لا خلق الفكرة وابتكارها فيما يختص بالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عصرنا هذا الحديث, فلم تكن حرية الفكر ذات موضوع.

أفيجوز بعد هذا كله, أن يسمع سامع عن العصر الراهن أنه منشغل بفكرة الحرية الإنسانية وتحليلها وتحديدها, فيقفز من فوره غاضبا ليقول: هذه فكرة فرغنا نحن منها, ووضعنا لها أصولها وفروعها منذ كذا قرن من الزمان. إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته, وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا... نحن في ذلك أحرار, لكننا لا نملك الحرية في أن نوحّد بين الفكرين...

 

زكي نجيب محمود