(نار العودة).. للشاعر عبده وازن

  (نار العودة).. للشاعر عبده وازن
        

شاعرية التأمل ورثاء الحياة

          يواصل الشاعر اللبناني عبده وازن كتابة قصيدة التأمل والبوح والنبرة الخافتة. فهو منذ أشعاره الأولى لا يكف عن ربط القصيدة بعالم الداخل وإضاءة المناطق الأشد اتصالاً بنوازع النفس وهواجسها.

          الشعر عند عبده وازن لا يتغذى من الحدث السياسي المباشر, ولا من الأيديولوجيا والالتزام العقائدي, ولا يقع فريسة للحماس القومي والوطني العابر, بل هو ثمرة مكاشفة داخلية, وإصغاء تام إلى الأصوات التي تمور في قرارة الذات وقرارة العالم. والشاعر عنده ليس صناجة القوم أو مطربهم أو داعيتهم السياسي, بل هو الحادس والرائي الذي يستكشف الطريق ويتنكب الصعاب ويسبر الأعماق.

          عبده وازن هو أحد شعراء الجيل الثالث من كتّاب قصيدة النثر التي أسس لها محمد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج في بداية الستينيات, واستطاعت عبر أربعة عقود من الزمن أن ترسخ حضورها بشكل مطرد, وأن تتحول رغم ما يحيط بها من لبس وإشكاليات, إلى خيار أسلوبي نهائي وأثير لعشرات الشعراء العرب المعاصرين. والذي يتتبع بدقة وتفحّص تجربة وازن الشعرية, يستوقفه دون شك سعي الشاعر الدءوب إلى اجتراح قصيدته الخاصة القائمة على المواءمة بين الترسّل الوجداني والانهمام بجمالية الشكل وسلاسة اللغة وأناقة التعبير. وقد ساعدته على تحقيق تلك المواءمة ثقافة متنوعة ومتعددة المصادر والينابيع. فقصيدته تستلهم جمالية ما عرف بالمدرسة اللبنانية في الشعر والنثر والتي تقوم على الرشاقة والهندسة وقوة البيان, كما في نصوص سعيد عقل والأخطل الصغير وصلاح لبكي وأمين نخلة وغيرهم. كما تستلهم تجربة أنسي الحاج المؤثرة في غرابتها وقوة عصبها العاطفي, إضافة إلى الإبداع اللبناني المكتوب بالفرنسية من مثل جورج شحادة وناديا تويني وآخرين. كما لا يمكن في هذا السياق إغفال الأثر البالغ للنصوص العربية الصوفية التي لا يغرق الشاعر في تمثّلها أو محاكاتها, بل يكتفي بالإفادة من ظلالها التأملية وزخمها الروحي, أو إغفال الأثر الآخر للشعر الأجنبي, وبخاصة الألماني, المتمثل بريلكه ونوفاليس,. ذلك أن شعر عبده وازن يبدو لمن يتأمله وكأنه ينهض فوق أرض مشبّعة بالحدوس والإشراقات وحنين الروح إلى مساقطها الأولى.

صفاء الأسلوب

          مجموعة عبده وازن الأخيرة (نار العودة) لا تبتعد كثيرًا عن أعماله التي سبقت, سواء من حيث صفائها الأسلوبي أو من حيث احتفائها بالمعنى الموزع بدوره بين نار الرغبات وبتوليّةٍ مضادة قوامها التطّهر والصدق وإعلاء الروح. أول ما نلمسه في المجموعة المذكورة هو كثرة الإهداءات التي حوّلت العمل برمته إلى احتفاء متكرر بالصداقة والأصدقاء أو بالشعراء والشعر. فمن أنسي الحاج وأدونيس وريلكه وحافظ الشيرازي, إلى عباس بيضون وعقل العويط وبول شاوول ونزيه أبو عفش, ثمة بحث عن المشترك الإنساني والإبداعي الذي يربط الشاعر بكل واحد من هؤلاء. كل قصيدة من القصائد المهداة تمتد كالقوس بين طرفي المعادلة, وتتحول إلى تحية أو مناجاة أو عرفان بفضل, مما يجعل الكتابة تصاديًا مع الآخرين, وتواصلاً مع إبداعاتهم المثخنة بالمكابدات. واللافت في هذا الإطار هو تعدد النتاجات الإبداعية المكرّسة للأصدقاء وتمجيد الصداقات. يكفي أن نشير, على سبيل المثال لا الحصر, إلى ديوان الشاعر د.عبدالعزيز المقالح (كتاب الأصدقاء) وديوان الشاعر إلياس لحود (نشيد الأرجوان). وقيمة هذه الأعمال لا تتجسّد في جانبها الفني المميز وحسب, بل فيما تختزنه من نبل إنساني وعاطفة صادقة وتجاوز للأنا الفردية المغلقة.

          يصدر الشعر عند عبده وازن, كما يتضح من مجموعته الأخيرة, عن مكان متصل بشغاف القلب ووجع الحياة ورهافة الأحاسيس. لذلك نستطيع - دون تعسّف - أن ننسب هذا الشعر إلى مرجعية غنائية واضحة المعالم على أنها ليست الغنائية المألوفة والمستهلكة التي تجيء من الإنشاء الرخو أو التفجّع العاطفي الانفعالي, بل التي تحقن اللغة بأمصال العذوبة والشجن وتهذيبها من لواحق الخشونة وبلادة الفكر لتبدو مترعة بالأخيلة ومغسولة بمياه الحسرات. وككل الذين يجذفون ضد الزمن يحول عبده وازن قصيدته إلى التفاتة حنون نحو بدايات العمر ومطالع الصبا. إنه وهو في النصف الأول من أربعينياته لا يكف عن استدعاء ذلك العالم الذي يتلاشى من بين أصابعه, وعن تلمّسه بأصابع الحنين وجر الذكريات الوردية, كما في قصيدة (أزل) التي يهديها لأنسي الحاج: (عندما كانت السماء قريبة/كنا نلمسها بأيدينا/نقطف نجمة ونركض وراء غيمة الصباح/وإذا أطلنا التحديق/تمسي عيوننا زرقًا/ووجوهنا يحلُّ عليها ندى المجهول).

رثاء مؤلم

          ثمة في المجهول رثاء مفعم بالألم لكل أشياء الحياة التي تبددت. رثاء للذات وللسعادة المفقودة والصبا الغارب الذي لم تبق منه سوى ذبالاته الأخيرة. ومَن يتصفّح عناوين القصائد من مثل (عدم) و(ظل) و(غيم التلاشي) و(رقصة الموت) و(ثلج الندم) و(سماء مقفرة) وغيرها, يتأكد له نزوع الشاعر الحثيث إلى تأبين ما تصرم من لذاذات العيش عبر تعويذة اللغة ورقيتها الشافية, حيث (لم يبق لنا إلا صدى تردده بئر ماضينا). وحيث لم يكن وجهًا ما أبصره الشاعر في المرآة, بل ذكرى لوجه آخر. فالإحساس بالزوال وفوات الأوان هو ما يجثم فوق صدر الشاعر وصدر الكتابة, ومعهما إحساس آخر بالنقصان.

          ففي عالم قاس وغير عادل, لا يمكن للسعادة أن تصل إلى ذراها النهائية وللمصائر أن تصل إلى آمالها المرجوّة, بل ثمة مَن يتدخل بشكل مباغت ليقصف الرغبة في أوجها والحلم في منتصفه. وفي مرثيته لصديقه الراحل سمير كامل يؤكد عبده وازن نقصان الحياة من خلال الأغنيات التي لم يكمل الكاتب الراحل سماعها والصلوات التي لم يكمل أداءها, والنصوص التي لم يفرغ من كتابتها لحظة مجيء الموت. وفي قصيدة أخرى شبيهة بالمرثية يتحول المفرد الغائب إلى جماعةٍ مسكونة بالغياب. جماعة لا يفصح الشاعر عن هويتها, ولكن السياق نفسه يجعلها تنطبق على الشعراء والكتاب, كما على جميع الباحثين عن المعنى في صحراء الحياة القاحلة: (لا سياج يرسم أمامهم تخوم الليل/كانوا كالتائهين يبحثون عن كسرة ضوء/عيونهم تطفح بالزيت لكنهم ما كانوا يبكون/كانوا صامتين صمت الموتى في مدافن الضوء/أنفاسهم كأنها رجع تلك الجروح التي ترقد في الداخل/كانوا يقفون كالبائسين الذين لا مدينة لهم/لم يكن يصلهم صوت ولم تكن ترمقهم عين).

من الهمس إلى الإنشاد

          في قصيدته (شجرة الفصول الخمسة) يخرج عبده وازن بأسلوبه من الهمس الخافت إلى النشيد المتعدد الفصول والجامح في سياقه التصاعدي.

          فوازن, منطلقًا من قول رينيه شار (الثمرة عمياء, إنها الشجرة التي تبصر), يصعّد نشيده في فضاء سحري أسطوري ويجعل من الشجرة رمزًا لوحدة الحياة وقوة انبثاقها ولتجلياتها المتعددة في الكون كما في الروح. الأسلوب هنا يعنف ويشتد من خلال نداء (أيتها الشجرة). الذي يصبح مفتاحًا متكررًا للمقاطع الشعرية بما يذكر بنداء الحرية في قصيدتي بول إيلوار الفرنسي وجبران خليل جبران اللبناني, دون أن يفتقد الشاعر صوته الخاص ونكهة شعره المميزة. فشجرة عبده وازن لا تنحصر بالحرية وحدها, بل تنفتح على المطلق الشعري والأنثوي والإنساني. إنها المرأة كما الأبجدية, الحياة كما الموت والشهوة كما الحكمة.

          تشكّل الطبيعة ظهيرًا حقيقيًا للغة والصورة عند عبده وازن. فقصيدته وإن اتخذت طابعًا مدينيًا من حيث الصقل والاختبار والرؤية المعاصرة, فإنها تستند إلى طبيعة ريفية غنية بالمرئيات ومترعة بالأشجار والورد والجبال والحقول والبحار وظواهر الطبيعة الأخرى, حيث (الخوف يقطر كالرحيق) و(الدمعة حلوة كرعشة الينبوع) و(الروح حادة كالصمغ). وإذا كانت هذه الميزة واضحة في سائر موضوعات العمل الأخير وعناوينه, فإن تجلياتها تبرز بشكل واضح في قصائد الحب حيث المرأة والطبيعة انعكاسان لجوهر واحد وللغز جمالي واحد, وهو ما نلمحه في قصيدة (ثلج الندم) حيث (يداها تمحوان ضباب العين/تزرعان زنبقة في منتهى الحيرة/عيناها بيضاوان كثلج الندم/على صفحتهما يشرق قمر عزلتها/طيفها الذي يتردد يومًا/لا يترك إلا نثرات من أريج/الغيمة التي تعلوه/هي الدمعة التي تخبئها منذ زمن بعيد). فالمرأة هنا ليست امتدادًا للطبيعة فحسب, بل هي طبيعة ثانية تضج بالتضاريس والمرئيات وكل ما يثخن الحواس بالأصوات والألوان والروائح. وما قصيدته الأخرى (زهرة بوجه فتاة) إلا تأكيد على التماهي الكامل بين وجوه المرأة ووجوه الطبيعة, وعلى ما يجعلهما في العمق انعكاسًا لفتنة الوجود وألمه وغموضه.

بعيدًا عن النثر

          ينبغي الإشارة أخيرًا إلى الجهود المضنية التي يبذلها عبده وازن لمنع قصيدته من الوقوع في النثرية, وللاستعاضة عن الوزن والقافية التقليديين بأشكال إيقاعية أخرى قوامها التكرار والتناظر والتقطيع الصوتي والمساواة بين الجمل واستعادة المفاتيح التعبيرية بما يوفر لقصيدته الكثير من عناصر الإيقاع والتواتر النغمي. وخلافًا للكثيرين من المقتحمين تعسّفًا وافتئاتًا ميدان قصيدة النثر وساحاتها السائبة يبدو الشاعر متمكّنًا من أدواته التعبيرية ومسكونًا بالصور الجديدة والمليئة بالمفارقات.

          كما أن الجهد المضني الذي يبذله في عملية التأليف والحذف والصياغة المتقنة يقابله جهد مواز لإظهار العفوية ومحو التأليف بما يكفل للقصيدة الوضوح والتلقائية والانسياب الغنائي.

 

شوقي بزيع   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات