الرواية والمدينة

الرواية والمدينة
        

          تشتبك الرواية بالمدينة اشتباك وصف, واشتباك رؤية, واشتباك جدل. وحين تغادرها تكون قد تخلقت بصفتها عملا إبداعيا, تأخذ مادتها الخام من مدينتها, ولكنها تستقل عنها, فتنهض كيانا جديدا محكوما بشروط النوع الفني, وإن بدا في القشرة الخارجية, والملامح الظاهرية, موسوما بالسمات ذاتها التي تحملها المدينة الخارجية. فكيف ينشأ هذا الالتباس?

          ينشأ عن هذا الالتباس في الملامح الظاهرة أسئلة تقلق الناقد, وينبغي أن يأخذ في محاولة توفير إجابات لها فورًا.

          فهل ما نراه من ملامح القاهرة القديمة, في روايات محفوظ مثلا, ملامح حقيقية أو ملامح روائية? وما الفرق بينهما? هذه الأزقة, والحارات, والشوارع, والأسبلة, والمشربيات, والوكالات, والمقاهي, المبثوثة في الروايات - أتطابق كل المطابقة الصورة التي ترد إلينا لها عن طريق الحواس, أو التي نحصلها بشأنها من مصادر أخرى غير روائية? وقد يبدو الحال واضحا بين معالم ومعالم, فالأولى فنية والأخرى مادية, لكن اختلاط النوعين في كثير من الأذهان يحتم فحص الموضوع على نحو أدق, وبخاصة أن هذا الخلط ترتب عليه خلط آخر بين حياة الكاتب وملابساتها المادية, وحياة شخصياته الروائية, ففسرت آراؤه وأفكاره السياسية والاجتماعية بل و(الدينية) على ضوء ما ورد في إبداعه الروائي. وهذا الخلط الأخير خطير جدا, وبخاصة في مجتمع الأميين, فهو الذي دفع شابًا - قال إنه لم يقرأ محفوظ أصلا! إلى طعنه في رقبته لأنه - بزعمه - يروّج لأمور ضد الدين! على أنني لا أعفي في هذا النقاد ولا المبدعين, فالنقاد ركزوا على حياة المبدعين عوض التركيز على تقاليد النوع ووسائل التشكيل, وأساليب البناء, وما إلى ذلك من الأمور الموضوعية, والمبدعون انزلقوا إلى ادعاء القدرة على تفسير أعمالهم عوض أن يقولوا كلمتهم الإبداعية ويمضوا, فأصبحت آراؤهم أكثر مصداقية من آراء النقاد ذاتهم. وهذا كله من أسباب وهن الوعي الأدبي, واضمحلال الحركة النقدية. وكم رأيت أنا نفسي من قارئ - بل من باحث - لا يعوّل على ما يقوله النص, ويعوّل على ثرثرة صاحبه على المقاهي!

          أعود إلى موضوع العلاقة بين المادة (الخام) للمدينة, المتمثلة في الحارة والشارع والمقهى, والمادة (المصنعة) المتمثلة في رواية من روايات المدن, باعتبار أن فحص العلاقة بينهما طريق مشروع لتحديد العلاقة بين (الواقع المادي), و(الواقع الروائي), وما يمكن أن يحدثه ذلك من تصحيح لمفهوم كل منهما, ومن ثم التوصل إلى صيغة أكثر نضجا لمعنى الإبداع الروائي تجعل منه (خلقا) جديدا قادرا على إعادة صياغة الحياة الواقعية, بدلا من الاقتصار على وصفها أو تصويرها كما نراه الآن في الأغلب الأعم من الروايات.

زقاق المدق

          في الصفحات الافتتاحية من رواية (زقاق المدق) - وهي في التقسيم التقليدي لإنتاج محفوظ رواية من روايات المدن - نطالع وصفا للمكان, والزمان, وحركة الحياة, والبشر, وكل ما يمكن التفكير فيه من مفردات الحياة الواقعية المتصلة بالمدينة, والنصوص التالية - على تنوعها - معروضة في حيّز ضيّق جدا من الصفحات:

          1 - (طريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى (الصنادقية), تلك العطفة التاريخية, وقهوته المعروفة بقهوة (كرشة) تزدان جدرانها بتهاويل (الأرابيسك) - هذا إلى قدم باد, وتهدم وتخلخل, وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد).

          2 - (أذنت الشمس بالمغيب, والتف (زقاق المدق) في غلالة سمراء من شفق الغروب, زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة: له باب على (الصنادقية), ثم يصعد صعودا في غير انتظام, يحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن, ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالة ثم ينتهي كما انتهى مجده الغابر - ببيتين متلاصقين, ويتكون كلاهما من طوابق ثلاثة).

          3 - (مضت حياة النهار وسرى دبيب حياة المساء, همسة هنا, وهمهمة هناك: يا رب يا معين, يا رزّاق يا كريم. حسن الختام يا رب كل شيء بأمره. مساء الخير يا جماعة. تفضلوا جاء وقت السمر. اصح يا عم كامل وأغلق الدكان. غيّر ياسنقر ماء الجوزة. أطفئ الفرن يا جعدة).

          4 - (هو كتلة بشرية جسمية, ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين, ذو بطن كالبرميل, وصدر يكاد يتكور ثدياه, ولا ترى له رقبة, فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم, أخفى انتفاخه معالم قسماته, فلا تكاد ترى في صفحته قسمات أو خطوطا, ولا أنفا ولا عينين, وقمة ذلك كله رأس أصلع صغير لا يمتاز عن لون بشرته البيضاء المحمرة).

          على هذا النحو تشتبك الرواية بالمدينة, التي رمزها الزقاق, منذ بداية (تخلقها), وذلك من أربعة أوجه: مكاني (يصوره النص: 1), وزماني/ مكاني (يصوره النص: 2) و(زماني إنساني) (تصوره الصورة الصوتية في النص:3), و(إنساني) (وصف الهيئة الجسدية لعم كامل في النص:4). والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو: كم من مفردات هذه النصوص يبقينا ملتصقين بالزقاق بمعناه الحرفي, وكم منها يعمل ضد هذا الالتصاق ليخلخل صلتنا المادية به, ويزحزحنا بعيدا عنه? لكي نجيب عن هذا السؤال لابد من العودة إلى هذه النصوص واحدا واحدا, وتفحصها في ذاتها من هذه الزاوية, وسنرى - في الجملة - أن ملامح الزقاق المادي قد اختزلت اختزالا في حين نسجت له بطريقة مجازية صورة خيالية من شأنها أن تجعل (صورة) زقاق جديد تأخذ طريقها إلى وجداننا. وعلى هذا تختفي معالم قديمة, وتحل محلها معالم جديدة. وقد تشبه المعالم الجديدة المعالم القديمة في ظاهرها, ولكنها - عند التحقيق - ليست هي هي. إن المعالم القديمة الغاربة - إذا دققنا القراءة - هي المنتمية إلى عالم الأحجار, والحيطان, والأخشاب, والآدميين, والمعالم الجديدة الوافدة هي المنتمية إلى عالم القيم الفنية من غزل, ونسج, وبناء, وتشكيل. والنتيجة الماثلة لأعيننا أن ثمة نوعا من الإحلال يسري بالتدريج, وعلى مرأى منا, يحل فيه (الزقاق الفني) محل (الزقاق المادي), وهذا الزقاق الجديد سداه ولحمته اللغة التعبيرية, البلاغية المجازية, الرمزية, التي تضرب بجذورها في صميم تقاليد النوع الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل وهو (الرواية).

عبق التاريخ

          لقد عولجت الحجارة المبلطة لأرضية الزقاق في النص الأول بمادة جديدة هي عبق التاريخ, و(تهاويل الأرابيسك), وساعدتهما المثيرات النافذة المنتمية إلى حاسة الشم, فصهرت الحجارة, متحولة من المادي إلى المعنوي. وحوصر (الدكان) و(الفرن), و(الوكالة), و(البيتان المتلاصقان) في النص الثاني, بصورة شعرية (غلفتها الغلالة السمراء) المنسوجة من خيوط المغيب, فسحبتها إلى عالم (الغموض المبين). وجاءت الصورة الصوتية المتداخلة, في النص الثالث لتخلق جوا من الموسيقى التي تختفي فيها الدلالة وراء الإيقاع. أما تلك الصورة الكاريكاتورية لجسد (عم كامل) في النص الرابع فقد خلقت (معادلا قوليا) نموذجا للموضوع, يضرب في عالم الصورة والرمز, ويعز الحصول عليه في عالم الواقع المادي.

          هكذا نرى كيف يلتحم النص الروائي بالمدينة التحاما (حميما) في البداية, ولكنه لا يلبث أن يغادرها إلى عالمه الخاص على نحو (حاسم). وكلا الأمرين مفهوم, وذلك لأن الرواية إذا لم تبدأ من واقع مادي فإنها لن تجد مادة تشكل منها, ولكنها إذا بقيت ملتصقة به أخفقت بمقدار درجة وفترة هذا الالتصاق. ولعل نهاية رواية (زقاق المدق) ذاتها تعضد هذا القول, فبعد الرحلة الشاقة الطويلة المشبّعة بالدلالات والرؤى, والمشاعر, والمواقف, وأساليب التعبير, وغنى الإشارات, ينتهي العمل في جو أبعد ما يكون عن عالم المادة.

          (ويوما رأى الشيخ درويش عم كامل وهو يمازح الحلاق فهتف وهو يرفع رأسه إلى سقف القهوة:

وما سمّي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه متقلب


          فتجهم وجه عم كامل وانطفأ لونه, واغرورقت عيناه, ولكن الشيخ درويش هز منكبيه استهانة, وقال وعيناه لا تزالان شاخصتين إلى السقف:

من مات عشقا فليمت كمدا لا خير في عشق بلا موت


          ثم وحوح متنهدا واستدرك قائلا:

          - يا ست الستات.. يا قاضية الحاجات.. الرحمة.. الرحمة يا آل البيت, والله لأصبرن ما حييت, أليس لكل شيء نهاية.. ومعناه بالإنجليزية END وتهجيتها E/N/D).

          وإذا كان هذا هو حال العلاقة بين الرواية والمدينة في عمل من أبرز أعمال المرحلة الواقعية عند محفوظ, فإن حالها في روايات تنتمي إلى مراحل غير واقعية أكثر دلالة على طبيعة العلاقة بين المدينة والرواية, وذلك على النحو الذي حاولت توضيحه فيما سلف. نحن نعلم أن مسرح الأحداث في رواية (اللص والكلاب) مثلا هو مدينة القاهرة (وهل هذا يحتاج إلى إثبات?), ولكن لنسأل قراءها بصراحة: أين هي مدينة (القاهرة) في الرواية? هل هي هذه اللمحات المتناثرة: سجن القلعة, وشارع محمد علي, وسكة الإمام, وصحراء العباسية, وما أشبه? وما القيمة التي تمثلها قمة جبل الثلج الهشة هذه إذا قيست بالعمق البعيد للمخيلة الخالقة عند سعيد مهران, أو وعيه المتدفق الذي ينصهر فيه الحاضر والمستقبل مع الماضي في بوتقة واحدة, فتكون النتيجة ذلك الكيان الواحد الحي المتماسك المتآزر الذي هو الرواية)? أما (الإسكندرية) فقد اختزلت في (السمان والخريف) إلى الحد الذي طغت عليها فيه مفردة واحدة, من مفرداتها هي تمثال سعد زغلول في المشهد الختامي المعروف لها, وزادت على ذلك (فتبخرت) في (ميرامار) إلى الحد الذي أصبحت فيه: (.. قطر الندى, نفثة السحاب البيضاء, مهبط الشعاع المغسول بماء السماء, وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع).

رواية المدن

          ونحن لا نخجل - في هذا الصدد - من أن نمد أعيننا إلى تراث الآخرين, أو نتردد في ذلك, وسنرى أن المدينة (دبلن) التي هي مسرح أحداث (إن كان ثمة أحداث!) رواية جيمس جويس (يوليسيس) - مثلا - لم نظفر في جانبها المادي بعناية تذكر إلى جانب العالم الرمزي الداخلي الزاخر الساخر العميق الذي كانت به الرواية (هل أقول?) رواية القرن العشرين. وقد نعترض على ذلك بأن رواية جويس في الأساس ليست من روايات المدن, ولكن هذا الاعتراض يمثل بالضبط جوهر ما أجادل فيه: هل يوجد حقا ما يمكن تسميته (روايات مدن)? وإذن فما حدها وما ملامحها? وما المميزات الفارقة بينها وبين غيرها? وما الأمثلة التي تضربها لها فلا نجد خلافا عليها? هل نقرأ (الكتاب من عنوانه) - مثلا - فنشير إلى (قصة مدينتين) لديكنز? إننا إذا فعلنا ذلك نكون قد أخطأنا الطريق, وأنه كان يحق علينا أن نقرأ الكتاب قبل أن نقرأ عنوانه. وسنجد أن الكتاب خلق روائي سداه ولحمته الثورة والحرية وقد صهرتا في صورة روائية.

          ومع ذلك كله, تبقى كلمة إنصاف واجبة في أمر (الرواية والمدينة) لدينا ولدى الآخرين, فالمدينة في الغرب - مثلا - متنوعة النسيج, متنوعة الأبعاد, متنوعة الدلالات والرموز, فثمة المدن ذات الطابع (العالمي) مثل باريس ولندن, ونيويورك, وثمة المدن ذات الطابع (العنصري) مثل جوهانسبرج وشيكاغو, وثمة المدن ذات الطابع (الصناعي) مثل نيوكاسل وشيفلد, وثمة المدن ذات الطابع (الجامعي) مثل أكسفورد وكمبردج, هنا تتشكل الرواية, إذ تلتحم بالمدينة, على نحو يأخذ فيه التاريخ والجغرافيا والقيم المختلفة دلالات رمزية كاشفة, تتفاعل على نحو حيوي متوازن مع عناصر الخلق الفني الأخرى, فتجيء النتيجة في شكل ذلك الإبداع الأدبي المتدفق بالمئات الذي يسمى هناك - خطأ أو صوابا لا يهم!- بروايات المدن, وعلى قدر خبرتي بهذا النوع من الإبداع الروائي أقول إن القليل منه جيد, والكثير منه مما يزجى به الفراغ, حتى وإن حقق انتشارا ورواجا, ودخل فيما يسمى (أكثر المبيعات) best seller.

          أما الرواية العربية التي يمكن أن يطلق عليها تجوزا - روايات مدن - فتحصر نفسها في التعامل مع المدينة من ناحيتين اثنتين في الأغلب الأعم, الناحية التاريخية, والناحية الاجتماعية, وهي في الناحيتين تواجه مأزقا لا ذنب للمدينة فيه, وإنما الذنب ذنب الرواية, ذلك لأنها لم تستطع أن تفلت من أسر المدينة المادية, وتخلق لنفسها عالما إبداعيا جديدا. إنها تلتصق بالمدينة التاريخية التصاقا يوقعها في أسرها فتتجمد معها, وتلتصق بالمدينة الحديثة التصاقا يوقعها في أسرها فتصبح (عشوائية) مثلها, وغني عن القول أنني أتحدث في حدود خبرتي, وأتحدث عن الأغلب الأعم لا عن الأقل أو النادر. وأكون سعيدا - بالطبع - إذا لفت نظري إلى مادة جديدة تنقض ما أقول, أو استخدمت رؤية نقدية جديدة تكشف - فيما يتصل بالمادة التي أعرفها - عن نتائج تنقض ما أقول.

          وسأبقى عند رفضي لمصطلح (الرواية والمدينة) حتى يحدث ما يقنعني بالتخلي عن هذا الرفض. ذلك لأنني أرى أن هذا المصطلح ناتج عن احتفال غير مبرر نقديا بالمضمون. وهو عندي ليس مبررا فحسب, بل هو ضار جدا, لأنه يشجع على انتاج نوع من الكتابة يحمل عناوين (روائية), في حين أنه أقرب إلى (التقارير الاجتماعية) منه إلى الإبداع الروائي. والخلل حاصل لأن النقد لم يعد يحفل بتقاليد القالب, وحدود النوع, وشاعرية الروح المبدعة, ومغامرات اللغة الخلاقة, وأدوات التشكيل التي هي أسلحة كل مشكل, ومبلغ الاهتمام بهذا كله أن يجود عليك بعض النقاد - أقول بعض النقاد ممن لهم أثر في القراء في الحياة العامة, في ذيل الكلام, فيقول: (إن اللغة مهمة)! أو أنها (وسيلة من الوسائل)! أما الطرفة الحقيقية فقد قرأتها بعيني على لسان (شاعر) من شعراء قصيدة النثر, عيب عليه الأخطاء المترددة في لغته فقال غاضبا (وهو المبدع - وقد نشر له هذا الكلام!): (وهل كفرنا حين أخطأنا في اللغة?) ولم أقرأ ردّا عليه لأحد ممن كان يحاوره في ندوة تتخذ لها منبرًا عاليًا من منابر الإبداع في بلدنا, فقلت لنفسي (أنا القارئ المتوحّد الصامت): إذا لم يكن الخطأ المتكرر في اللغة من مبدع في هذه اللغة كفرًا (أدبيًا) فماذا عسى الكفر (الأدبي) أن يكون?!

          على أننا قد نتبع الهاجس الأول, ونريح أنفسنا, ونقول - مثلا - إن (القاهرة الجديدة), و(خان الخليلي), و(بداية ونهاية), و(بين القصرين) و(قصر الشوق), و(السكرية) من روايات المدن, معتمدين في ذلك على أن أحداثها تجري في المدينة. بل إننا قد نسترسل مع هذا, فنسمي بعض روايات الكوني (روايات صحراء) (ولست متيقنا من أن هذا لم يحدث بالفعل!), وفي هذه الحال نكون قد دخلنا في محظورين لا محظور واحد, هما فصل ما لا يمكن فصله (أعني المضمون عن الشكل), ثم إعلاء شأن أحدهما على الآخر, وذلك حين خصصنا المضمون دون الشكل (بشرف التسمية), وأحذر من أن هذا سيضعنا في مأزق بل مآزق! فهل نسمي (زينب) لهيكل (رواية ريف)? وإذا فعلنا ذلك فهل تدخل هي و(الأرض) للشرقاوي تحت التسمية ذاتها? وماذا عن بعض أعمال يوسف إدريس? ثم ماذا عن رواية (العجوز والبحر) لهمنجواي? وهل نسمّيها - مثلا - (رواية الماء)?

منهج الشاعرية والرواية

          وفي يقيني أن السبب في كل هذه المخاطر الحاصلة, والمحتملة, والمتوقعة, غياب منهج معتمد في تحليل الرواية يكتسب مصداقية من النص الذي نسلم جميعا بأنه مرتكزنا الأصلي, ومع ذلك لا نبذل الجهد الواجب في خدمته. إن عنصر الشاعرية الذي رأيناه يعمل في تحليل مادة (زقاق المدق) في النصوص السالفة هو العنصر الفعّال في إذابة العوائق بين الواقع والفن, ومن ثم تحويل المدينة إلى عالم جديد هو الرواية. إنه هو الذي يمكّننا من تجاوز عالم الأشياء إلى ما وراءه من عالم القيم والرموز. وذلك عن طريق الاستخدام المؤثر لطراوة اللغة, ومغامرة الروح الإنسانية الحرة, ودفعة الحياة الطبيعية في سبيل الإفلات مما هو كائن إلى روعة ما يمكن أن يكون. والتاريخ مفيد, ولكنه وراءنا, والحاضر مهم, ولكنه متناثر, والمستقبل مجهول ولا يمكن اقتناصه إلا بالخيال الخلاق, والخيال الخلاق هو الذي ينفخ الحياة في الماضي, ويلملم شذرات الحاضر المتناثر, ويجعل المستقبل حقيقة الغد.

          وعلينا أن نتبصّر في أمر (الهوية الروائية العربية), وسنجد أنها - على عكس السلع الاستهلاكية - غير قابلة للاستيراد, وليست كل فسيلة صالحة للاستنبات في التربة المحلية. وقد تكون الصدمة الصادرة عن جهاز خارجي صدمة منبهة, ولكنها لابد أن تقابل برد فعل ملائم من الدخل, وذلك لكي تتحقق (صرخة الحياة), أما (الانفعال) (لا الفعل!),  و(الاستقبال) (لا الإرسال), و(الشحن), و(الحقن) القسريان فأمور لا تجدي في الإحياء الثقافي.

          وبما أن ألوان نشاطنا كلها - وبطبيعة الحال - لابد أن تكون هادفة, فما الذي نستهدفه من نتائج أفضل في الحياة عندما نقول: (الرواية والمدينة)? أنريد أن نصل عن طريق الحديث عن (المدينة) إلى (رواية) أفضل? أو نريد أن نصل عن طريق الحديث عن (الرواية) إلى (مدينة) أفضل? أو نريد حياة أفضل لأنفسنا في الجانبين? من الطبيعي, ومن المشروع, أن نريد لأنفسنا حياة أفضل في جميع النواحي, ولكن التوصل إلى ذلك يكون بتوفية الأمور حقها, لا بخلط (الأوراق), ولا بترتيبها ترتيبًا تعسفيًا.

          هل نريد أن نصل إلى وضع أفضل للمدينة? علينا إذن أن نقوم بحق ذلك خير قيام, فلا نترك المدينة نهبًا للإهمال والفوضى, وطفح (المجاري), وتهالك المرافق, والعشوائيات, وغيبة الجمال. أو نريد أن نصل إلى وضع أفضل للرواية? علينا إذن أن نقوم بحق ذلك خير قيام, فلا نترك الرواية نهبا للثرثرة المسترخية, وأحاديث النميمة, والصدمات الفجة, والتهافت اللغوي, والصلف والادعاء, والخلط المبتذل بين ما هو اجتماعي وما هو ابتكاري, وما هو من حقائق حياة المؤلف, وما هو من حقائق إبداع موهبته.

          أريد أن أخلص إلى أن (التجويد) الفني في عالم الفن - ومنه عالم الرواية - هو الأصل, وذلك لا يحتاج إلى عكاكيز مساعدة من أي نوع, سواء سمّيت هذه العكاكيز (مدينة) أم (ريفا) أم غيرهما, وعلى ذلك يحسن أن نقول (الرواية), وكفى! وهب أن الرواية ضعيفة النسج جعلت موضوعها المدينة في حين جعلت رواية أخرى قوية النسج موضوعها (واق الواق), أيعني هذا أن الأولى أهم من الثانية? إذا كانت الإجابة بالإيجاب فإننا نسأل: ما مناط التفضيل إذن? وهل هي دعوة إلى ثنائية تجاوزها الموقف النقدي من الفصل بين المضمون والأسلوب, وتفضيل المضمون على الأسلوب? وإذا لم يكن الأمر كذلك فما مغزى هذه (الانتقائية) وما جدواها? ولمصلحة ماذا يدفع بالاهتمام في اتجاه دون آخر?

أين المدينة?

          وكنت قد انتويت في خطتي الأصلية وأنا أعد هذا الكلام أن أختم الموضوع بتحليل روايتين عربيتين صدرتا حديثا, مما يمكن أن يطلق عليه (روايات مدن), ولكن شاء سوء حظي - أو حسنه لا أدري! أن أتلقى تحذيرا غير مباشر من كاتب مسلسلات تلفزيونية شاهدته بالصدفة يقول في التلفزيون, (أو تراني قرأت له في بعض الصحف!) وقد ووجه ببعض الانتقادات الموجهة إلى مسلسل له: (إن الذي يمد يده على عملي اقطعها له)! ولما كان رأيي في هاتين الروايتين سلبيا, ولما كنت أدرك أن العدوانية ليست وقفا على كاتب هذه المسلسلات التلفزيونية, وإنما هي مزاج جيل بأكمله من (مبدعي) هذا الزمان, ولما كنت لا أريد - ولا أحتمل - أن يوجه إلي تهديد بقطع يدي - دعك من أنها ستقطع لي بالفعل - فقد غيّرت خطتي, واكتفيت هنا بإجمال الحديث عنهما - مجهلتي العنوان والمؤلف, على نحو مختصر, ولكنه كاف فيما أرى لدعم وجهة نظري, التي أجاهد لتوضيحها من خلال الصفحات السابقة.

          شغلت الأوساط الأدبية في العام الماضي برواية تجري أحداثها وسط مدينة القاهرة, وتسابق الناس لقراءتها, واتسع الحديث عنها, وقد وجدت نفسي فجأة محاصرا برغبة بعض تلاميذي من شباب المتأدبين الذين ألحّوا علي في وجوب الاطلاع عليها. وقد زعم لي بعضهم - وكان ذلك لإغرائي بقراءتها - أنها ستغير من رأيي السلبي في معظم إبداع هذه الأيام, ولما قرأتها لم أستطع العثور على النقطة الجوهرية التي تجعل منها عندي رواية جيدة, فلما عدت غاضبًا إلى مَن أغراني بقراءتها, فأضاع وقتي بذلك, لم أجد عنده سوى أنها تحفل بالواقع, وترضي الفضول, وتسقط إسقاطا لا يخطئها القارئ على بعض همومنا, وتفرج كبت المكبوتين - وأمور أخرى لا تخرج عن هذا النطاق.

          ودفع لي صديق برواية أخرى ظهرت منذ سنتين, وتجري أحداثها في مدينة ثانية, طالبا مني أن أكتب عنها (قراءة نقدية). وقد وجدت (المدينة) في هذه الرواية, ولكنني لم أجد (الرواية), فخيّبت أمل صديقي في الكتابة إذ خاب أملي في القراءة. وأنا أعلم أن الكلام الذي أقوله عن هاتين الروايتين كلام مبتسر, ولا يشفي الغليل, وهو يجري على ما لم تجر به عادتي من عدم الاختصار في القول, ومن تسمية الأشياء بأسمائها. على أن ما تحفل به حياتنا الأدبية لم يدع لي خيارًا سوى أن أخالف عادتي هذه المرة بسبب ما هو حاصل من أنني لم أعد أتحمّل من ألوان النزال غير الأدبي قليلا أو كثيرا, ومن أن جرعة العدوانية تزيد حولنا باطراد. وألاحظ أن اختلاف الرأي أصبح يفسد - دائما - قضية الودّ, وأن الكتّاب يحرسون أعمالهم, وعلى استعداد لقطع اليد التي تمتد إليها, وأن لغة الحوار الأدبي تنحرف لدينا بسرعة فائقة إلى المعجم الذي يدخل تحت طائلة القانون, وأن التزاحم بالمناكب قد وصل إلى مداه, وأصبح الحديث عن الإنجاز بديلاً عن الإنجاز, كما أصبح ادّعاء التجويد بديلاً عن التجويد.

 

محمود الربيعي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات