رسَّامو الظِّل

تصوير: وليد منتصر

هناك من الفنانين من يحيا طيلة عمره أسيرًا للظل، لا يرنو إلى الضوء، ولم تسع روحه يومًا إلى مباهج الشهرة وفتنتها، يعيش أسير فنه مثله مثل نباتات الظل التي تخلق عالمها وحدها وعلى مهل، بعيدًا عن نور الشمس، وبعيدًا عن غوايات الضوء ونشوته.

رسامو الظل يحبون الفن ويتلظون بإغوائه لكنهم يتعاملون معه كصيغة حياة يومية، لا يرون خارجها حياة، يبدعون فنهم دون رغبة في الخلود، ودون رغبة في البقاء، لأن فنونهم ترتبط بالعابر والمنسي والمتغير، فنونهم تخرج من الناس وتختفي فيهم، ولا يتبقى منها سوى أثرها العابر في الزمن.

رغم ذلك تبقى هذه الرسوم توثيقا تاريخيا واجتماعيا لحياة مدنهم وأوطانهم، فيها نقرأ الماضي، عبر صورة احتفت بالتشكيل، أو جدار احتفظ بالرسم، أو لوحة قاومت الزمن.

 

  • طه شحاتة.. ذاكرة المدينة

- لم أجد ما أبدأ به غير اسمه، لأنه ليس اسمًا عاديًا كغيره من الأسماء المحفوظة بمكاتب السجل المدني المنتشرة بين أركان مصرنا المحروسة، اسم «طه شحاتة» يخفي داخله حالة خاصة جدًا بين فنان ومدينة وبين إنسان وذاكرة حية لكل بني جلدته والمحيطين به، ذاكرة لم تخفت جذوتها، رغم مرور ما يزيد على ثلاثين عامًا على وفاته، وغياب رسوماته وموتيفاته المدهشة عن جدران وعربات ومراكب المعاصرين من أبناء مدينة بورسعيد.. أعمال «طه شحاتة» تُشكل الذاكرة البصرية لكل أبناء مدينته، خاصة أن يد الفنان طالت كل شق فيها وبخاصة أماكنها الشعبية والفقيرة.. حاليا تجد بعض آثاره الفنية على جدار هنا أو هناك، أو عربة يد خشبية مهترئة بين ركام أشياء قديمة، أو عربة آيس كريم لا تزال خطوط الفنان وتصاويره تُزينها، أو مركب صيد قابع على الرمال لا يبدو من أخشابه إلا رسوماته الشعبية المدهشة بعد أن علاها غبار الزمن والنسيان.

بدأت رحلة البحث عن الفنان «طه شحاتة» وعن عوالمه ورسوماته بالعثور على ابنه محمد طه شحاتة، الذي يبلغ من العمر أربعة وستين عامًا، وتعلم على يد أبيه الرسم وأخذ عنه حرفة كتابة الخط العربي وتخطيطه، ومازال يحتفظ بتوقيع والده السحري، فاسم طه شحاتة له وهجه وبريقه وثقله لدى الجميع. وكل أصول المهنة وخفاياها وهبها الأب لابنيه محمد وعلي، وهبهما إياها كي تكون سببًا للحياة بعد أن أنجب ثمانية أبناء ليس بينهم ذكور سواهما.. ومحمد يحمل تراث أبيه ويحفظ تفاصيل وأسرار المهنة، لأنه في حياة أبيه كان ظله الآخر وفي مرضه كان يده الأخرى التي تُبدع وترسم. ويحكي محمد عن أبيه: وُلد طه شحاتة عام 1900 لعائلة فقيرة، ليس بينها أي نابه في الفن أو الرسم أو كتابة الخط العربي، جاء إلى الحياة فنانًا بالفطرة والسليقة، لم يتعلم الرسم من أحد، ولم يأخذ جمال الخط العربي على يد أحد، فالرجل أُمي، لا يجيد أو يعرف اللغة العربية أو أي حرف من حروفها، فقط يتمتع بحس فنان مرهف وبعين يقظة ومختلفة، ويد فيها من الموهبة ما تعجز عنه أي يد أخرى.

وأضاف محمد: قضى والدي معظم سنوات عمره بمنطقة الحرية (إحدى المناطق الشعبية الشهيرة في بورسعيد تأسست في نهاية الخمسينيات وأُزيلت عام 2006)، ولم يكن يخلو بيت من بيوت بورسعيد أو عمارة من عمائرها من رسوماته وألوانه، ولم تكن هناك أي عربة خشبية في كل ربوع المدينة إلا وتحمل رسمًا من رسُوماته المعروفة، وبسبب عدم دراية والدي بالقراءة أو الكتابة، كان لابد لطالب الرسم أو التخطيط أن يكتب اسمه في ورقة بيضاء كي يخطها أو بمعنى أدق يرسمها، يرسمها كما رآها، ويمنحها فيضًا من موهبته الفطرية، وكانت لديه قدرة عبقرية على رسم كل شيء وأي شيء بأدق الملامح والتفاصيل..

وتركت «محمد شحاتة» حزينًا لأنه لا يحتفظ بأي شيء من تراث والده الراحل، وكبّدني ذلك رحلة بحث مضنية عن أعمال الفنان في كل شوارع بورسعيد، رحلة بحث عن فنان غاب تحت طبقات الزمن، لكن صوته كان معي في كل شارع سرت فيه، يحفزني على العثور على رسومه قبل أن تُفقد للأبد.. والتقيت بالشاعر «محمد النادي»، أحد أهم شعراء جيل الثمانينيات بالمدينة ويكتب قصيدة النثر ونُشرت قصائده في العديد من الدوريات المصرية والعربية، وتعلقت روحه منذ طفولته بعالم «طه شحاتة»، وجاوره بمنطقة الحرية.

 ويقول النادي عنه: طه شحاتة يتشابه في الملامح مع المخرج العالمي المعروف الفريد هيتشكوك، وكان قصيرًا وبدينًا بعض الشيء، وعادة ما يضع على رأسه بالمة (نوع من أنواع أغطية الرأس)، ويستغرق في عمله حد التوحد التام ولساعات متواصلة بلا كلل أو ملل،لايلتفت أثناءها تجاه أي شيء حوله.

 وأضاف النادي: مازالت رسُوماته أو بالأحرى موتيفاته تقبع في ذاكرة جيلي والأجيال السابقة لي، ومازلت أتذكر موتيفاته السحرية: الحصان العربي، النخلة، أطباق الفاكهة، مشهد افتداء سيدنا إسماعيل بالكبش، العين التي يخترقها السهم، كف اليد. وبرع طه شحاتة براعة فارقة في رسم شخوص أصحاب العربات الخشبية في الجزء الأسفل من عرباتهم، يرسمهم بملامحهم المعروفة، لكنهم في النهاية يلتقون جميعا بشكل أو بآخر مع روح شخصية «أبو العربي» (أهم شخصيات التراث البورسعيدي) المعروف عنها حب الحياة والاندفاع فيها.

 وبرع طه شحاتة في رسم «سوبرمان» يصعد طائرًا إلى السماء ممسكًا بآيس كريم أو «جيلاتي» بلغة السبعينيات والثمانينيات، «سوبرمان» أكثر براءة وجمالًا من «سوبرمان» الذي ألفناه في الأفلام السينمائية.. وكانت خطوط وألوان طه شحاتة مبهجة وحيّة وفريدة وتعرفها من وسط آلاف الرسوم والتصاوير، فليس لها بديل أو مثيل.

 وأنهى النادي حديثه معي بقوله: لم يترك الفنان طه شحاتة مكانه بمنطقة الحرية، رغم أنه كان خطاطًا ورسامًا رائجًا، لأن الفنان الشعبي يعيش دائمًا بجوار كنزه.

ومن تلاميذ الفنان الراحل الذين تعلموا على رسومه، الخطاط جمال الطعمة، ابن المكان نفسه، الذي عاش فيه الفنان الشعبي الراحل، وكان يُجالسه في أيامه الأخيرة طلبًا للتعلم والمعرفة، وحدثني عنه جمال قائلًا: رغم أمُية طه شحاتة الهجائية فإنه أتقن ثلاثة أنواع من الخطوط إجادة تفوق الوصف: الفارسي والديواني والرقعة، وله محاولات بديعة في خط الفري هاند، ومازالت رسومه تنبض بالتفرد والحياة على عربات الشربيني (أشهر وأهم بائعي الجيلاتي ببورسعيد) وعلى عربات ومحال الكرداوية (أهم عائلات بائعي الفاكهة). وأضاف جمال: الفنان الراحل أُصيب في سنوات عمره الأخيرة بالشلل الرعاش، ولم يمنعه ذلك من مداعبة الفرشاة بين الحين والآخر، وكأنها سره الذي جاء من أجله إلى الحياة، وعند وفاته ودعه إلى مثواه الأخير كبار الفنانين المصريين الذين درسوا ونبغوا في فنون الخط العربي.

وفن طه شحاتة لفت نظر عديد من الفنانين والنقاد الأكاديميين، فكتب عنه الفنان الكبير «حسين بيكار» في عموده الشهير «ألوان وظلال» في جريدة الأخبار، ولم يخل أي ملف عن الفنون الشعبية بمصر من الحديث عنه وعن فنه، واعتبره معظم الدارسين مثلًا حيًا وبليغًا للفنان الشعبي التلقائي، ولا سيما في جدارياته البديعة وزخارفه على الحوائط وأهمها جدارية: «العودة من الحج»، التي يعتبرها الكثيرون النموذج المثال للتعبير عن عوالم «طه شحاتة» بكل تفاصيلها وبدائعها، العوالم المدهشة التي وقع في إغوائها حفيده «أحمد شحاتة» آخر أجيال العائلة، الذي يحمل على كتفيه مائة وثمانية وثلاثين عامًا من فن العائلة التي تتوارث الفن مثلما تتوارث اللقب.

 

  • رسّام الظل

- ذهبت إليه، بعد أن وهن جسده، وحمل على كتفيه ثمانين عامًا من عمر الزمن، وركن إلى بيته مع زوجته العجوز، بعد تفرق الأبناء بعيدًا عنه.. بمجرد الحديث معه تدفقت الحياة إليه، وعادت الدماء الشابة تجري في قلبه، الرجل قضى عمره كله يحاكي ويقلد اللوحات العالمية، والآن يعيش سنواته الأخيرة مع آخر لوحاته المُقلدة، ومع أوراق الكتابة البيضاء صلته الوحيدة بالحياة بعد إصابته بالشلل الرعاش في يده، واعتزاله الرسم.. المدهش أنه يكتب بنزق واندفاع ابن العشرين، فقلبه مازال عفيًا، وروحه مازالت على وهجها.

ولد «محمد طُبّل» (بضم الطاء) عام 1931، لأب يعمل حلاقًا ورسامًا في الوقت ذاته، نذره والده للرسم منذ طفولته. في سن الثامنة رسم بإجادة مذهلة بالطباشير بورتريهًا شخصيًا له نقلا من المرآة إلى الحائط، وبمجرد أن رآه والده نادى على الداني والبعيد ليشهدوا على موهبة ابنه في الرسم التي انتقلت إليه من دماء أبيه، بعدها تفرغ طيلة حياته للرسم، وعهد إليه والده برسومات عديدة ليقلدها ويحاكيها، ويرسمها بالطباشير على الجدار الأسود الذي أعدّه خصيصًا لتعليمه. ويذكر «طُبل» أن والده أمره ذات يوم برسم لوحة تُمثل غزالًا أو وعلًا يصعد الجبل، وتوعده بالعقاب إن لم ينه لوحته في ليلة واحدة، فواصل رسم اللوحة طوال الليل على الحائط، وأرهقته جدًا حركة وإيماءات الغزال الصاعد إلى الجبل، وأعاد رسمها مرات عديدة، وبسبب خوفه من والده لم يترك مكانه حتى أتم لوحته وأنهاها، لدرجة أنه نام واقفًا دون أن تستطيع عيناه إسدال جفونهما.

ولم يلتحق «طُبل» بأي مدرسة نظامية، وعند أعتاب المراهقة التحق بمعهد مسائي، وتعلم فيه أصول القراءة والكتابة، حتى يُلم بتفاصيل هوايته ومهنته، وقرأ في علم التشريح وعلم المنظور والتجسيم، وأبعاد الظل والضوء، والعلاقة بين العنصر الأمامي والخلفي في العمل الفني، وتشكيل الألوان على البشرة، ودرجات تأثيرها في تكوين اللوحة وإحساس المتلقي بها.. ويُرجع طُبل سر تفرده بين أقرانه من مستنسخي اللوحات القديمة إلى استخدامه لخامات الفنانين القديمة نفسها.

ورسم «طُبل» مئات اللوحات العالمية، ولم يعنيه يومًا اسم الفنان أو المدرسة الفنية التي ينتمي إليها، بقدر ما كان يعنيه رسم نسخة طبق الأصل من اللوحة الأصلية، ويعترف «طُبل» بانتمائه فنيًا وروحيًا إلى مدارس الفن التشكيلي القديمة بتياراتها وتنويعاتها المختلفة من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وتأثيرية، ولم ترق له أبدًا مدارس الفن الحديثة: التكعيبية أو الوحشية أو التجريدية أو السيريالية أو المستقبلية، ويرى أنها نحت بالفن بعيدًا عن أهدافه وأصوله المتعارف عليها.

وحاكى طُبل لوحات مشاهير الفنانين الكبار: ليوناردو دافينشي، مايكل أنجلو، رامبرانت، فرانشيسكو دي جويا، بول سيزان، رافاييل، وآخرين لا يعرف أسماءهم، وباع آلاف اللوحات في معرضه المواجه لمجرى قناة السويس مباشرة، وكل لوحاته موقعة باسم «طُبل»، والذي يعني باللغة التركية «الأعرج»، ويعود الاسم إلى جده، الذي تسربت إلى قدمه إحدى عظام سمكة القرش أثناء سيره على البحر، وحاول زملاؤه إخراجها بطريقة بدائية نتجت عنها إصابته بالعرج، والتصق به الاسم وبعائلته من بعده.. و«طُبل» له لوحات عديدة من إبداعه الخاص، مثل لوحات: غفوة، حاملة الجرة، عائشة، حنان، كفاح، وقار، مع الله، الريس عمر، وكلها لوحات استخلصها من بيئته المحيطة، فاللوحات الأربع الأولى تخص أربع فلاحات مصريات من مدينة دكرنس بالدقهلية، تعرف إليهن أثناء إقامته بالمدينة الصغيرة عقب حرب 1967، أما لوحة «الريس عمر»، فهي لأحد السقائين بمدينة أبو قير بالإسكندرية، رسمها «طُبل» ليقبض على وجه السقاء المُعبر قبل أن يختفي مع أمواج البحر ومن بيننا إلى الغياب، أما لوحتا: مع الله، فتعبران عن شيخ كبير، والإيمان يملأ عينيه في الأولى، والوقار يتجسد على ملامحه في الثانية، واللوحتان راجتا رواجًا هائلًا، وأعاد «طُبل» نسخهما ما يزيد على مائة وخمسين مرة.. ولم يكتف طبل بمهنته كرسام، فعمل «روتشيرًا» (صاحب اللمسة الأخيرة في الصورة الفوتوغرافية سواء بتعديلها أو بتلوينها على النجاتيف أو الصورة ذاتها) مع الفنان المعروف «شيرين شحاتة»، الرسام والمصور الخاص للملك فاروق

(1920 - 1965)، وعمل مصورًا فوتوغرافيًا في عدد كبير من الاستديوهات في كل أرجاء مصر، وظل طيلة عمره يرسم تحت وطأة ظروف الحياة ومشاقها الصعبة، وكان يعمل ما يقرب من ست عشرة ساعة يوميًا لسد حاجاته وحاجات أسرته، ولم ينفلت «طُبل» من ضيق العمل إلى رحابة الفن، وظلت عيناه على إخلاصهما لاستنساخ اللوحات وتقليدها، لكنه حينما تحول من الرسم إلى الكتابة، قرر أن يكون نسيجًا وحده، فالشيخ الذي تحول شاعرًا لا يقرأ لأحد من الشعراء حتى لا يتأثر به ويسير على طريقته، وحتى ينسخ نسخًا شعرية أصيلة وأصلية لا تمت بصلة إلى أحد، وكأنه يطير حرًا مع الشعر بعد أن ظل طيلة عمره مقلدًا في الرسم.

 

  • حوائط للفن والثورة

فن لا يحتاج إلا إلى حائط، ومن قبل ومن بعد إلى رغبة أصيلة في تغيير العالم، وإلى طاقات متجددة من التمرد والخروج والثورة.. إنه فن الجرافيتي أو بمعنى آخر «فن الرسم على الحوائط». يقينًا عرفت مصر «فن الجرافيتي» قبل ثورة 25 يناير، وهناك شواهد وأدلة على ذلك، ربما يعود تاريخها إلى رسومات المصري القديم على المقابر والمعابد الفرعونية، لكننا لم نر «فن الجرافيتي» بشكله الحالي إلا على استحياء وشذرًا في الثمانينيات من القرن الفائت، ومع ثورة يناير تحول «الجرافيتي» إلى الأداة الفنية الأهم التي عبّرت عن الثورة وعن يومياتها.

 رسامو الجرافيتي مثلهم مثل الكاتب الراحل جلال عامر حينما تحدث عن نفسه بلغة العارف المستشرف للمستقبل: أنا صعلوك عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لي صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفى فجأة، فحاول تفتكرني، وسنحاول دائمًا تذكر جلال عامر، وتذكر فن الجرافيتي.السبب الجوهري في انتشار فن الجرافيتي هو سبب انتشار الكاتب الراحل ذاته، الذي رصد بسخريته المريرة تفاصيل العقد الأخير من تاريخ مصر، رصده بخبرة ستين عامًا عاشها، وبإزميل سبعة آلاف سنة أخرى تنسمها في كل خطوة خطاها على الخريطة المصرية. الجرافيتي مثله مثل تغريدات الكاتب الراحل كاشف وفاضح، الجرافيتي فن اللحظة، الفن الذي يقبض على لحظة يعلم يقينًا أنها ستنفلت إلى الغياب، الجرافيتي وثّق لنا أسماء الشهداء: مينا دانيال، الشيخ عماد عفت، جيكا، محمد الجندي، الحسيني أبو ضيف، وشهداء الألتراس، وسجلت رسوماته حكايات الثورة ومحطاتها الرئيسية، لكن فنانيه يعلمون يقينًا أن رسوماتهم ستختفي يومًا من على الجدران، ومن الذاكرة.

التقيت بثلاثة فنانين شاركوا بشكل أساسي وفاعل في رسومات شارع محمد محمود: عمار أبوبكر، علاء عوض، هناء الدغيم.. عمار أبو بكر (مواليد عام 1980) معيد بكلية الفنون الجميلة بالأقصر، وصاحب العديد من رسومات الجرافيتي الشهيرة بشارع محمد محمود، منها: جدارية مفقوئي العيون، جدارية الشيخ الشهيد عماد عفت، جدارية شهداء الأُلتراس في حادثة ستاد بورسعيد المروعة. تحدث عمار معي قائلًا: أنا مولع منذ طفولتي بالرسام التلقائي الشعبي، الرسام الذي سجل بأدواته الفنية البسيطة مناسبات المصريين الوطنية والدينية على جدران الشوارع والبيوت، وشكّل برسوماته الذاكرة البصرية للمكان والبشر، الفنان الذي كان يعلم يقينًا أن رسوماته ستزول وتختفي، ومع ذلك أجاد فنه وأتقنه، خاصة في جدارية الحج البديعة.

وعن جدارية مفقوئي العيون قال: حاولت في تلك الجدارية رصد وتسجيل المواجهات الدامية بين الشرطة والمتظاهرين التي أفضت إلى فقء عيون المئات من المصريين دون تمييز في اللون أو الجنس أو الانتماء السياسي.

 وعن جدارية الشيخ عماد عفت قال الفنان: لم أكن سوى لسان حال الناس الفني - إن جاز التعبير-، استُشهد الشيخ الراحل في السادس عشر من شهر ديسمبر عام 2011 أثناء أحداث مجلس الوزراء، وكان الفقيد مثار حب كل المصريين وتعاطفهم، وجاءتني فكرة جداريته بسبب جمع الشيخ الراحل بين الورع الديني والانتماء الوطني والثوري، ورسمته بجناحي الشهادة، كاتبًا بجواره الآية الكريمة: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكُبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا) - سورة الأحزاب آية 67 - 68 - ودللت الآية الكريمة على الرسالة التي قصدتها دون مواربة.

وعن جدارية الألتراس الشهيرة، تحدث أبو بكر ذاكرًا تفاصيلها: بدأت العمل قبل حادثة ستاد بورسعيد بيوم واحد، وفوجئت بالحادثة المروعة التي أججت مشاعر كل المصريين، وكان الغضب رهيبًا في ميدان التحرير، وأعطتني الهتافات العالية طاقة هائلة للعمل والإبداع، وجاءت الجدارية عفوية في كل تفاصيلها وخضعت لعمليات من الحذف والإضافة حتى انتهت إلى شكلها الحالي، الذي رصدت فيه ملامح ووجوه وأسماء الشهداء الراحلين الذين ودعوا حياتهم نتيجة تواطؤ أمني فاضح وظاهر.

 وأنهى «أبو بكر» حديثه لي قائلًا: فن الجرافيتي يرصد ويوثق حالة جماعية وإنسانية خلال فترة زمنية بعينها ويرتبط بالأحداث مثلما يرتبط بالشوارع، لأنه باختصار فن الشوارع والحوائط.

 الفنان علاء عوض (مواليد عام 1981) معيد في كلية الفنون الجميلة بالأقصر، ورسّم معظم رسومات الجرافيتي الفرعونية على حوائط شارع محمد محمود، وعن ذلك يقول: عرفت طريقي إلى الفن عبّر الفن الفرعوني، ومنذ نعومة أظفاري وعيني مغرمة بكل مقتنيات المصريين القدماء، وبعد انتقالي إلى مدينة الأقصر تعمقت صلتي بالفن الفرعوني وترسّخت، وكل جدارياتي في شارع «محمد محمود» مُستوحاة من الفن الفرعوني القديم، ومنها: جدارية الشهيد، التي حاولت فيها التعبير عن تقديس المصريين القدماء للشهيد واحتفائهم بشهادته، سواء عند وداعه في الأرض أو في احتفاء حوريات السماء باستقبال روحه الصاعدة وإضاءة الشموع لعبقها الطاهر، وفي جدارية أخرى رسمت «محكمة الظلام»، ورمزّت لها بأنوبيس (رمز القضاء عند الفراعنة)، وميزان العدل مائلًا في يديه، لأن حقوق شهداء الثورة مازالت مُهدرة وغائبة.. «وللفنان علاء عوض جداريات أخرى منها: جدارية «القط والفأر» الفرعونيين، ويبدو القط فيها خادمًا للفأر الذي يجلس في استرخاء متنسمًا أريج زهرة اللوتس، وجدارية «الفتاة والثور» التي تروض فيها فتاة فرعونية جميلة ثورًا هائجًا، وتجعله أسيرًا لها، ومضمون الجداريتين واضح وصريح، سواء في التعبير عن الأوضاع المقلوبة في الجدارية الأولى، أو في انتصار المتظاهرين على الأمن في الثانية». وأنهى علاء حديثه معي بقوله: كل ما نرسمه على الحوائط مبعثه الحفاظ على الهوية المصرية، خاصة في ظل الدعاوى المتشددة التي تحاول مسخ الروح المصرية وإطفاء جذوتها الحية.

 الفنانة هناء الدغيم (مواليد عام 1977) تخرجت في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1999، ولها معارض عديدة فردية وجماعية، وتعيش حاليًا بين ألمانيا والقاهرة، وعن تجربتها مع فن الجرافيتي تقول: انتقلت من الإبداع داخل الاستديو الخاص بي إلى رحابة الشارع واتساعه، كان الأمر صعبًا في البداية، وتغلبت عليه بمساعدة زملائي الفنانين، ولرغبتي الشديدة في المشاركة في الحدث الفارق والاستثنائي، الذي جئت إلى القاهرة خصيصًا من أجله، شاركت الزملاء في جداريات عدة حتى جاءت أزمة السولار وأنابيب البوتاجاز، ووجدت الأزمة جديرة بأن أرصدها على أحد الحوائط، واخترت المرأة المصرية الفقيرة موضوعا لجداريتي، خاصة أن المرأة المصرية مغبونة على كل المستويات المجتمعية والثقافية والسياسية، وفي الجدارية رسمت مجموعة من السيدات الفقيرات (محجبات ومنتقبات) يحملن الأنابيب بمعاناة شديدة، بينما أخبار الجرائد لا تدل عن أي انفراجة في الأزمة المفتعلة والمتعمدة.

تعمدت هناء أن تجعل جداريتها على شكل هرمي، لتبرز هرم الأزمات التي تتحملها المرأة المصرية وحدها، ولدلالة الهرم التاريخية والفنية.. الجرافيتي فن يرصد الواقع ويسجله، ليس سعيًا إلى الخلود الفني، بقدر ما هو اقتناص لحالة جماعية قبل غيابها عن الذاكرة، ودليل ذلك أن طبقات أخرى من رسومات الجرافيتي حلت محل رسومات الفنانين الثلاثة بعد تغير الأحداث إلى طريق آخر، بل إلى مئات الطرق الأخرى التي نعيش في متاهاتها منذ عامين ولم نغادرها بعد.

 

  • الرسم على الماء

البحر ليس كأي بحر، لأنه النيل والبحر معًا، يصب النيل ماءه على البحر وعلى شرفات الأرواح في «عزبة البرج»، وما أدراك ما النيل عند لقائه بالبحر في بقعة واحدة لها رحابة البحر وزرقته وفضاؤه غير المحدود، وسكون النيل وصمته الحاني ولمعته في القلوب.

اتصلت بالفنان «محمد مورو» الخطاط والرسام، وحددنا موعد اللقاء وزمنه، سافرت إليه ومعي «البحر» الذي لازمني طوال رحلتي بحفيف هوائه وزبدة أمواجه وأبدية رائحته، وصلنا إلى محافظة «دمياط» ومنها عرجنا على «عزبة البرج» وبعدها دخلنا إلى «المثلث» وانتهينا إلى ورشة «علي أبو العزم»، وهناك رأيت «مورو» يقف وسط سُلمه بفرشاته أمام البحر يُلملم حروفه وخطوطه ويُبعثرها على مركب من مراكب الصيد، الحروف تتحول على يديه إلى كلمات ورسوم، وألوان المراكب خلفنا وحولنا مبهجة بهجة طفولتنا البريئة. تنسمت للحظات رائحة مدرستي القديمة بكراساتها وأقلامها وألوانها، وكأنني أزيح التراب عن سماء دهشتي البعيدة.. كتابات ورسوم المراكب بسيطة حد اقترابها من رسوم مدارسنا الأولى، تغبش الروح بوضوحها ولمعة حروفها الوضيئة، وتستحضر من لمعة الماء مساحات من ذكريات عيوننا في لحظات قبضها النادرة على معنى الحياة.

محمد مورو، شاب صغير السن (مواليد عام 1989) لم يبق غيره رسّامًا للمراكب بعد هجرة الرسامين الكبار للمهنة مرضًا أو غيابًا أو موتًا، تخرج «مورو» في المدرسة الثانوية الصناعية عام 2007 في نفس وقت تحصله على دبلومة الخط العربي، مُواصلًا دراساته بعد ذلك لسنتين أخريين متخصصًا في الخط الكوفي، مُخلصًا لمهنة امتهنها منذ نعومة أظفاره وروحه التي لم تبلغ الاثني عشر عامًا حينما وقف بفرشاته أول مرة راسمًا على واجهة أحد المراكب.. لم يعمل «مورو» غير رسام وخطاط في مدينة تُقدس العمل تقديسها للدين، ويُتقن كل من فيها مهنته ويتفرغ لها ويختفي فيها.

يقول «مورو»: أخطط كل فنون الخط العربي على المراكب والسفن، وأحدد نوع الخط المرسوم حسب تصميم المركب وحجمه وشكل واجهته، هناك من المراكب ما يتناسب مع الخط «الديواني» وآخر مع الخط «الكوفي» وثالث مع «النسخ»، لكل مركب رسُوماته وخطوطه الخاصة به، يخضع الأمر لانحناءات وتدرجات رأس المركب (التندة) وواجهة المركب الأمامية، لأن الرأس والواجهة هما المحظيان دائمًا بالتزيين، لكن يظل دليل فرشاتي الأهم: شكل المركب على الماء، لأن رسومي عنوان المركب، تأخذ من لمعة الماء سرها، ويأخذ منها الماء بهجتها الملونة، لذلك أحاول دائما أن يكون الخط والرسم عنوانًا لافتًا عند كل راكبي البحر.. تعلمت المهنة على أيدي شيوخها: أحمد الخميسي، السيد الريدي، أحمد الوزيري وأستاذي المباشر الأستاذ مدحت أبو المعاطي، وأتنقل في مهنتي بين ثلاث وُرش في عزبة البرج أو بلغة أبناء دمياط «الأزق»: أزق الطابية، أزق المثلث، وورشة الشهاوي، وهناك ورشتان أخريان في مدينة رأس البر: ورشة سمير أبوالعزم، وورشة طه منصور.. (عزبة البرج أهم الموانئ المصرية في صناعة المراكب واليخوت السياحية، وصيادو عزبة البرج يُخرجون وحدهم من البحر ما يزيد على نصف ما يخرجه المصريون من أسماك..).

 وعن البحر يقول رسّامه: أنا ابن البحر، خطواتي الأولى في الحياة كانت بجواره، ولم أغادره أبدًا، ويقينًا لن أبعد عن سمائه، لأن مدينتنا تتنفس البحر كهوائها اليومي، وكل «العزبوية» (أبناء عزبة البرج) يعيشون على البحر ويحيّون مجاورين لمائه.. انفصلت لبرهة عن حديث «مورو»، وتلفت إلى البحر، لم تر عيناي رسومات المصريين القديمة: العين أو كف اليد المدرئتين للحسد أو النخلة رمز الخير أو السمكة رمز الرزق الوفير، رأيت عرائس بحر وجنيات وحيوانات، ورسوما لشخصيات «والت ديزني» خاصة ميكي ماوس، لكن الطاغي على واجهات المراكب: لفظ الجلالة، مقاطع من آية الكرسي، آيات قرآنية تتعلق بالرزق المكتوب في غيب السماء: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) - سورة الذاريات آية رقم 22 - ويحضر الرسول الكريم كأيقونة مودة ومحبة من راكبي البحر تجاه شخصه وسيرته، وتتزين المراكب بأسماء العائلات والأبناء والأحفاد كإعلان عن العائلة وعن اعتلائها البحر وتفردها فيه.. بعدها حدثني «مورو» عن توسعه في مهنته وانتقاله إلى الرسم على الحوائط وتخطيط اللافتات واليافطات، وافتتاحه لمكتب دعاية وإعلان يعتمد على أحدث تقنيات الحاسب الآلي، لكنه لا يجد ذاته إلا أمام البحر صاعدا على السُلم راسمًا على الماء، لأن الماء يحمل أعماله معه أينما غدا أو غاب.

وأثناء عودتي من «عزبة البرج» إلى «دمياط» تنسمت رائحة قديمة معبقة بطبقات زمنية مختلفة أهمها الفرعوني والإسلامي، الفرعوني يتخفى في ماء النيل الساكن في المدينة كمرآتها العاكسة والمغوية، «عزبة البرج» فقيرة في آثارها الفرعونية، لكنها تتشكل من النيل ويتشكل منها كفسفيساء إنسان بديع، أما الملمح الإسلامي فيأتي سر تدفقه في «عزبة البرج» إلى مساجد «دمياط» القديمة التي تبعث بهوائها المترب بالسنين إلى كل بقاع المحافظة العريقة، لأن مساجد: الفتح والمعيني والبحر وأبوالمعاطي معبقة برائحة المهاجرين العرب الأوائل إلى مصر، و«دمياط» أقرب إلى مدينة عربية قديمة منها إلى مدينة عصرية، رغم كل مظاهر الحداثة البادية فيها.. دمياط من المدن القليلة التي يجري فيها البحر والنيل معًا، ويلتقي فيها التاريخ مع البشر.

 

  • فضاء السماء محبة

- في طفولتنا تعلمنا في مدارس حكومية فقيرة، تعلمنا دون أن يبثوا إلى أرواحنا معنى المحبة، التي لم يعرفوها، ولم نعرفها، لم نقرأ سطرًا واحدًا طوال دراستنا عن التاريخ أو الفن القبطي، ولم نعرف ما المقصود بالأيقونة القبطية.

 في المرحلة الإعدادية التحقت بمدرسة تحمل اسم الزعيم الراحل «سعد زغلول» زعيم ثورة 1919، التي حملت معنى الوحدة الوطنية في تاريخ مصر المعاصر بين المسلمين والمسيحيين، قبل بذر بذور الفتن الدينية بين فقراء المصريين في الأربعين عامًا الأخيرة، لم تكن مدرستي تحمل من ذكرى ثورة 19 سوى اسم زعيمها على بابها الرئيسي، بعد تحول الزعيم إلى مجرد اسم على مدرسة أميرية فقيرة، وتحول الوحدة الوطنية إلى بضعة مشاهد في السينما المصرية، وبعض لقاءات احتفائية بين شيوخ وقساوسة على قناتي التلفزيون المصري وقتها، مشاهد تستحضر الوحدة الوطنية من غيابها لمواجهة الأزمات الطائفية المتتالية.

 في سنتي الثانية في مدرستي الإعدادية ألحقوني بفصل دراسي نصفه من المسيحيين، أو بمعنى أدق جمعوا فيه كل المسيحيين المماثلين لي في العمر، وتوجست في البداية من التعامل معهم، خاصة أنني لم أتعامل من قبل مع مسيحيين، ودخلنى الخوف لمجرد رؤيتي لأيقونات كنسية بداخل كتاب مدرسي لأحد زملائي، ولازمني خوفي ليومين متتاليين داخل أحلامي، واستغرق الأمر مني خمس سنوات، حتى التحقت بالجامعة لأتذوق الفن القبطي وأستشعر جلاله الديني بعين مجردة وبروح مصرية.

أثناء تجولي في الشوارع فوجئت بجدارية بديعة لـ«مار جرجس»، تحتل واجهة أحد الأفران الشعبية، اقتربت من الفرن وسألت صاحبه عن راسمها، فأجابني إجابة المفتون بجداريته القديمة: الفنان، سمير حارس، نطق اسمه كمن يستحضر اسمًا من غيابه تحت التراب، وقبل أن أسأله عن مكانه، قال بحزن الفاقد لحبيبه: الله يرحمه.. خطوط الجدارية وألوانها لمعت داخلي ولم تتركني، خاصة أنني رأيت على بعد ثلاثة شوارع منها، وعلى واجهة أحد المنازل القديمة جدارية متهرئة ومنسية لرحلة الحج. الجداريتان متشابهتان في الخطوط والألوان، وفي المسحة الشعبية المصرية الصميمة، التي يتماثل فيها المصري المسلم مع المصري المسيحي، كما تتماثل موالدهم الدينية المفعمة بالبهجة، وتواشيحهم وترانيمهم الدينية المغرقة في خشوعها وتقواها.. في الجدارية شاهدت «مار جرجس» يصارع التنين، يصارعه كفارس نبيل تمتد خطوط أسطورته لتجمع بين أسطورة «بيرسيوس» الإغريقية الذي قتل وحش البحر لينقذ الجميلة «أندروميدا» وتصلها بحكاياتنا الشعبية عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسيدنا الخضر عليه السلام، وتتداخل مع التصور الشعبي عن الأبطال المدافعين عن الحق والقيم المجردة: الشاطر حسن، وعلي الزيبق، والزير سالم، وعنترة بن شداد، وأبوزيد الهلالي سلامة.

حسب التاريخ لم يكن «مار جرجس» إلا فارسًا حالمًا قبض على دينه كقبضه على النار، وواجه نهايته وموته بقلب المؤمن وبروح المقاتل الشجاع، لكنه تحول إلى ومضات من الحكايات الشعبية والإنسانية في بقاع مختلفة من العالم، في فلسطين تحول إلى «الخضر» شفيع مدنها المقدسة: بيت لحم، بيت جالا، بيت ساحور، وانتقلت سيرته منها إلى بيروت وسورية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وروسيا والنمسا و... انتقلت بقدسيتها الدينية وعبقها الشعبي الذي جعل من «مار جرجس» فارسًا في كل مكان تهبط فيه حكايته.

وبعد تجولي لفترة في الكنائس، التقيت بالفنان التشكيلي «طارق بشرى»، الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1986، وكان مُزاملا للفنان سمير حارس، الفنان الشعبي المسيحي المجهول، الذي عاش ومات منسيًا بعد ستين عامًا قضاها في الحياة، التقيت «بشرى» داخل كنيسة تحمل اسم «مار جرجس»، التقيته أمام جدارية بديعة رسمها للسيد المسيح مُحاطًا بالملائكة بمشاركة الفنان «شادي ماهر»، وسكنت الجدارية سقف الكنيسة كما تسكن السماء سقف أرواحنا.. «بشرى» تخصص في الرسوم والأيقونات الكنسية إلى جانب عمله في فن الديكور، طلت موهبته بوضوح أثناء طفولته، وحاز جوائز دولية عديدة، وفي المرحلة الثانوية رافق فنان الأيقونات «سمير حارس»، رافقه رفقة الصداقة والفن في آن واحد، كانا يعكفان معًا في إحدى غرف الدير أو الكنيسة أثناء تفرغهما لأيقونة أو رسم كنسي، مع قطع عزلتهما برحلات صيد لغسل الروح وتطهيرها والعودة بقلب مُصفى من هموم الدنيا إلى أيقوناتهما ورسوماتهما، بعدها التحق «بشرى» بكلية الفنون الجميلة رغم حصوله على درجات تؤهله للالتحاق بكلية الهندسة، وبعد تخرجه حاول التلامس مع عوالم الفن التشكيلي المغوية، وشارك لمدة عامين في المعرض العام، لكن تحت ضغط الحياة وصعوباتها لجأ إلى نسخ اللوحات الأصلية وبيعها بالمشاركة مع الفنان «محمد كساب»، وبعدها بفترة قصيرة عاد إلى الأيقونات والرسومات الكنسية، عاد منفردا بعيدًا عن حارسه القديم «سمير حارس».

وعن الأيقونات يقول بشرى: علاقتي بالرسومات والأيقونات الكنسية علاقة روحية في الأساس، تصل إلى درجة العبادة والتقرب إلى الله، أعتمد على الأكاسيد والخامات العتيقة حتى تخرج الأيقونات بمسحة نورانية ودينية تُبلل القلوب بالتقوى والإيمان. آراء المصلين في أيقوناتي هي طريقي السحري إلى التعبير عنهم، لأنهم جزء من الأيقونة بتصورهم البسيط عن شخصياتهم المقدسة ورؤيتهم المثالية لها. الأيقونة تفتح للمصلين شرفة روحية يتقربون منها إلى الله، وبخلاف المسيح والعذراء والحواريين والقديسين الأوائل، لكل مسيحي قديسوه المفضلون، بالنسبة لي ارتبطت ارتباطا روحيًا بالبابا كيرلس السادس، الذي رسمته عشرات المرات، ولعمق صلتي الروحية بقداسته خرجت رسومي عنه مفعمة بالصدق والإيمان، وارتبطت كما ارتبطت أسرتي بكل رسوماتي لشخصه الرائع..

الشخصيات الدينية من تحدد الرسومات والأيقونات المطلوبة داخل الكنائس المصرية، حسب حاجة الكنائس وحسب رؤية المشرفين عليها، وكان للبابا شنودة الثالث (1923 - 2012) فضل بالغ في الاهتمام بفن الأيقونات وترسيخه داخل الكنائس المصرية خلال الأربعين عامًا الأخيرة، ومن قبله البابا «كيرلس السادس» (1902 - 1971) الذي ساعد في سفر الفنان «إيزاك فانوس» إلى فرنسا ودراسة فن الأيقونات.. (اقتصر الفن القبطي على رسم المخطوطات الهندسية وفروع أوراق وثمار بعض النباتات مثل الرمان والعنب في الفترة من القرن الثامن إلى العاشر الميلاديين, وفي القرن الثاني عشر زيّن الرسام «مقار» كنيسة «أنبا مقار» بالعديد من الصور الزيتية، بعدها غاب الفن القبطي حتى القرن السابع عشر، إلى أن عاد مع الفنانين القبطيين «حنا الناسخ» و«بغدادي أبوالسعد»، ومنذ القرن الثامن عشر عهّدت الكنائس والأديرة المصرية بالفن القبطي إلى مصورين من الأرمن والروم والإيطاليين ومنهم «يوحنا الأرمني» الذي رسم عددًا من الأيقونات الموجودة في كنيسة السيدة العذراء بمصر القديمة، واختفى الفن القبطي طوال القرن التاسع عشر، خاصة بعد اعتراض البابا «كيرلس الرابع» المعروف تاريخيًا بـ«أبو الإصلاح» على المبالغة في التقدير من قيمة الأيقونات، وفي النصف الثاني من القرن العشرين اشتهر الفنان القبطي «إيزاك فانوس» (1919- 2007) الذي تخصص في فن النحت، قبل أن يؤسس قسم الفن القبطي بمعهد الدراسات القبطية عام 1954, وسافر إلى فرنسا لدراسة فن الرسومات والأيقونات الكنسية، وله لوحات قبطية عديدة داخل كنائس الكُرازة المرقسية وفي بلاد المهجر..).

وفي الأوقات التي قضيتها في الكنيسة مع الفنان «طارق بشرى» لم أشعر لحظة واحدة إلا بكوننا مصريين يدينان بالمحبة والسماحة اللتين حث عليهما الإسلام والمسيحية معًا، المحبة التي استشعرتها تجاه أول أيقونة سرد لنا التاريخ قصتها, ودخلتني «الأيقونة القبطية» مثلما دخلني «الخط العربي» من قبل، وعرفت أن الله محبة والفن غرضه الأول نقاء الروح.

 

غلاف العدد


هناء الدغيم ترسم إحدى جدارياتها على سور الجامعة الأمريكية في شارع محمد محمود بوسط القاهرة

الجرافيتي على حوئط وسط القاهرة


الجرافيتي على حوئط وسط القاهرة


الجرافيتي على حوئط وسط القاهرة


الفنان محمد طبل


لوحة غفوة



لوحة الريس عمر


إحدى لوحات طبل المقلدة


محمد مورو


محمد مورو يرسم على واجهة أحد المراكب


محمد مورو ومساعده يرسمان على مركب كبير للصيد


محمد مورو يرسم على واجهة أحد المراكب

محمد مورو يرسم على واجهة أحد المراكب


رسومات وخطوط محمد مورو تغطي مراكب الصيد


طه شحاته أثناء لقائه مع محافظ بورسعيد الأسبق سامي خضير


طه شحاته أمام إحدى لوحاته


طه شحاته وسط أحفاده


طه شحاته مع أصدقائه


 

الفنان الشعبي طه شحاته مع أحد بورتريهاته


رسومات طه شحاته على عربات اليد الخشبية


رسومات طه شحاته على عربات اليد الخشبية


جدارية العودة من الحج على مدخل أحد البيوت للفنان طه شحاته


رسومات طه شحاته على عربات اليد الخشبية


رسومات طه شحاته على عربات اليد الخشبية


طارق بشرى وجدارية المسيح محاطًا بالملائكة


أيقونات طارق بشرى


أيقونات طارق بشرى


أيقونات طارق بشرى


من رسومات طارق بشرى


طارق بشرى مع أيقوناته