سلام الراسي.. أديب تفتحت موهبته بعد الستين

سلام الراسي.. أديب تفتحت موهبته بعد الستين
        

          في الرابعة والستين من العمر بدأ سلام الراسي رحلته الأدبية. أليس غريبا أن يبدأ هذا العاشق الفذ للكلمة رحلته متأخرًا ويصبح بحق شيخ الأدب الشعبي في لبنان?

          وُلد سلام الراسي سنة 1911, في أبل السقي, وهي قرية في جنوب لبنان قريبة من الحدود اللبنانية مع المناطق الشمالية من فلسطين. كان والده, يواكيم الراسي, مبشرا بروتستانتيا, يسعى إلى خدمة الناس من خلال كنيسته, ومدرسا لأبناء المنطقة, على اختلاف طوائفهم الدينية وتوجهاتهم السياسية. ولقد تمكّن هذا الوالد من أن يَبُثَّ في نفوس أبنائه حب العلم وعشق الثقافة, فنشأ هؤلاء على التعلق بجمال المعرفة والتمسك بخيراتها. وكأن لسلام أن ينطلق في دروب الحياة, من هذه البيئة المشبعة بعبق ريف جنوب لبنان, حيث للثقافة والأدب والانتماء السياسي خصوصياتها المميزة والمؤثرة في بناء شخصيات ناس تلك المنطقة وصوغ كثير من مناحي توجهاتهم  المستقبلية. الحفاوة بالشعر والاهتمام بالأدب والعناية بالمقول الجميل شكلت نسيجا تسربل به عقل سلام الراسي وتجلبب به لسانه الفصيح.

          والاهتمام بالناس, كل الناس, على كل ما يمكن أن يكون بينهم من اختلاف أو تغاير, شكّل توجّه سلام الراسي في مسلكية حياته وسياسة عمره. فوجد في (الآخر) مساحة رحبة خصبة لعيش الوجود, وصار الوجود بالنسبة إليه عيشا للآخر في حميمية الذات, وسعيًا للوصول إليه ومخاطبته وممارسة الثقافة والأدب والانتماء عبره وبه. وظلّ  سلام الراسي متمسكًا بهذه الرؤية للوجود, يتنقّل بها في مسالك الحياة, الحلو منها والمر, طيلة عمره المديد, حتّى كان له أن يغادر الدنيا يوم 28/4/2003, معتزّا بما عاشه, مكرّما ممن عايشوه, مغنيا ثقافة أمته, ومثريا أدبها, ومميزا وجوده فيها بعطاء كبير خوّله أن يكون, بإجماع معاصريه, فضلا عن دارسيه الأكاديميين, شيخا للأدب الشعبي في لبنان, ورائدا من رواد التفاعل الحي مع التراث الأدبي الشعبي في العالم العربي.

الموظف الصغير

          ولئن بدأ الراسي حياته مثقفا شبه عاطل عن العمل, إذ انتسب سنة 1934 ولسنة دراسيّة واحدة إلى المدرسة الزراعية التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت, ثم انصرف إلى نظم الشعر ومخالطة أهل الثقافة والأدب في زمانه, مستغرقا في كثير من شئون سياسة ذلك الزّمن عبر حماسه لمجموعات الحزب الشيوعي في منطقته, فإنه استقرّ, في منتصف عمره, موظفا في إحدى الإدارات التي تعنى بشئون التعمير والبناء في الدولة اللبنانية. وكان له, وهو البعيد كل البعد عن أمور الهندسة وشئون البناء وقضايا المقاولين, أن يُعيَّن, بصورة رسمية, مدربا هندسيا, وأن يكلف فعليا من قبل القيّم على تلك الإدارة, بالسعي لحل مشاكل أبناء الشعب من الناس المتعاملين معها, فجهد سلام الراسي في أن يكون نصير أبناء الشعب هؤلاء والمدافع الأبرز عن حقوقهم ومصالحهم. ولما بلغ الراسي السّن القانونية لتقاعد الموظفين وانكفائهم عن العمل الرسمي, وجد أن في مخزونه من معرفة الناس والانغماس في شئونهم والتعمق في فهم منطقهم وأنماط تفكيرهم وسبل ردّات فعلهم, ما يشكل خميرة لنشاط طالما اشتاقت إليه نفسه, ويمثل ساحة رحبة الأرجاء يمارس فيها وجوده, بعد أن نيّف في هذا الوجود على الستين من سنين العمر.

          هكذا بدأ سلام الراسي, وهو في الرابعة والستين من عمره, نشاطا كتابيا وثقافيا مميزا, انفتل فيه نحو الناس يكتب عنهم لهم, ويحكي لهم ولأولادهم حكايات أسلافهم وآبائهم, بل حكاياتهم, عبر توجّه أدبي أسماه (أدب الناس للناس). فملأ الراسي, بنشاطه هذا, فراغًا عجز كثيرون قبله عن سد ثغراته بالطريقة التي سدّها بها, وامتاز عنهم بجماليّة كتابيّة قلّ أن عرفها الأدب العربي المعاصر. وكان أن استمرّ في هذا النّهج من العمل والتوجه حتى آخر رمق كان فيه, فأغنى المكتبة الأدبية بمكتوبات ذات طابع فريد, وبثروة فذّة من النتاج الأدبي الشعبي العربي الذي صاغه بوله العاشق وإخلاص المحب وإيمان الملتزم ووفاء الحريص الغيور. فصدر له, بدءا من سنة 1971 وحتى قبيل وفاته عدد كبير من الأعمال التي منها: (لئلا تضيع) (1971) و(في الزوايا خبايا) (1974), و(حكي قرايا وحكي سرايا) (1976), و(شيح بريح) (1978), و(الناس بالناس) (1980), و(حيص بيص) (1983), و(الحبل على الجرار) (1988), و(جود من الموجود) (1991), و(ثمانون أو العُمر الدائب في البحث عن المتاعب) (1993), و(القيل والقال والنّظر في عقول الرجال) (1994), و(اقعد أعوج واحكي جالس) (1996), فضلا عن أعمال أخرى كان لها أن تنضم إلى أخواتها من كتابات الراسي في مجموعة (الأعمال الكاملة) التي توزّعت على أربعة أجزاء.

الأدب.. للناس

          من الواضح أن سلام الراسي من المؤمنين بأن الأدب ابن النّاس ويتوجّه إلى الناس.

          ومن هنا, فقد التزم الراسي, في كتاباته, كما في حياته كلها, الناس هاجسا ثقافيا وأدبيّا ووجودا اجتماعيا وتاريخيا ومستقبليا يتوجّه عبرهم إليهم, ويعمل على تقديم ما عنده بأقرب ما يمكن من طرقهم ومناهج تعبيرهم وسبل انفعالهم وفعلهم. وإذا ما كان من تحليل لهذا التوجه عند الراسي, فلعل بالإمكان ربط هذا الأمر بمصدرين مؤثرين في تكوينه الفكري والاجتماعي.

          أوّل هذين المصدرين ما عرفه الراسي عن والده, المنغمس في الخدمة العامّة للشعب, والذي توفي ولم يكن ابنه سلام تجاوز السابعة من سني العمر. لقد كان هذا الوالد, وكما يُخبر سلام الراسي في كتابه (ثمانون), قسّا بروتستانتيا ومعلما مدرسيا متفانيا, لا في خدمة رعيته وحسب, بل في خدمة الناس قاطبة من أهل منطقته, وكانت والدة سلام تعد ابنها هذا ليكمّل رسالة والده ويسير على خطاه. أما ثاني هذين المصدرين, ولعله الأكثر فاعلية بينهما, فيكمن في الفهم الذي ساد جماعات الحزب الشيوعي وبتأثير من مبادئ مذهب (الواقعية الاشتراكية), في النصف الأول من القرن العشرين, حول أهمية توجه النشاط الإنساني إلى الجماهير والتفاعل الحياتي مع هذه الجماهير عبر الأدب وبه خدمة لما فيه مصلحتها وأحقيتها في العيش وممارسة الوجود على مختلف مستوياته. وغنيّ عن البيان, أن سلام الراسي لم يكن, وخاصة في المرحلة المبكرة من شبابه, بعيدا أبدا عن أجواء هذه الجماعات الشيوعية في منطقته.

          وإذا ما كان سلام الراسي آمن, عبر الأسرة, والمجتمع من ثم, بدافع من تثاقفه مع الواقع العقائدي والاجتماعي الذي نشأ فيه, بشعبية الأدب طريقا ومنهجا وأسلوبا في ممارسة الكتابة والمشاركة في تفعيل الثقافة, فإنّ هذه (الشعبية) تمثّلت له بشكل كبير في الارتباط بالثقافة القروية الشعبية التي كانت أوّل ما واجهه وتعامل معه من مظاهر الفكر والعيش.

          وإذا ما تأمل المرء ما تركه الراسي من مكتوبات, لوجد أن البيئة الثقافية لأهل جنوب لبنان, حيث ولد الراسي وترعرع ونشأ, هي الأكثر حضورًا وبروزًا, وهي المحور الأساس الذي تدور من حوله هذه المكتوبات أو تنطلق منه في قيمها ومبادئها وأعرافها واتجاهاتها وعرض خبراتها الحياتية وطرح رسالتها.

          ومن جهة أخرى, فقد تمكّن سلام الراسي من معاينة ممارسته لفهمه لهذه الثقافة وامتحانه لهذه الممارسة عبر وظيفته, غير الرسمية, التي أُسْنِدَت إليه في (مصلحة التعمير), فكان عمله هذا المختبر الفعليّ الكبير الذي امتحن فيه أمور الثقافة الشعبية ومسالكها, حتى تمكن من الإمساك بزمام كثير من مقوّماتها وعناصرها التي أصبحت الماء والعجين لكتاباته.

          ومن هنا, لم يقتصر الرّاسي في تعامله مع الثقافة الشعبيّة القرويّة, وإن كانت هذه من المرتكزات الأساس في تكوينه الثقافي, لكنه تفاعل أيضا مع الثقافة الشعبية المدينية بعدما تسنى له أن يقيم في العاصمة بيروت ويطّلع على حقيقة تراثها الشعبي وعقلية أبناء الشعب فيها. وإنها لظاهرة فريدة أن يركّز مثقف على الجوانب الشعبية في العاصمة بيروت, في حين أن غالبيّة المثقفين الذين عرفتهم هذه العاصمة, أو حتى أنجبتهم, قلّ أن استطابوا التركيز في كتاباتهم على الجوانب الشعبية الحقيقية من حياة ناس العاصمة.

الشعب مادة الأدب

          درج بعض الناس, ومن بينهم دارسون أكاديميون كتبوا رسائل وأطروحات جامعية عن سلام الراسي, على اعتباره جامعًا للتراث الشّعبي في لبنان, بل إن بعضهم أمعن في سعي إلى درس قسم من مكتوبات الراسي باعتبارها وثيقة تاريخيّة اجتماعيّة مستلة من ماض نَبَتْ عنه بعض مجموعات كتب التاريخ أو حاولت تجاهله. ولكن نظرة مدققة في مكتوبات سلام الراسي هذه تشير إلى أنه كان يستقي كثيرًا من مواد كتاباته من التراث ومن الأحداث والأقوال الشعبية ليصوغها بلغته الخاصة وليقدمها أدبا يتّسم بروح الشعب ويفوح بعبق وجوده. فالرجل أديب قبل أن يكون مؤرخا, وهو يؤكد هذا بقوله (إنني أعنى بالأدب الشعبي, وهو أدب التعبير عن الواقع الإنساني, ولا شيء غير الواقع الإنساني). ويقول الراسي, أيضا: (قد يكون هنالك أدب خاص بالنخبة من الناس تُعبّر به عن مفاهيمها في الحياة وتذهب به مذاهب شتّى في التسميات. وقد يكون هنالك أدب خاص بالعامّة من الناس وهو يتمثل بالحكايات والأمثال والخرافات والأساطير والأغاني والأزجال, ويُعرف باسم الأدب الشعبي. ولكن مادامت هنالك أفكار وعواطف وهموم واعتبارات مشتركة عند جميع النّاس, فلماذا لا يكون عندنا, إذن, أدب ناس لجميع الناس?). وهكذا يتأكد أن سلام الراسي كان أديبًا شعبيًا, مادة أدبه عن الشعب وهذه المادة موجّهة إلى الشعب, ولقد امتاز توجّهه الأدبي بلغة تراعي الفصحى مقدمة لها أجلّ آيات الاحترام, والاعتزاز والتقيد بأصول الصرف والنحو, لكن من غير ما تحرُّجٍ من الاستشهاد بالعامية أو المحكية حيث يُشَكّل هذا الاستشهاد ضرورة لا بد منها لكمال الأدب وتألق روعته. ولعلّ في هذا ما قد يُذَكِّرُ بعض الناس بأبي عثمان الجاحظ, ودعوته المشهورة إلى الاستشهاد بالكلام بالكيفيّة التي قيل بها, حتّى وإن كانت هذه الكيفية مغايرة لأصول اللغة وقواعد صرفها ونَحْوِها. إنّها الدقة العلمية بعينها, وسلام الرّاسي في هذا دقيق جدًا أكان في كتابته باللغة العربيّة الفصحى, أو كان ذلك في استشهاده بكلام العامّة.

          إنّ الراسي لا ينهل في أدبه من التاريخ بقدر ما يعبّ عبّا من الحاضر, فالراسي ليس باحثًا متحفيًا لا يرى سوى الماضي ولا يتقيّد إلا بظروفه وشروطه وواقعه. والراسي ليس, بأي حال من الأحوال, باحثًا توليديًا, يخترع أمورًا لم تكن ويثبت أحداثا أو أقوالا لم تُقَل. إنه صنف آخر, فيه من هذا وذاك, وفيه ما يسعى هو دائما إلى تعريف نفسه به: (إنه راوية أحاديث الناس للناس). إنّ الراسي لا يغوص في التاريخ ينقّب عن العاديات والمهجورات والتّالفات اللواتي قد يحتجن إلى ترميم, كما قد يفعل خبير المتاحف, والرّاسي لا يقوم, كذلك, بعرض ما يصادفه من تراث شعبي كما يجده في حالته (الخام) التي يكون فيها. إنّ سلام الراسي, وكما يعرف هو عن نفسه, في مقدمة وضعها لواحد من أوائل كتبه (حكي قرايا وحكي سرايا), يسعى إلى إلقاء الأضواء على جمال أفكار عامّة الناس في لبنان وأقوالهم.

          وإذا ما أراد المرء تعرّفا على هدف سلام الرّاسي من كتبه, فإنه يجد هذا في كلام الراسي نفسه في مقدمة كتابه (حيص بيص) إذ يذكر: (يُحكى أن أحد رجال الدين أراد أن يبني معبدا لله في قريته, وراح يستنهض همم أبناء القرية - وجلهم من القرويين - ليجودوا على الله ببعض ما جاد عليهم من حبوب أرضهم. فقال أحد المشككين: وهل تصير الحبة قبة? لكن ذلك لم يفت في عضد رجل الله وثابر على جمع الحبوب وبيعها وإنفاق أثمانها في سبيل الله حتى أتم بناء المعبد, فقيل: صارت الحبة قبة. وهأنذا أثابر منذ ثلاث عشرة سنة على جمع حصاد مأثورات الأدب الشعبي.. فهل تصير الحبّة قبّة?).

          وفي هذا النّص, للراسي, ما يشير إلى أن الرجل كان على وعي تام بأنّه يؤسس لجديد في الكتابة الأدبيّة العربيّة المعاصرة, وأن هذا الأمر يحتاج إلى كثير من الصّبر والجلد والمثابرة إذ هو جديد بشكله ومضمونه وهدفه. ومن هنا, يمكن القول إن سلام الراسي أديب عربي معاصر من نوع قلّ أن عرفه الأدب العربي المعاصر من قبله, بل هو أديب عربي معاصر أسّس لكتابة أدبيّة مميّزة بموضوعها ولغتها وهدفها,ولذا, فلا يكون من العدل أن يقارن المرء بين أدب سلام الرّاسي وكتابات كثير من الجماعات التي اهتمّت بتدوين التراث الشعبي وأقواله. هؤلاء مدوّنون للتراث كما كان أو كما وصل إليهم, أمّا الراسي فأديب يكتب بلغة الشعب إلى الشّعب.

          تشكّل (الحكاية) أساس بنائيّة النص عند سلام الراسي, بل هي مصدر كبير من مصادر حيويّة نصوصه وقدرتها على التّوصيل أيّا كانت نوعيّة المتلقي. والحكاية. كما يقول الراسي, (من أبلغ وسائل التّعبير في الأدب الشّعبي. والأدب الشعبي, حسب تقديري, هو أيسر سُبُل التفاهم بين النّاس, حتّى بين المفكرين ورجال السياسة). ويمكن للمرء أن يلاحظ أن ما نص في كتب سلام الرّاسي إلاّ ويقوم على حكاية ما, وقد تكون هذه الحكاية واقعيّة معروفة من قبل كثيرين, كما يمكن أن تكون من خيال الراسي نفسه, لكن الغرض منها تيسير وصول الرسالة التي يريدها من النّص. ويأتي (المثل الشعبي) أو (القول المأثور) أو (الشّعر) عاميّا أو فصيحا مع الحكاية, عند الراسي, ليدعم رسالتها كي تكون أكثر تأثيرًا في المتلقي أو أشد سطوعا في ذاكرته ومشاعره.

التجربة الأدبيّة

          ولذا, يُمكن اعتبار سلام الراسي أديبا عربيا معاصرا, قدّم إلى الأدب العربي تجربة جديدة في تاريخه الحديث. لقد بشّر الراسي, عن وعي ومسئولية أدبيّة تقوم على رؤية موضوعيّة واضحة, بنوع جديد من الأدب. إنّه ليس بأدب النّخبة, وإن كانت النخبة تُقْبِلُْ عليه وتسرّ به, وليس بأدب التراث, وإن كان فيه كثير من التراث, وليس بأدب العامّة, وإن كانت العامة تُشغف به وتستعذبه. إنه, وببساطة شديدة ووضوح أشد, وكما سمّاه صاحبه الراسي, (أدب الناس للناس).ولعلّ هذا الأدب, بالمفهوم الذي أشار إليه الراسي, يشكّل متابعة ما لبعض ملامح تجربة الأديب العربي الكبير أبي عثمان الجاحظ, الذي عاش في العصر العبّاسي, فإن في الأمر ما قد يشكّل دعوة إلى تعمّق في دراسة تجربة الراسي هذه, في ضوء فهم جديد لتجربة الجاحظ.

نماذج من كتابات سلام الراسي

الحمار  وصاحبه

          في حلقة تلفزيونية سابقة حكيت حكاية الرجل الفهيم الذي كان يرى رؤيا غريبة ويجد لها تفاسير حسب واقع الحال. قال أخيرا إنه رأى فيما يرى النائم, حمارا يركب على صاحبه فتشاءم كثيرا, لكنه ما لبث أن اكتشف أن حميرا كثيرة صارت تركب على أصحابها في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.

          أنا حكيت الحكاية فتلقفها رواة الأخبار وأدخلوها في الذاكرة الشعبية. وصار كل واحد منهم يروي لي إذا التقاني أنه يعرف حمارا يركب على صاحبه, وما أكثر أصحاب الحمير الذين صاروا مطايا حميرهم.

          (من كتاب ثمانون, مؤسسة نوفل, بيروت, الطبعة الأولى, 1993, ص 116).

أدب طبيخ العميان

          كان الأديب الظريف رياض حنين يتحدّث في مجالسه عمّا كان يسميه (طبيخ العميان). وسألناه كيف يكون طبيخ العميان, قال إن العميان تركوا يوما وحدهم, وجاعوا. قالوا هلمّ نطبخ لنا ممّا نجده عندنا, وجاء أحدهم بطنجرة, وراح كل واحد منهم يضع فيها مما وقع في يده. وهكذا وضعوا البصل مع التفاح والخل مع العسل والترمس مع البطاطا والزّيت مع النبيذ وطبخوا وأكلوا. ولذلك يقال عن كل خليط من الأقوال والأفكار مثل (طبيخ العميان). رحم الله رياضا لو كان بقي حيّا حتّى الآن, لرأى إذن كيف صار (أدب طبيخ العميان), من أكثر أنواع الأدب رواجا.

          (من كتاب اقعد أعوج واحكي جالس, مؤسسة نوفل, بيروت, الطبعة الأولى, 1996, ص128).

 

وجيه فانوس   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الفكاهة والتاريخ جزء أساسي في تراث الراسي





من إصدارات سلام الراسي