إنجر وسرجنت.. سيدتان بالأسود

إنجر وسرجنت.. سيدتان بالأسود
        

تختلف مقاييس الجمال من مكان إلى آخر ومن عصر إلى آخر أيضا.
واللوحتان اللتان نعرض لهما هنا خير مثال على ذلك.

          فمن يتطلع اليوم إلى لوحة (السيدة مواتيسيه) للرسام الفرنسي جان اوجست دومنيك إنجر (1780 - 1867م)  قد يقول إن هذه المرأة تفتقر إلى الجمال والجاذبية. فهي سمينة, ذات كتفين قصيرتين ومنحدرتين, وذراعين مكتنزتين - كما هي حال الأطفال - وفمها صغير جدًا, مقارنة بالخدين المنتفخين اللذين حوّلا وجهها إلى كرة مستديرة, ولكن عندما رسم إنجر هذه اللوحة عام 1851م, كان همّه الأول والأخير أن يرسم صورة الأنثى الجميلة كما كانت شائعة آنذاك, أي (ملكة جمال) بمقاييس ذلك العصر.

          نعرف من الوثائق التي وصلتنا أن الفنان أمضى عدة أشهر في البدء وهو يعمل على رسم الثوب الأسود والحلي الذهبية والمجوهرات ليسحرنا بالدقة التي رسم بها قماش الدانتيل الأسود وألوان الياقوت الأحمر والسفير الأزرق في الحلي, وحبل اللآليء التي تزين جيدها وورق الجدران الأحمر. وفي آخر مراحل عمله على هذه اللوحة, رسم الذراعين ومن ثم الوجه والعنق.

          يأخذ بعض النقاد على الرسم الأكاديمي في القرن التاسع عشر, الذي يعتبر إنجر أحد كبار أساتذته, خلوّه من عمق المضمون. فالسيدة الظاهرة في هذه اللوحة ذات وجه لا يقول شيئا محددا, ولكن الأمر لا يمثل مشكلة, لأن الغاية من هذه اللوحة لم تكن تخليد السيدة مواتيسيه, ولا استكشاف شخصيتها الفريدة, بل تقديم صورة عن الجمال بأوضح شكل ممكن غير قابل للتأويل حسب مزاجية المشاهد. من هنا سخّر الفنان كل عبقريته وريشته طوال أشهر لرسم أدق التفاصيل, بأكثر أشكالها الواقعية. إنها من اللوحات القليلة التي تُقرأ بالعين فقط وفورا, والوقوف مطولاً أمامها لن يؤدي إلى (اكتشافات), بل إلى مجرد المزيد من الاستمتاع بالجمال.

          أما لوحة الأمريكي جون سنجر سرجنت (1856 - 1925م), التي تمثل السيدة, أدريان إيسلين فتختلف جذريًا عن لوحة إنجر.

          نرى هنا أيضا سيدة بالثوب الأسود الطويل, تمسك مثل الأخرى مروحة بيدها, ولكن شعورنا أمامها يختلف عن شعورنا أمام لوحة إنجر.

          يروي حفيد السيدة إيسلين أن جدته لم تكن ترغب في الوقوف أمام الرسام. فدخلت إلى القاعة حيث كان ينتظرها الفنان وهي في مزاج متردد, ممسكة بالمروحة الفرنسية التي لم تكن تفارقها. وفور وصولها إلى مقربة منه, وجد الرسام في وقوفها قرب الطاولة الوضع المثالي بالنسبة إليه لرسمها.

          كان سرجنت في تلك الفترة يرسم الناس كما يراهم, بغض النظر عن مشاعرهم أو تمنياتهم, وكان يحلّق على أفضل وجه عندما يكون مزاج الشخصية واضحا, ولهذا كانت السيدة إيسلين في تلك اللحظة (الموديل) المثالي, فهي صلبة, عدوانية قليلا, ذات شخصية قوية, ويمكن للمشاهد أن يعجب بصورتها من دون أن يكون عنده أي استلطاف لشخصيتها.

          فعندما قال الفنان للسيدة إنه يريد أن يرسمها كما هي, لم يشر بصدق إلى أنه كان يريد أن يرسم ترددها ونظراتها المتعالية, وارتباكها الظاهر في اليد على زاوية الطاولة بشكل غير مبرر, وأذنيها الطويلتين والقبيحتين.

          فالغاية هنا كانت التقاط المزاج الآني فقط, وقد نجح الفنان في ذلك. غير أن معالجته للباقي كانت إلى حدٍ ما مختصرة ولامبالية, فالثوب مرسوم بفرشاة غليظة خلال ساعات قليلة, ولولا وجود الطاولة لما عرفنا أن هذه السيدة تقف في غرفة, كما أن المروحة التي تحملها تختلف تماما عن تلك التي كانت تحملها السيدة مواتيسيه, وما أساء إلى هذه اللوحة - إذا جاز التعبير - هو عدم اهتمام الفنان بتحميل وجه المرأة ما هو أعمق من المزاج الظاهري, أي ذلك الإحساس الإنساني العام الذي يفترض فيه أن يظهر في الأعمال الكلاسيكية, ولهذا قد لا يكون من التجني القول إن هذه اللوحة تبقى بالرغم من براعتها التقنية, سطحية إلى حد كبير, ودون لوحات الكلاسيكيين الفرنسيين من حيث الأهمية.

 

عبود عطية   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جان أوجست دومينيك إنجر, (مدام مواتيسيه), (146 × 100 سم), 1851 م - مجموعة صموئيل كريس





 





 





جون سنجر سرجنت ( السيدة أدريان إيسلين) (153 × 93 سم), 1888م, متحف الناشيونال جاليري في واشنطن