تجربة جديدة لصناعة معجم تاريخي عربي مصطفى عبدالغني عرض: ناصر أبو عون

تجربة جديدة لصناعة معجم تاريخي عربي

هذه أول محاولة - فيما نعلم - تستهدف تفسير بواعث تحرير معجم لمصطلحات التاريخ العربي على الصعيدين المعرفي والمنهجي في اللغة العربية في العصر الحديث.

وهي مثل كل محاولة تسعى إلى التأسيس أكثر من توخي الكمال أو زعم النضج.

ولهذا حاول المؤلف عبر عدة تساؤلات محورية أن يؤصل (منهجيا) للباعث الرئيسي وراء الإقدام عليها والإشارة إلى المنهج الذي توخاه وطريقة المعالجة ومصادرها.

نقطة الانطلاق

أعطى بزوغ شمس النظرية النقدية في النصف الثاني من القرن العشرين ونقدها للتفسير القائم على الشرح دفعة لحركة التأويل التي تسعى إلى التفسير ومن ثم الفهم. وبذلك كانت الحركة النقدية قوة لدعم أصحاب الهرمنيطيقيا وكانت إرهاصا حقيقيا لفكرة ما بعد الحداثة - وإن لم تسع إلى هذا - أو تتوقع, على الأقل, المدى البعيد الذي انطلق إليه أصحاب ما بعد الحداثة.

والأساس الأول الذي اعتمد عليه د. مصطفى عبدالغني في نحت مصطلحات معجمه التاريخي هو رفض بعض الأفكار الجوهرية للمدارس الفكرية التي كانت تتسيد المسرح التاريخي فانطلق من نقد الوضعية سواء كانت محدثة أو تقليدية. ووجه سهام نقده - بداهة - إلى الثمرة اليانعة للفكر الوضعي: النظرية الوظيفية, ولعل هذا ينتهي بنا إلى نتيجة مهمة, أو قل إنجاز باهر من إنجازات النظرية النقدية ألا وهو نقد النظريات الكبرى والتعميمات الكاسحة بكل أنواعها وتوجهاتها أو التحفظ عليها. هذا على الصعيد النظري.

أما على الصعيد المنهجي فقد وجه نقده إلى التوجه الإمبيريقي الذي يأخذ في اعتباره الوثائق التاريخية والتراجم الشخصية والسجلات الحكومية والخاصة على السواء... الخ. وهذا المنهج في النهاية لا يقترب من الواقع إلا في ضوء مفاهيم نظرية ويضرب صفحا عن التنظير كلية ويجانبه الصواب لأن صاحبه يشرع فيه ويسير في خطواته وهو معصوب العينين.

والنظرية النقدية التي اعتمدها د. مصطفى عبدالغني شكل من أشكال المذهب العقلي وترى أن الواقعي يتعين أن يكون عقليا. والعقلية في هذا السياق النقدي لا تشير إلى المنطق الصوري وإنما تدل على عملية فكرية جدلية يكون فيها الكل أكثر من مجموع أجزائه وفيها تظهر التناقضات باستمرار وتختفي في إطار قضايا تركيبية جديدة وفي رأي هيجل أن التاريخ كان يتحرك بلا هوادة تجاه نهاية عقلية (رشيدة) ولكن التفسير الماركسي لهيجل عند أصحاب النظرية النقدية قد استبعد نهائيا فكرة الحتمية وربط عملية التطور التاريخي بالممارسة الإنسانية.

المنهج والنقد

سعى المؤلف إلى الاتكاء على وظيفة النقد الحضاري في بناء مادة معجمه والتي تتلخص في التمهيد للتغيير الذي يسبقه الإدراك, وهي عملية فكرية متكاملة تعتمد على إدراك وجود هوامش حول الدائرة المهيمنة والنظر إلى محتواها برؤية محايدة لا تعتمد على أحكام مسبقة ثم قراءتها بلغة لا تتوسل اللغة الأبوية السائدة - لغة المؤسسة - في محاولة لإدخالها على المتن الرئيسي لمصطلحاته. بل إنه حول التعارض بين نظام المؤسسة الذي يتحكم في فعل النقد إلى تجانس يخدم الفعل النقدي ذاته عبر الانفتاح على الهوامش التي تحوي دلالات مغايرة وعتبات نصية معتمة.

عندئذ فقط يتحرر القارئ من الشرط المؤسسي المهيمن ويصبح بإمكانه إحداث ذاك التمهيد الفكري للأرضية اللازمة للبنى البديلة وتحويل التعارض, بين المركز والهامش, بين الجمود والتحول, بين الثابت والمتغير إلى تجانس هو ما أسماه إدوارد سعيد بالنقد المدني, وهذا النقد لا ينطوي على خطوة واحدة بمعنى أنه عملية صيرورة مستمرة تزيل الغبار عن الهوامش لتنحت لها مكانا في المركز, ويسلط الضوء على الواقع وتاريخه ويكشف عن حقيقته الظاهرة والخفية, ويخطط أساليب ومتطلبات تجاوزه, راسما الخريطة الفكرية التي تضيء سبل الفكر والممارسة معا ويحلل في الوقت نفسه آليات السلطة كما عرفها (فوكو) علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة للمجال الذي تعمل فيه تلك القوى مكونة لتنظيم تلك العلاقات, إنها الحركة التي تحول تلك القوى وتزيد من حدتها وتقلب موازينها بفعل الصراعات... وهي أخيرا الاستراتيجيات.

نسبية التفسير

يمكننا هنا استعارة الفكرة الأساسية لكريستوفر بتلر والتي تحدد رؤية العالم وتحدد أطر الدلالة التي يقرأ المؤلف في ضوئها النص ويفهمه, فالمؤلف حين ينقل تفسيره للمصطلح إلى القراء فإنه يهدف - بصورة واعية أو غير واعية - إلى نقل وجهة نظره الأيديولوجية وتدعيم رؤيته للعالم وعلى هذا فكل تفسير له هدف برجماطيقي في نهاية الأمر.

ومن هذه الرؤية طبقا لتقسيم بتلر نرى أن المصطلح التاريخي عند مصطفى عبدالغني ينقسم إلى ثلاث مناطق:

1 - الموضوع والأفكار المترابطة داخل المصطلح.

2 - السياق أو الموقف الذي يطرحه المؤلف داخل المصطلح لانتظام الموضوع والأفكار, بحيث تكتسب معناها ودلالاتها, ويكون هذا السياق بمنزلة الإطار المرجعي الأول لإيجاد الدلالة وهو ما يسمى بالنص المصاحب.

3 - ثم السياق التاريخي الحقيقي للمصطلح المسمى أي الحقبة التاريخية التي يصورها المصطلح على نحو ما نعرفها من خلال قراءتنا للتاريخ, وهذا السياق التاريخي هو الإطار المرجعي الثاني لإيجاد الدلالة وتحديد المعاني.

ويجب أن نفرق تبعا لرؤية بتلر في تفسير المصطلحات بين ركنين:

1 - أطر الافتراضات والأفكار التي تشكل رؤية القارئ للعالم والتي يفهم من خلالها نص المصطلح وهو ما يسمى بخلفية المعلومات الأساسية.

2 - استخدام هذه المعلومات الأساسية استخداما واعيا, وهو ما يسمى بمشروع الفهم والتفسير, ومعنى هذا أن هناك فرقا بين إطار التفسير اللاواعي وخطة التفسير الواعية.

ونؤكد هنا أن جميع المصطلحات تكتسب معانيها ودلالاتها في إطار علاقة متبادلة مع أطر التفسير وخططه المختلفة لدى القراء والمفسرين المختلفين, وتعتبر هذه الأطر النظائر العقلية والنفسية العلوية للنظم الإشارية التاريخية أو نظم المعاني والدلالات في ثقافة معينة, باعتبار أن تلك الأطر تقوم على مبدأ محاكاة الواقع وتفترض أن اللغة نظام من الرموز قادر على تصوير الواقع تصويرا مرضيا, وتعكس في جوهرها الأنماط نفسها في فهم الأفكار والتجارب وربطها بعضها بالبعض الآخر, وأن أنماط الفهم والربط هذه مبنية في ذاكرة الإنسان اللغوية.

محاولات سابقة

على مدى تاريخنا الحديث لم نشهد محاولات اقتربت من التوفيق في إنجاز مثل هذا المعجم والوعي بوظيفته الحقيقية, ولدينا أمثلة كثيرة للتدليل على هذا.

فقد أجهضت محاولات كثيرة من بينها محاولة المستشرق الألماني فيشر وقد كان عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة حين قدم مقاربة رائدة وإن كان يقدم العربي على التاريخي. لقد عرض فيشر مشروعه على أكثر من جهة علمية وغير علمية, أهمها جمعية فقهاء اللغة الألمان في مؤتمرهم بمدينة بال سنة 1907, كما عرضه على مؤتمرين استشراقيين بكل من كوبنهاجن وأثينا عامي 1908 و1912 إلى الأمير أحمد فؤاد وإليه يعود تكوين مجمع اللغة العربية, واعتمد فيشر في معجمه على أعمال مستشرقين سابقين له, وقد عرض مشروعه على مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1936 بمؤازرة المستشرق الإيطالي نللينو فأقر المجمع هذا المشروع في مرسوم إنشائه ولولا أن الحرب العالمية الثانية اشتعلت فجأة ما رحل فيشر وتوقف المشروع كله, ولم يمض وقت طويل حتى تخلى مجمع اللغة العربية نفسه عن المشروع باعتبار أن الشروط العلمية والمادية والفنية والإنسانية لا تتوافر في المجمع للقيام بهذه المهمة.

وقد علمنا أن جامعة توبجن تولت المشروع, غير أنه حتى كتابة هذه السطور لم نعرف أن أي جهة في الشرق أو الغرب اقتربت من فكرة هذا المعجم بمنهجية جديدة, على أن أقرب محاولة في هذا السبيل وأكثرها وعيا بضرورة إنشاء مثل هذا المعجم المحاولة التي أخرجها مجمع اللغة العربية تحت عنوان (معجم اللغة العربية الكلاسيكية), وهي عبارة عن مشروع فيشر السابق, غير أن المجمع حذف منها المفهوم المعرفي والتاريخي والمنهجي بشكل خاص.

وظيفة المعجم التاريخي

لقد سعى الكثير من الباحثين في عديد من المؤتمرات إلى وضع تصور للوظيفة المفترض أن يؤديها أي معجم تاريخي عربي, ونستطيع أن نحدد هذه الوظيفة بشكل عام في أن هذا المعجم التاريخي العام هو, على حد تعبير البعض ممن اجتهدوا في هذا السبيل, وهو اجتهاد يتحدد في الآتي:

أولا: ليست وظيفة هذا المعجم مع الألفاظ بقدر ما هي عرض وتحليل الألفاظ ووضع سجل تاريخي لها.

ثانيا: ليست وظيفة هذا المعجم هي النقل من المعاجم الأخرى السابقة, بقدر ما هي تدرج باللفظ عبر التاريخ في ضوء تراثنا اللغوي والإسلامي بصفة عامة.

ثالثا: إن وظيفة هذا المعجم ممتدة لتواكب اللغة عبر الأزمان معتمدة على محور واحد هو السلامة اللغوية وعدم الخروج على النهج العربي الأصيل.

رابعا: ليست وظيفة هذا المعجم تخطي أو تجاوز حدود المستوى الفصيح في جمع الألفاظ وإعدادها للمستوى العامي إلا بقدر ترويض العامي ورده إلى دائرة الفصحى.

ويمكن أن نضيف إلى هذا كله بدهية من بدهيات يسعى إليها د. مصطفى عبدالغني وهي أن المعجم العربي التاريخي يكاد يكون منتميا إلى العلوم الإنسانية في المقام الأول. بيد أن المهم هنا أنه يعبر - في الوقت نفسه - عن العقل الجمعي للأمة العربية, ومع ذلك كله - أو رغم ذلك كله - فإن السؤال قائم: لماذا نحتاج إلى معجم تاريخي عربي?

المعجم والمنهج

إن مراجعة المعاجم العربية بوجه عام, والغربية بوجه خاص اليوم يؤكد هنا أن هذه المحاولة يجب أن تكون مغايرة تماما لكل ما سبق في هذا الصدد وهو ما يعود إلى أن أصحاب المحاولات السابقة رغم جهدهم الكبير في هذا السبيل لم تتعد التركيز على (المعجم العربي التاريخي) وليس (المعجم التاريخي العربي) ولم يكن الاهتمام بالنواحي: الاشتقاقية والصرفية والتعبيرية والبيانية والأسلوبية... الخ.

بيد أن المؤلف يريد هنا أن يشدد على أمر بدهي هو أن هذا لا يعني أنه لا يولي (التأصيل) اهتمامه المفروض, وإنما لأنه يولي الدلالة التي هي تفسير متحول إلى التعبير أهمية قصوى وفي الوقت نفسه يعي أن التعبير ليس غير تركيب لفظي متحول إلى دلالة بمعنى أن المؤلف عندما ينظم الألفاظ التي ينوي دراستها فيوضح لكل واحد منها السياق التركيبي الذي قد تظهر فيه الكلمة ويحلل معناها أو معانيها إلى وحدات معنوية بسيطة فيستطيع وقتذاك أن يلقي الضوء على الحياة التاريخية لهذه الوحدات التي توافرت له من قبل المعلومات الكافية ليثبت وقت دخولها اللغة.

هذا الجرد التجريبي والمعنوي هو ما يطلق عليه اسم التعريف الذي قد يأخذ أشكالا متنوعة, فالمؤلف لا يهمل المفاهيم القديمة إذا جاء تعبيرا عن الحاضر كما إنه لا يتردد في نحت بعض المصطلحات من عناصر التراث في التعبير عن حالات معاصرة بشرط ألا يتعدى السياق الأخير المصطلح الذي يسعى إليه. إنه لا يتردد في رصد المصطلحات والمفاهيم التي عرفت في التاريخ العربي الحديث فهو لا يعمل في إطار التراث بمعزل عن الحاضر, ولم ينغمس في فروع العصر الحديث دون أن يتنبه إلى جذور الماضي, خاصة أننا نتعامل اليوم في عصر يغاير في أحداثه ومفاصله العنيفة ما كنا نعرفه في الماضي, مع ملاحظة أن تطور كل مصطلح أو تعريف يرتبط بالتطور التاريخي - لا اللغوي - في المقام الأول وما طرأ عليه واستخداماته المختلفة ووظائفه وإيراد النصوص والأسانيد عند الضرورة خلال التطور الزمني, مع مراعاة الترتيب وهذا يعني - بالعودة إلى المدرك هذا - أن الدلالة هنا ترتب منطقيا عبر ثلاث مراحل (المادة - التفسير - الترتيب).

وقد راعى المؤلف في هذا كله التعامل مع اللغة التاريخية بمفهوم وأفق فكري أوسع من التعبيرات الفكرية الخالصة ومن هنا فهي إن لم تخل من التزام شخصي فقد جهد الالتزام بالموضوعية.

 

مصطفى عبدالغني