الأولمبياد.. شعلة التنافس على السمو

الأولمبياد.. شعلة التنافس على السمو
        

          كتب عمرو خفاجي مقالة عن الأولمبياد (مجلة (العربي) العدد (549) أغسطس 2004), يدعو فيها إلى الاقتداء باليونان في بحثها عن الفضيلة والسمو. فاليونان لم تكن تعمل في النظرية وحدها, بل ابتكرت أدوات للمنافسة على السمو. وهذه الدعوة, كما نرى, تفصح عن وعي جمالي وسعي إنساني من أجل تجنيب البشرية الكثير من حماقاتها. ولا نظن أنه وصل إلى هذه الدعوة إلا بعد أن اطلع اطلاعًا كافيًا على هذه الوسيلة التي استخدمها الإغريق للابتعاد عن غرائز الدهماء الهوجاء. كانوا أصحاب فكر تنظيمي, مثلما كانوا أصحاب فكر تنظيري. وإذا كنا نجد في نظرياتهم أخطاء وأخطاء, فإننا نسعى, كما يقول الكاتب, إلى أن نكون يونانيين في وسائل سعيهم إلى الفضيلة والسلام. إن البشرية, بعد العصور الوسطى الدينية, اكتشفت اليونان وسعت لاستعادة وسائلها ليس في الرياضة فقط, بل أيضًا في السياسة والاجتماع والفلسفة والمنطق والفكر والرسم والنحت والأدب والمسرح, وقد وصلت البشرية إلى القمر ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه اليونان في وسائل ترتيب المجتمع وتحريك الفكر.

          ولكن في هذه الدعوة الراقية والواعية, ذات الكلام الجميل, نجد بعض الأخطاء في المعلومات التي استقاها, والتي لا تتعلق بالألعاب الأولمبية فقط, بل تتعداها إلى الميثولوجيا, وسوف نقتصر على أهمها.

أولمبي

          يقول الكاتب وقبل أن ندخل في تفاصيل الألعاب الأولمبية القديمة نشير إلى كلمة (أولمبي) وهي في الديانة اليونانية القديمة واحد من الآلهة الاثني عشر الكبار الذين عاشوا فوق جبال أوليمبوس.

          ليس أولمبي من الآلهة الأولمبية الاثني عشر, لا في الديانة اليونانية, ولا في الميثولوجيا اليونانية. ولا ندري كيف صدر هذا التصنيف عن الكاتب.

          أما الآلهة الأولمبية الاثنا عشر فهم: 1 - زيوس (جوبيتر) الرئيس. يتلوه أخواه. 2 - بوسيدون (نبتون) و3 - هاديس, ويسمى أيضًا بلوتو, 4 - أختهم هستيا (فستا) 5 - هيرا (جونو) زوجة زيوس, و6 - أريس (مارس) وهو ابنهما, وأطفال زيوس: 7 - أثينا (منيرفا) 8 - أبوللو 9 - أفروديت (فينوس) 10 - هرمس (ميركوري) 11 - أرتيميس (ديانا) 12 - هيفيستوس (فولكان - البركان) ابن هيرا, ويقال إنه أيضًا ابن زيوس.

          الآلهة الاثنا عشر يطلق عليهم اسم (الثيوغونيا) أي, (الأسرة المقدسة), أما اسم أولمبي فلا وجود له بين الآلهة. وربما كان خطأ في الترجمة أو التأويل وقع فيه الكاتب.

جبال الأوليمبوس

          يقول الكاتب إن الآلهة الاثني عشر الكبار عاشوا فوق جبال أوليمبوس.

          لا يوجد (جبال) تسمى الأوليمبوس عند اليونان, بل هناك جبل واحد اسمه أوليمبوس. وأوليمبوس هو مركز البانثيون اليوناني, حيث يسكن زيوس بصورة دائمة في قمته, مع معظم الآلهة الكبار, أعضاء هذا البانثيون, وتقول الأساطير إن هذا الجبل عال إلى درجة أن قمته مغطاة بالثلج ومعممة بالغيوم, وتصل إلى الأثير. وهو يعتبر أعلى قمة في اليونان, وموقعه على الحدود بين مقدونيا وتساليا. وهذا الجبل أقرب إلى الجبل الأسطوري, حيث يجتمع الآلهة لتعاطي النكتار والإمبروزا, ولا علاقة له بالألعاب الرياضية, التي تنسب إلى أولمبيا, وهي موقع آخر بعيد عن جبل الأولمب.

          هذا من ناحية. أما الناحية الأخرى فهي أنه يرتبط بالأساطير أكثر مما يرتبط بالواقع, وهذا ما استفاد منه ملتون في تقدير المسافة. والحقيقة أن ارتفاع الجبل الواقعي يبلغ 2917م فقط. صحيح أنه أعلى قمة في اليونان, ولكن الخيال الأدبي يعرف مهمته في رسم صورة هذا الجبل حتى تتطابق مع الأساطير.

          أما أولمبيا فهي منطقة أخرى منخفضة. وفي هذه المنطقة هناك واد رأت الأرستقراطية اليونانية أنه يصلح لإقامة الألعاب الأولمبية (نسبة إلى أولمبيا), فأقاموا فيه الباحات والملاعب ومنصات التحكيم وغير ذلك من مقتضيات الألعاب الرياضية, مراعين نوع اللعبة والمسافة التي تتاح للرياضيين حتى يظهروا براعتهم.

          ويقال إن المعابد والمذابح والمقامات هناك سبقت الألعاب الأولمبية, فظهر المقام البسيط بادئ الأمر, ثم ظهرت الألعاب الرياضية تكريمًا لصاحب المقام زيوس. وهناك من يرى العكس أي أن فيدياس صنع تمثال زيوس (إحدى عجائب الدنيا السبع) حتى تكون الألعاب مكرسة لزيوس وبقية الآلهة.

          ومهما كان الأمر فإن جبل الأولمب لا علاقة له بالألعاب الأولمبية.

صورة ناقصة

          قدم الكاتب صورة تفصيلية عن الألعاب الرياضية: أنواعها ومكان ممارستها وعدد المشتركين, تقديمًا تفصيليًا يشكر عليه. ولكنه لم يكمل الصورة, حتى تكون صورة حقيقية تظهر الوجه الواقعي للألعاب.

          والصورة الكاملة هي أنه لا يجوز أن تبدأ المنافسات الرياضية قبل بدء المنافسات المسرحية والفنية من رسم ونحت وموسيقى. وهي صورة تعكس الموقف اليوناني من الحياة, التي لم يروها جسدًا, على الرغم من أنهم أول شعب اهتم بالجسد الإنساني كمجموع أفراد الأمة, وليس الجسد الفردي. لقد رأوا في الحياة تنافسا من أجل السمو.

          ولهذا لا يجوز أن تبدأ المنافسات الجسدية قبل المنافسات الفنية حتى ترتقي الروح وتتهذب, وحتى تتطهر بالثقافة الراقية, وكانت المنافسات الشعرية والمسرحية والموسيقية من أشد المنافسات جماهيرية. وعلى حد علمنا فإننا لا نعرف أن هناك ألعابًا يونانية: أولمبية أو غير أولمبية بدأت قبل أن تبدأ (الألعاب) الأدبية والفنية, فلا الألعاب الأولمبية ولا الألعاب البيثية ولا الألعاب الإستيمية ولا الألعاب النيمية... إلخ كانت تبدأ قبل أن تبدأ المنافسات الشعرية والأدبية والفنية. (في العصر الروماني, وما بعد ذلك صارت الألعاب الرياضية تبدأ دون أن تكون هناك منافسات شعرية وأدبية وفنية).

الفضيلة وأغصان الزيتون

          يرى الكاتب أن الرياضة اليونانية ترمز إلى الفضيلة والسلام, وهو يقتبس ذلك من كتاب (الأولمبياد - دعوة إلى السلام) ولا نجد مثل هذا المفهوم عند الإغريق القدامى أبدًا. إن الرياضة ليست فضيلة, فالفضائل اليونانية معروفة جدًا ومشهورة وهي: العدالة والحكمة والشجاعة والعفة. ولا نعرف فضيلة سوى ذلك أعلن عنها الإغريق, لم يزعموا أن المسرح أو الموسيقى أو الرسم أو النحت أو الرياضة فضائل, بل قالوا إنها وسائل, منها ما هو للثقافة والروح ومنها ما هو للياقة والبدن, وعن طريق هذه الوسائل يمكن قيادة المجتمع إلى ظروف أفضل وحياة أسعد.

          وهي أيضًا ليست سلامًا, بل عندما تجرى كانت تشير إلى أن البلاد في حالة من السلم. والعكس هو الصحيح, فمدارس الرياضة كانت ترمي إلى إعداد المواطن حتى يكون قادرا على الحركة والتحمل في الحرب والأوقات الصعبة, وقد أوغل الرومان في هذه الناحية فصارت الرياضة أقرب إلى الاستعداد الحربي.

          أما قوله: الفضيلة - الرياضة - وحولها أغصان الزيتون, فهو تعبير لا ينطبق على شيء, فالمكان كان مليئًا بأشجار الغار والبلوط (السنديان) والنباتات البرية بمختلف أنواعها. ونعرف ذلك من مغامرات هرقل, البطل الإغريقي الذي قضى على وحوش الغابات و(وحوش البشر). ولم يذكر أحد أن المكان مليء بأشجار الزيتون.

          كان المكان بريًا موحشًا, فجعله رجال الأرستقراطية البارزون مكانًا أليفًا مقدسًا تقام فيه الطقوس الدينية والتقاليد الأدبية والمنافسات الرياضية.

          ما ذكره الكاتب عن أن هذا المكان كان مسرحًا للألعاب الأولمبية صحيح تمامًا, ولكنه لم يكمل المشهد العالمي للأولمبياد, فبعد أقل من قرنين انتشرت الألعاب الأولمبية في العالم المتحضر, فربما لا يتاح للمرء أن يحج إلى هذا المكان (كان نيرون يرفض أن يشترك في سباق العربات إلا في هذا المكان, موبخًا رعاياه بأنهم إن لم يصيروا إغريقًا فلا حياة لهم), لذلك أنشئت أماكن في المدن الكبرى لإقامة هذه الألعاب بكل تقاليدها تقريبًا, (فيما بعد ألغيت المنافسات المسرحية واقتصر الأمر على الشعر والموسيقى). وفي العالم الهيليني (بعد الإسكندر) انتشرت الألعاب الأولمبية في كل الحوض المتوسط, ومنها الإسكندرية التي شهدت أروع الألعاب الأولمبية. ولكن انتشار المسيحية قضى بعنف - لم يعرفه تاريخ ديني سابق - على كل الألعاب الأولمبية أينما وجدت. كان قضاء دمويًا مريعًا استشهد فيه أعظم الرياضيين والشعراء والأدباء والفلاسفة وعلماء الرياضيات والفلك (كهيباتبا الفيلسوفة ومعلمة الكلمة الجميلة والحكمة, حيث اقتيدت إلى الكنيسة وعريت وقطعت إربًا وطافوا بنتفها في الإسكندرية مهللين بإعلان نهاية الوثنية) ودمرت أماكن الألعاب والمعابد والمقامات,وبذلك انتهت الرياضة والنهر والحمامات والنظافة والأقنية والغابة والوادي المقدس والفكر والمنطق وأشياء أخرى كثيرة, وانخرطت البشرية في حمامات تطهير (الروح), والبحث في حياة أهل القبور ودنيا الآخرة.

          إن تحريم الألعاب الأولمبية فتح باب تاريخ جديد كله يدور حول البحث في سكان العالم الآخر, وتحليل طبيعة الجن والملائكة والعفاريت والأبالسة, ومع ذلك كانت التجربة القديمة من القوة, بحيث فرضت نفسها على البشرية بعد أن صحت من حماقتها, فراحت تحاول أن تعيد المنافسة إلى ميدانها الصحيح: ميدان التنافس على السمو, وليس على الدناءة.

 

حنا إبراهيم عبّود   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




هنا أقيمت أول دورة أولمبية قبل 2800 عام